بين المزمل و المدثر

بقلم سفيان ابو يزيد

قيام التزود وقيام التمدد

جاءت هاتان السورتان كالصنوين والتوامين

كلا الكلمتين تدلان على التغطية واللباس والتدفيئ والنوم
إلا أن كل لفظة تختص بمعان تميزها عن الأخرى مناسبة لسياقها القرآني، وهذا ما غفل عنه كثير من الناظرين في الآي تفسيرا، وما ينبغي ان تهتم به الدراسات القرآنية، وهو ما يمكن أن أسميه “مراتب المعاني” او “مقاصد المعاني”، فقد نجد اللفظ الواحد يدل على معان عدة ولكنها على مراتب في دلالته عليها سواء في دائرة الحقيقة أو في دائرة المجاز، وبالتالي علينا أن نحاول تحديد وترتيب تلك المعاني حتى نصل إلى سر اختيار ذلك اللفظ في ذلك المكان وذلك السياق مع ظهور ترادفه مع لفظ آخر استعمل في سياق شبيه..

فالاهتمام بمراتب المعاني في التدبر والتفسير أمر ضروري مطلوب لنتذوق درجة الإحكام التي نزل بها وعليها القرآن..
ومن ذلك قوله تعالى ( يا أيها المزمل ) و ( يا أيها المدثر )
فالتزمل والتدثر يشتركان في معنى التغطية واللباس والتدفيئ والنوم فالمزمل والمدثر الذي غطى نفسه ودفأها وغالبا ما يكون ذلك في الليل وعند النوم..

إلا ان التزمل يتميز بمعنى هو من مقاصده وفي مراتبه الأولى وهو الخفاء والإخفاء، والتزمل عادة يكون بالملابس التي تلي البشرة، وهذا مناسب لسياق الآية الذي جاء بعده الأمر بقيام الليل، فالليل يناسبه الخفاء والإخفاء وهو إشارة إلى أن الأمر الأول الذي جاء بوصف التزمل المقصود منه إصلاح الدواخل والبواطن، وما يلي البشرة من السلوكات والأفعال وأعمال القلوب مشاعرها ومواقفها، ومطهر ذلك الباطن ومنظفه هو العبادة والقيام التضرعي التأملي (قم الليل) فكلما قمت معترفا متضرعا خاضعا إلا وظهرت لك حقائق نفسك وخفاياها فبادرت إلى إصلاحها وتطهيرها وتطويرها، وباقي سياق الآيات يدور في فلك إصلاح الباطن وتطهيره، والوقوف مع الذات والاعتراف والاعتذار والاستمرار..
فهذا القيام قيام ” التزود ”

وفي قوله تعالى ( يا ايها المدثر ) فالتدثر يتميز ومعنى الظهور والجمال والنظام والترتيب والتخطيط والإصلاح والتقصيد، فالدثار هو ما يعلو الثياب ويجملها ويمثلها في الخارج والظاهر..
وهذه المعاني لا تسعفها كلمة (المزمل) وهي مناسبة للامر بالقيام الذي جاء بعدها، (قم فأنذر) فالإنذار يحتاج إلى ظهور ووضوح وجمال وتنظيم وترتيب وتخطيط وإصلاح ووضع غايات ومقاصد، حتى يصل ذلك الإنذار ويستمر وتبلغ رسالته ويقتنع بفكرته ويرغب في العيش في حياضه، ولم يقل له ( قم فبشر ) لأن المقام مقام جد وتنبيه وتحميل وتحمل للمسؤولية (وربك فكبر) والتكبير عندنا شعار دثار، وفيه بيان ربانية هذه النذارة ووضوح منهجها واصولها ومصادرها ومزوداتها، (وثيابك فطهر) وهي محمولة على أصلها وظاهرها وهي طهارة المظهر وأناقته وجاذبيته وأخذه بالعقول الحكيمة والقلوب السليمة..
(والرجز فاهجر) فالطهارة والتطهير لا تجتمع مع النجاسة والترجيز، فهجران اي رجز مادي ومعنوي مطلوب مرغوب لمن اراد ان يحمل هذا اللواء والدثار..

وهذا القيام قيام “التمدد”

فالقيام هنا قيام حركة وإصلاح وتغيير ونذارة فكان يا ايها المدثر مناسبا له
والقيام في الاول قيام بناء وإصلاح وصيانة وإعداد فكان ( يا ايها المزمل ) مناسبا له
والحديث في الثاني حديث عن الظاهر والحركة والدعوة والنذارة والمظهر فجاء الوصف مناسبا له
وفي الاول حديث عن الباطن والذات والمخبر، فجاء الوصف مناسبا له
إنه القرآن كتاب أحكمت آياته

والله أعلم

شاهد أيضاً

ثورة في الجامعات الأميركية

طلاب جامعة كولومبيا بأميركا يتظاهرون احتجاجًا على حرب الإبادة الجماعية التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين في غزة