في ذكرى مجزرة كفر قاسم: شاهد عيان يقدم رواية تفوّق الواقع على الخيال والحياة على الموت

رغم تفشي عدوى كورونا، أحيي أهالي مدينة كفرقاسم داخل أراضي 48 الذكرى الرابعة والستين للمذبحة التي اقترفتها القوات الإسرائيلية في مثل هذا اليوم من عام 1956، في محاولة لطرد من تبقى من الفلسطينيين في الداخل واستكمال تطهير البلاد عرقيا، وذلك تحت غطاء دخان “العدوان الثلاثي” على مصر.

وشارك الأهالي في مسيرة انتهت عند النصب التذكاري لشهداء المجزرة البالغ عددهم 49 شهيدا، علاوة على عدد من الجرحى. وأكد رئيس البلدية المحامي عادل بدير، أن فلسطينيي الداخل لن ينسوا ولن يغفروا لمن كان مسؤولا عن هذه المذبحة، منوها أن إسرائيل لم تعترف بعد، ولم تتحمل مسؤوليتها عنها رسميا. وترحّم بدير على الشهداء، وأشاد بالأهالي الذين واجهوا مخططات الترحيل وبنادق القتلة وصمدوا وبقوا وهم نازفون.

توريث الرواية

وحثت لجنة متابعة قضايا التعليم العربي، المنبثقة عن لجنة المتابعة العليا، أعضاءَ الهيئة التدريسية والمدارس ومديريها ومعلميها، على إحياء ذكرى مناسبة مجزرة كفر قاسم الـ64، مع الطلاب عبر الوسائل المتاحة. وأرفقت اللجنة عدة محتويات مرئية لتساهم في عمليّة التوعية حول إحياء ذكرى المجزرة وصيانة الرواية التي تعتبر جزءا من الرواية التاريخية الفلسطينية.

وأكدت “اللجنة الشعبية ” في كفر قاسم على حيوية نقل الرواية من جيل إلى جيل، كون ما جرى مجزرة إسرائيلية وملحمة صمود فلسطينية، داعية إلى إحياء هذه الذكرى الهامة بأنشطة تربوية تلائم ظروف المرحلة وتساهم في تعريف الطلبة على أحداثها ومعانيها وشهدائها والمشاركة في النشاطات المحلية والقطرية المتعلقة بهذه الذكرى.

ويوضح المؤرخ البروفيسور مصطفى كبها لـ”القدس العربي” أن إسرائيل حاولت من خلال مجزرة كفر قاسم تهجير 145 ألف فلسطيني بقوا في النقب والمثلث والجليل والساحل، ضمن “الدولة اليهودية” كي تكون يهودية اسماً على مسمى. منوها أن مجزرة كفر قاسم ترمز لقسوة وطغيان السلطات الإسرائيلية في فترة الحكم العسكري الممتدة منذ النكبة إلى نهاية 1966، وفيها سامت فلسطينيي الداخل شتى صنوف التنكيل والاعتداء والحرمان.

وتابع: “مع ذلك صمدوا وثبتوا فوق أراضيهم رغم القتل المروع على مداخل قرية كفر قاسم التي عدت وقتها 1200 نسمة واليوم يتجاوز تعدادها 30 ألف نسمة وبذلك رمزية كبيرة”. وردا على سؤال قال كبها إن مذبحة كفر قاسم من هذه الناحية وبكل دلالاتها لم تحظ بالمكانة المستحقة في الذاكرة الجماعية العربية والفلسطينية مشددا على ضرورة نقل روايتها للأجيال القادمة.

وقائع المجزرة

تاريخيا وفي 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1956، فتح عناصر حرس الحدود الإسرائيلي النار على المواطنين العائدين إلى منازلهم في قرية كفر قاسم بعدما أعلنت القوات الإسرائيلية عن “منع تجول” قبل ساعة فقط من انتهاء توقيته، ليتضح لاحقا أن منع التجول كان تغطية وتمهيدا للمذبحة. وفعلا لم يعلم الأهالي بـ”أمر التجول” خاصة في فترة لم تتوفر فيها وسائل اتصال تكنولوجية، وكانوا بمعظمهم في كروم الزيتون، فقتلت قوات حرس الحدود العائدين إلى بيوتهم عند مساء ذلك اليوم، فتراكمت جثث الرجال والنساء والأطفال الذين أمر القائد الإسرائيلي بحصدهم، إذ قال لجنوده وفق شهادات بعض الناجين: ” كل من يصل إلى هنا.. الله يرحمه”، فقتلت قوات حرس الحدود الإسرائيلية العشرات.

ويقول النائب عن المشتركة وليد طه، لـ”القدس العربي”: “شاركنا الأهالي في كفرقاسم اليوم وزدنا حبا وتقديرا لها، فالمدينة تشارك رجالا ونساء وطلاب وطالبات بفعاليات ذكرى ملحمة كفر قاسم. مات القتلة وبقيت كفر قاسم وصمدت واحترمت وصية الشهداء ووصية الرئيس العراقي الراحل عبد الكريم قاسم الذي قاتل فيها دفاعا عنها عام 1948 مع الجيش العراقي وصية البقاء في وطن لا وطن لنا سواه”.

المثلث الكبير

ويرى طه أن المذبحة كانت محاولة لتهجير كفرقاسم وكل المثلث الفلسطيني، داعيا إسرائيل للاعتراف بما اقترفته أيديها وتحمل المسؤولية والاعتذار لأهالي المدينة ولكل العرب والفلسطينيين خاصة في منطقة المثلث، مذكرا بالمحاكمة الصورية للمجرمين وإطلاق سراحهم، وبأن التعليمات صدرت عن المستوى السياسي بينما حوكم الجنود وهؤلاء تلقى بعضهم حكما مضحكا.

يشار إلى أن منطقة المثلث من أم الفحم إلى كفر قاسم اكتسبت تسميتها لكونها جزءا من المنطقة الجغرافية الأم في الضفة الغربية التي حملت نفس اسم المثلث وهي المنطقة الواقعة بين المدن الثلاث جنين، طولكرم ونابلس. ظلت تحمل اسم الأم المثلث بعد تسليمها في اتفاقية الهدنة في رودوس عام 1949 لإسرائيل من الأردن المسيطرة على الضفة بعد نكبة 1948 حتى 1967.

ويستذكر وليد طه أن كفرقاسم حوصرت من ثلاث جهات خلال المجزرة حتى يهرب الأحياء من الجهة الرابعة (الشرقية) نحو الضفة الغربية، لكن أهالي البلدة صمموا على الثبات والبقاء رغم النزيف. وتابع: “هذه ملحمة بقية شقيقاتها العربيات. كفر قاسم قررت البقاء وجهها للبحر وظهرها للجبل حيث أكبر مستودع مياه جوفي في البلاد، وينبع منه نهر العوجا الذي صار نهر اليركون، وفي مياهه تتدفق الحياة دون انقطاع، فهي أقوى من الموت وصناعه. رواية كفر قاسم أمانة نتوارثها جيلا بعد جيل.. كفر قاسم تنادى أهلها وقتها وقرروا رغم الحصار والعزل والاستفراد أن تبقى وتصمد، فنجت من بين مخالب الوحش الإسرائيلي، وصارت رمز البقاء والصمود في الوطن، ولذا فالأصح تسميتها ملحمة كفر قاسم، فهي أبعد من مذبحة وهي قصة صمود حقيقي أفشل سيناريو جديدا لدير ياسين”.

وهذا ما يؤكده المؤرخ كبها وسبق أن أكد زميله المؤرخ دكتور عادل مناع على ملحمة صمود فلسطينيي الداخل، وبقائهم وتطورهم كماً وكيفاً رغم الظلم الإسرائيلي البشع، وذلك في كتاب صدر له قبل سنوات بعنوان “نكبة وبقاء”.

شاهد عيان

ويروي الشيخ أحمد عمر رابي أبو محمد (81 عاما) لـ”القدس العربي” بعض ما تختزنه ذاكرته الفولاذية عن كل ما جرى، محاولا بعناء إخفاء مشاعره وانفعالاته. وعاد أبو محمد للبلدة من العمل في كروم التفاح في ذلك اليوم الأسود، وفي الطريق التقى صديقه عطا يعقوب يقود شاحنته فركبها معه سوية مع عبد الرحيم سمير بدير وآخرين.

ويستذكر سماعه إطلاق رصاص عند بلوغهم مشارف كفر قاسم، وسرعان ما اعترضهم ثلاثة جنود قبالة حاجز عسكري وطلبوا منهم بصوت عالٍ النزول من الشاحنة. ويتابع: “كنت أول من نزل، وبادرت لسؤال الجندي: هل تريد بطاقات الهوية فصرخ في وجهي: أغلق فمك وأبق بطاقتك في جيبك وسرعان ما سمعت الضابط يأمر بالعبرية: أحصدهم. فتح جندي نار بندقيته الرشاشة نحونا وقد تمكنت من معرفته، فهو أبو عبد الله الشركسي، وشاهدت الطفل رياض رجا ابن الثامنة يخر من الشاحنة قتيلا، فسادت حالة فوضى ورعب وعلت أصوات الفزع والوجع والأنين، فيما كنا نتدافع كالمجانين وأصيب صديقي عطا برصاص في بطنه ومن “حلاوة الروح” قفز نحوي وتمسك بي من الخلف فسقطت أرضا وشج رأسي لسقوطي على صخرة حتى غطى الدم وجهي. ويوضح أبو محمد الذي يرتدي السواد كما في كل يوم من هذه المناسبة، أنه تظاهر بالموت وكانت يده قد علقت تحت جثمان صديقه عطا وكان يحسّ دمه الساخن “كالنار” يسيل على يده.

أحمد رابي

ساعة الإعدام لحظة بلحظة

يضيف الشيخ رابي وهو في حالة تركيز يستعيد خلالها اللحظة وكأنه في فيلم: “بعد جلبة الأنين وصرخات الاستغاثة ولفظ الأنفاس من قبل نحو 30 شخصا من كفرقاسم في مشهد يشبه صورة الأغنام الفزعة وهي تساق للذبح، ساد هدوء مطبق في المكان. فتحت طرف عيني وشاهدت قدمي جندي إسرائيلي وبندقيته من طراز (برن) فيما كان القائد يقول له: تثبت من موتهم برصاصة في رأس كل منهم. في تلك اللحظة قررت أن انتفض وأهجم علي الجندي وانتزع سلاحه وأثأر، لكن يدي أصيبت بالخدر جراء ثقل جثة عطا، فخفت أن تخونني ويفتضح أمري وعندما بلغ ناحيتي أطلق رصاصة نحو رأس عطا وغطاني بريق أخضر جراء النار، وأطلق رصاصة أخرى نحوي فأصابتني بالرأس في مقدمة جبهتي واخترقت غلاف جمجمتي فسالت دمائي وبدوت ميتا. بعد لحظات سحبت يدي العالقة وقفزت هاربا نحو زقاق بين أشجار الصبر المجاورة للطريق، ففتحوا نيرانهم نحوي وكنت أسمع أزيز الرصاص يمر على بعد سنتيمترات مني. دست على الصبار ولم أكترث بأشواكه طلبا للنجاة ونجوت بأعجوبة.

ونجح أبو محمد بالهرب وشاهد عن بعد مركبة يستقلها محمود خضر صرصور، ويوسف اسماعيل صرصور، فسارع مهرولا نحوهما لتحذيرهما والهرب سوية من المكان، لكنه سقط أرضا من الإرهاق فأكمل المذكوران سيرهما نحو الفخ واستشهدا برصاص الجنود عند مدخل البلدة.

ويقول الناجي من المجزرة، إنه دخل مغارة معتمة وظل فيها حتى الفجر وكان يحاول وقف النزيف بوضع الطين على رأسه وفي الصباح التقى حارسا عربيا في تخشيبة كان يعرفه من قبل، فساعده بعدما تظاهر بأنه تعرض لحادث سير.

وتابع: “أدركت وقتها أنني الناجي الوحيد من المجزرة، وأن الكشف عما حدث ربما يعرضني للقتل كي لا يبقى مخبرا. ولما ارتبت به هربت من التخشيبة وسرت على الأقدام نحو الكروم ومكثت ثلاثة أيام فيها دون طعام حتى شاهدت ابن بلدي عوني طه يقود مركبته، فاستوقفته ولم يكن يدري عن المجزرة. لبى طلبي بشراء الطعام لي ونقلني إيلى يافا دون أن أخبره بالحقيقة”.

صيدلية يافا

في يافا دخل أبو محمد صيدلية الكمال للراحل فخري جدي، الذي داواه تطوعا ولم يخبره هو الآخر بالحقيقة. ويضيف متسائلا: “كنت من شدة الصدمة خائفا من حالي، فكيف أبلغه؟ وبعد أيام عاد من يافا وصديقه عوني لأقاربه في القرية المجاورة جلجولية، وحينما شاهده يوسف رابي رئيس المجلس المحلي لاحقا سقط أرضا وكاد يغمى عليه، ولما استعاد عافيته قال منفعلا: “لقد دفنتك بيدي فكيف عدت من القبر؟”.

ويوضح أبو محمد أن الأمور اختلطت على يوسف لأن فتى يشبهه يدعى أحمد جودي استشهد في المجزرة. ويكشف أنه طلب منه تبليغ أقاربه بأنه حي يرزق لكنه فضل العودة إلى يافا لا سيما أنه كان يتيم الأب والأم منذ طفولته المبكرة. ويضيف: “طيلة سنوات لم أقوَ على الرجوع إلى كفر قاسم خوفا، وكنت أكتفي بالتسلل مرة في السنة ليلة الذكرى لأضع باقة ورد على أضرحة أصدقائي وأقربائي الشهداء خاصة صديقي غازي محمود درويش، وبنت شقيقتي فاطمة صرصور التي استشهدت وهي حامل بالشهر الثامن ثم أعود إلى يافا”.

ولم يبادر أبو محمد لزيارة المستشفى حتى اندمل الجرح في رأسه بشكل طبيعي بعد شهور من الإصابة، فاستقر في يافا. وفي أحد الأيام قرر اغتيال “شدمي” قائد القوة الإسرائيلية التي نفذت المذبحة، فبحث عنه في مقاهي تل أبيب والقدس بناء على معلومات وصلته ولكن دون جدوى.

بيد أن الصدفة جمعته بعد سنوات مع الجندي الشركسي إياه، وعن ذلك قال: “في أحد مقاهي تل أبيب شاهدت مسنا يحمل عكازا فعرفته، ولما سألت صاحب المقهى للتأكد، أبلغني أنه كان جنديا في حرس الحدود، فتقدمت منه وقلت له كيف حالك أبو عبد الله بالعربية فارتعب وسارع للسؤال: وكيف تعرفني؟ فقلت: أنا من كفر قاسم. فصار يرتجف وما لبث أن غادر المكان بحالة يرثى لها”.

أبو البنات

ويكشف أبو محمد أن يوم ميلاده يصادف ذكرى مذبحة كفر قاسم، فقد ولد في 29.10.1939 ولذا فإن بناته يحتفلن به مرتين في اليوم التالي، باعتبار أنه ولد مرتين لنجاته من الموت المحتوم.

كما يكشف أنه تزوج في يافا التي لجأ لها بعد المذبحة من امرأة يهودية بعدما أسلمت وأنجب منها سبع بنات، وصار يكنّى بأبو البنات كما يقول متوددا، وله منهن 15 حفيدا.

ويرفض الكشف عن أسمائهم الكاملة، لكنه يقول إن اثنتين من بناته عربيتان والخمس الباقيات يهوديات لأن أمهن عادت لليهودية بعد سنوات. وعن ذلك يقول: “كان والد زوجتي يحبني ويحترمني، وقبل وفاته طلب مني أن ألبي أمنيته بالسماح لها بالعودة لديانتها ففعلت، وتطلقنا عن حب ورضا، وما زلت أحب واحترم كل بناتي وأحفادي، فهم جميعا يتكافلون معي ويشاركونني حتى اليوم بإحياء ذكرى كفر قاسم. وفي مطعمي الذي أدرته في يافا كنت أروي لزبائني اليهود وبعضهم كان يفاجأ ويصدم بروايتي”.

هناك من يقول إن أهالي كفر قاسم وجاراتها كانوا سيهربون بعد المجزرة لولا أوامر حظر التجول. سألنا أبو محمد فنفى ذلك قطعا وقال: “كانت الجهة الشرقية في البلدة مفتوحة وكان يمكن للناس أن يتركوها. وقتها كانت كفر قاسم تعد 1200 نسمة واليوم تعد نحو 30 ألف نسمة وهذه أهم عبرة للملحمة، ملحمة البقاء”.

شاهد أيضاً

ثورة في الجامعات الأميركية

طلاب جامعة كولومبيا بأميركا يتظاهرون احتجاجًا على حرب الإبادة الجماعية التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين في غزة