كل الأطفال فلاسفة.. لماذا يصوغ الصغار الأسئلة المدهشة الأكثر عمقا؟

في الثلاثين سنة الماضية حدثت ثورة في فهمنا العلمي للأطفال والرضع، وهي ثورة حوّلت أيضا فهمنا للطبيعة البشرية نفسها، ويتبنى العديد من المفكرين حق الطفل في التفلسف باعتباره تفكيرا نقديا ينبني على التساؤل ويعزز قدرات التفكير وإعمال العقل، في عالم غدت فيه النزعة الرقمية طاغية على جل الأنشطة المتعلقة بالأطفال بدلا من التأمل والتفكير وإدراك العالم.

ويتمتع الأطفال بقدرة كبيرة على طرح أسئلة فلسفية، من أمثلة “لماذا نحن على الأرض؟” و”أين كنا قبل أن نولد؟” و”ما الهدف من الحروب؟”، ومع ذلك لا يتم تدريس الفلسفة -في الغالب- إلا في السنة الأخيرة من التعليم الثانوي، رغم أهمية توجيه الأطفال في تفكيرهم منذ سن مبكرة.

بهذه الكلمات الأخيرة، افتتحت صحيفة ليبراسيون (liberation) الفرنسية مقابلة بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، الذي حل في 19 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، مع أستاذة الفلسفة الفرنسية إدويج شيروتي، دعت فيها إلى ممارسة هذا التخصص للصغار من أجل تدريبهم على اكتساب عقل نقدي.

وقالت الفيلسوفة -وهي محاضرة بجامعة نانت وحاملة كرسي اليونسكو للفلسفة مع الأطفال- إن الطفل يمكن أن يشارك في الفلسفة بمجرد أن يبدأ بطرح الأسئلة على نفسه وبمجرد أن يتمكن من التعبير عن دهشته أمام العالم، وذلك مع نهاية مرحلة روضة الأطفال في سن الرابعة أو الخامسة، عندما يتساءل الأطفال عن الموت والشر والحب والعدالة.

أسئلة فلسفية استثنائية
وأوضحت الفيلسوفة أن الإنسان كلما كان أصغر، طرح هذه الأسئلة مباشرة ودون رقابة ذاتية أو خوف من أن يبدو كالأحمق، فضلا عن أن الأطفال يمكنهم طرح أسئلة محرجة عن العالم من حولهم لا يجرؤ الكبار على طرحها أو طرحها على أنفسهم.

وكدليل على أن الأطفال قادرون على صياغة أسئلة فلسفية استثنائية، قالت الفيلسوفة إن طفلا سألها منذ وقت ليس ببعيد في الصف الثالث الابتدائي، سؤالا عظيما عن الفضيلة والسعادة، قائلا “هل يمكننا أن نكون سعداء ونحن في الوقت نفسه أشرار، وهل الأشرار في النهاية أكثر سعادة من الأشخاص الجيدين؟!”.

وعند السؤال هل الإنسان فيلسوف بالطبع؟ قالت شيروتي إن الطبيعة الإنسانية تقتضي أن يطرح الإنسان على نفسه أسئلة ميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة) كونية وخالدة وتتجاوز الواقع المادي، ولكن القدرة على استعمال العقل ليست فطرية، كالتفكير النقدي والجدل والتحليل، بل هي قدرة مكتسبة تحتاج للتعلم، وبالتالي لا يمكن للأطفال أن يفعلوا ذلك بمفردهم ولا بد من توجيههم مبكرا.

ودون عقل نقدي -تقول الفيلسوفة- يمكن للمرء أن يقع فريسة للأخبار الكاذبة والشعبوية والرؤية غير الدقيقة، وبالتالي فالفلسفة هي رافعة للحياة الديمقراطية، مما يعني أن تعلُّم التفكير هو جوهر الديمقراطية، لأن هذه الأخيرة لا يمكن أن تعيش إلا إذا كان مواطنو المستقبل قادرين على ممارسة التفكير النقدي.

ولا يعني هذا -حسب شيروتي- أنه من الضروري أن يبدأ درس الفلسفة قبل وقت طويل من السنة الأخيرة من التعليم الثانوي، ولكن يمكن أن يكون لها مكان أكثر وضوحا في سياق التربية الأخلاقية والمدنية، بإعطاء حوافز لمناقشات يمكن وصفها أحيانا بأنها فلسفية.

التواضع واحترام الذات
وأشارت الفيلسوفة إلى أن الأمور بدأت تتغير، وأن ما كان قائما من رفض الفلسفة مع الأطفال لم يعد موجودا، وأن الفلسفة بدأت تكسب الشرعية، حتى لدى الرأي العام وإن كان الناس لا يزالون يرونها بعيدة المنال.

أما عن تعليم الفلسفة للصغار، فترى الفيلسوفة أن هناك العديد من الطرق، حيث تمكن دراستها من خلال وسائط ثقافية كالحكايات والأساطير أو حتى مقتطف من فيلم.

وعلى سبيل المثال، تقترح شيروتي على الأطفال قراءة قصة ووضع أنفسهم في مكان الشخصية، فتضع الأطفال في موقف من خلال سؤالهم عما سيفعلون بحلقة “جيج” هذا الراعي الذي يجد خاتما يجعله غير مرئي، وهذا يسمح بظهور الأسئلة والمعضلات الأخلاقية ومن هناك تمكن مناقشتها.

وهذا يساعد فيما تسميه الفيلسوفة “هرولة الدماغ” التي تجعله أقوى، لأنه من الصعب أن يتعلم المرء بنفسه كيف يفكر، مما يستدعي التدريب، وهكذا يتعلم الأطفال بأناة تقديم الحجج لتوضيح جوانب القضية ثم كيف يناقشونها.

وبما أن الفلسفة لا توجد فيها إجابة أحادية، يجد الأطفال أن عليهم أن يتقبلوا ضعفهم، وأنه لا بأس بعدم المعرفة والشك والاختلاف.

وختمت شيروتي بأن الفلسفة تعلم الأطفال التواضع في مواجهة الأسئلة الكبرى مثل العدالة أو الحقيقة، كما أنها تمنحهم احترام الذات، وتظهر لهم أنهم قادرون على التفكير بأنفسهم وأن لديهم الحق في طرح أسئلة حول العالم بغض النظر عن أعمارهم.

القصص كنصوص فلسفية
يرى عالم النفس والفيلسوف السويسري الشهير جان بياجيه (1896-1980) في نظريته للنمو والبناء المعرفي أنه قبل سن 12 من عمر الإنسان يكون معظم الأطفال غير قادرين على التفكير الفلسفي، لأنه قبل هذا الوقت -بحسب بياجيه- يكون الأطفال غير قادرين على “التفكير في التفكير”، وهو نوع من التفكير العميق الذي يميز التفكير الفلسفي.

ومع ذلك، ترى مجموعة كبيرة من البحوث النفسية والفلسفية الحديثة أن فكرة بياجيه تقلل بشكل خطير القدرات المعرفية والفلسفية الهائلة للأطفال، بحسب تقرير سابق للجزيرة نت.

ويتبنى الفيلسوف الأميركي غاريث ماثيوس وجهة نظر مغايرة تماما، ويسرد في كتابه “فلسفة الطفولة” إمكانات فلسفية مختلفة وكبيرة “للأطفال الفضوليين”، ويرى الطفولة كمجال وزمن للبحث الفلسفي.

ويرى ماثيوس أن بياجيه فشل في رؤية التفكير الفلسفي واضحا لدى الأطفال، مقدما عددا من الأمثلة الواضحة مثل سؤال بسيط من طفل لأبيه مستفهما “كيف يمكننا التأكد من أن كل شيء ليس حلما؟”.

في المقابل، يرى كثير من الباحثين أن إمكانات الأطفال في التفكير الفلسفي عالية للغاية بفضل قدرتهم الواسعة على الخيال، والأهم عدم إمكانية تمييزهم بين الحقيقة والخيال وبين مزيج الدهشة والفضول غير العادي.

وتستخدم قصص الأطفال كأمثلة معتادة في دروس الفلسفة، وبحسب بيتر وورلي مدير مؤسسة الفلسفة البريطانية والباحث الأكاديمي بجامعة كينغز، فإن أسئلة من قبيل “هل الجمال في عين الرائي موضوعي أو ذاتي، وهل الحياة تستحق العيش فيها، وهل يجب على القائد إخفاء الحقيقة لإنقاذ الأرواح؟ تعد شائعة في دروس الفلسفة وقصص الأطفال على حد سواء.

ورغم أن القصص تستخدم بانتظام كأدوات تعليمية فإنه غالبا ما يتم التغاضي عن إمكانات التفكير الذي تجلبه معها، مع أن مفتاح التفكير هو استثارة الجمهور، وهو ما تقوم به القصة بكفاءة، بحسب مقال وورلي في صحيفة غارديان البريطانية.

وتفتح القصص المزيد من الخيالات وتثير نقاط التوتر، وتساعد على التفكير في البدائل المتاحة مع وضع مسافة حماية بين الجمهور التي يفكرون فيها.

وهكذا تبدو أسئلة الأطفال البريئة ودهشتهم الفضولية كمادة فلسفية دسمة يحاول الفلاسفة تقديم إجابات عنها، في حين يسائل الأطفال الحياة فلسفيا ببساطة واستمرار وكأنهم فلاسفة هذا العصر وكل العصور.

المصدر : الجزيرة + الصحافة الفرنسية + ليبيراسيون

شاهد أيضاً

كل ما تحتاج معرفته عن حراك الجامعات الأميركية

محمد المنشاوي واشنطن- عرفت الجامعات الأميركية مؤخرا حراكا طلابيا واسعا احتجاجا على العدوان الإسرائيلي على …