منبرُ الحَرَم والتّيسُ المُستَعار

بقلم : محمد خيري موسى

لم يكن منبر المسجد الحرامِ والمسجد النبويّ حرًّا منذ أنشب حكّام آل سعود أظفارهم بالحكم، لكنّه منذ أن علا ابن سلمان على رقاب العباد والحرمين ومنبرهما وكلّ ما يتعلّق بهما من حجّ وعمرة وزيارة رهن الاختطاف التّام.
وهكذا هو حال المنبر في عموم البلاد التي يحكمها الاستبداد خاضعٌ لتوجيهات “وليّ الامر” والغرف الأمنيّة المغلقة، غير أنّ الأمر يغدو في غاية الخطورة حين يتعلّق الأمر باختطاف منبر الحرم المكّي حيثُ الكعبةُ المشرّفة قبلة المسلمين جميعًا ومحطّ أنظارهم ومهوى أفئدتهم.
وكون منبر الحرم مختطفٌ فعلينا التّعامل مع كلّ ما يقولُه خطيبُه على أنّه تعبيرٌ دينيّ عن الإرادة السيّاسيّة للحكم في السّعوديّة، فخطيبُ الحرم اليوم هو النّاطق الدينيّ باسم محمّد بن سلمان والمشرّع لأجنداته ونزواتِه السّياسيّة.

• المُحلّل والمُحَلَّل له

يأبى الشّيخ عبد الرّحمن السّديس الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي وإمام وخطيب الحرم المكي الشريف إلّا أن يمارسَ دورَ التّيس السّياسيّ والدّينيّ المُستعار
والتّيسُ المستعارُ هو مصطلح أطلقَه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على رجلٍ تزوَّج من امرأةٍ طلَّقها زوجُها ثلاث مرات فحرمت عليه، والغرض من هذا الزواج هو مجرّد تحليل العلاقة بين هذا الرّجل وطليقته لا أكثر.
وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “ألا أُخبرُكم بالتَّيسِ المُستعارِ؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ؛ قال: هو المُحَلِّلُ؛ لعن اللهُ المُحلِّلَ والمُحلَّلَ له”
وهذا تمامًا هو الدّور الذي قبل الشّيخ عبد الرّحمن السّديس على نفسِه أن يكونَه، فهو يمارسُ تحليلَ العلاقة الحرام بين ابن سلمان وابن زايد والكيان الصّهيونيّ ولا هدفَ له من استحضار النّصوص الشّرعيّة واجتزائها ولَيّ أعناق النّصوص إلّا ممارسة هذا التّحليل بأبشع صوره ومكائده.
ولئن كان الرّجل الذي يحلّلُ علاقةً حرامًا بين رجلٍ وامرأة ملعونًا هو ومن يمارسُ لأجله مكيدة التّحليل؛ فإنّ مَن يحلّلُ علاقةً حرامًا بين الكيان الصّهيونيّ والبلاد الإسلاميّة وحكّام الجور فيها مستخدمًا منبر المسجد الحرام لممارسة مكيدة التّحليل؛ أولى باللّعن هو ومن يحلّل له.

• تحريفُ الكَلمِ عن مواضعه

لا شيءَ أقبحُ من التّأكّلِ بالدّين على موائد السّلاطين، ولا شيءَ أبشعُ من اللّعب به إرضاءً لأهواء الحكّام الظَّلمة، وإنّ الفاجرات اللواتي يتأكّلنَ بالفجورِ المفضوح هنّ أقلّ قبحًا وخطرًا ممّن يلعبون بالدّين ليأكلوا به ثمنًا قليلًا.
ومن صور اللّعب بالدّين التي يمارسُها التّيسُ المُستعار تحريفُ الكلمِ عن مواضعه، واستخدامُ النّصوص الشرعيّة من آيات القرآن الكريم والسنّة النبويّة المُطهّرة بطريقة مجتزأة انتقائيّة، وتنزيلها على واقعٍ لا يشبهها، وتسخيرُها لخدمة الأجندات والأهواء، فإن لم يكن هذا هو تحريفُ الكلم عن مواضعه الذي ذمّه الله تعالى في كتابه الكريم فما هو التّحريفُ إذن؟!!
وقد بيّن الله تعالى أنّ تحريفَ الكلم عن مواضعه هو سجيّة اليهود وأسلوب أحبارِهم في الطّعن بالدّين؛ فقال جلّ وعلا: “مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا” النّساء: 46
وقال تعالى أيضًا: “فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” المائدة: 13

وقد بيّن سيّد قطب في “الظّلال” أنّ هذا حال علماء السّلطان في كلّ زمان فقال معلّقًا على الآيات التي تتحدّث عن تحريف الكلم عن مواضعه:
“لقد بلغ من التوائهم، وسوء أدبهم مع الله عز وجل أن يحرّفوا الكلام عن المقصود به، والأرجح أن ذلك يعني تأويلَهم لعبارات التّوراة بغير المقصود منها، وذلك كي ينفوا ما فيها من دلائل على الرّسالة الأخيرة”

ثمّ يقول: “وتحريف الكلم عن المقصود به ليوافق الأهواء؛ ظاهرةٌ ملحوظةٌ في كلّ رجالِ دينٍ ينحرفونَ عن دينِهم، ويتّخذونه حرفةً وصناعةً يوافقون بها أهواء ذوي السّلطان في كلّ زمان، وأهواء الجماهير التي تريد التّفلّت من الدين، واليهود أبرع من يصنع ذلك. وإن كان في زماننا هذا من محترفي دين المسلمين من ينافسون ــ في هذه الخصلة ــ اليهود ”
وكذلكَ بيّن الإمام ابن عاشور في تفسيره “التّحرير والتّنوير” حال أهل الأهواء من العلماء والدّعاة وهو يتحدّث عن معنى التحرّيف فيقول:
“وهو هنا مستعملٌ في الميل عن سواء المعنى وصريحِه إلى التّأويل الباطل، كما يقال: تنكّب عن الصراط وعن الطريق إذا أخطأ الصّواب وصار إلى سوء الفهم أو التَّضليل، فهو على هذا تحريفُ مراد الله في التّوراة إلى تأويلاتٍ باطلة، كما يفعل أهل الأهواء في تحريف معاني القرآن بالتأويلات الفاسدة”
وهذا تمامًا ما يفعلُه السّديس على منبر الحرم المكّي حينَ يتحدّث عن التّسامح في الإسلام مع أتباع الدّيانات الأخرى وتسامح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مع اليهود ويُسقط الأدلّة من الآيات والأحاديث على الكيان الصّهيونيّ، وهو يعلم علم اليقينِ أنّ هذا الاستدلال باطلٌ، وأنّه تحريفٌ للكلم عن مواضعه.
وهو يعلمُ جيدًا أنّ كلّ الأدلّة الشرعيّة التي تتحدّث عن التّسامح مع اليهود يُقصد بها الحالة الطبيعيّة التي يكون فيها اليهودُ مواطنين في حواضر المسلمين أو مواطنين في بلدانهم ودولِهم،ـ ولكنّ اليهود الصّهاينة الغاصبين لا ينطبق عليهم أبدًا شيءٌ من هذه الأدلّة.
والسّديس وأمثالُه من التيوس المستعارة يعلمون علم اليقين أنّ الأدلّة الشرعيّة التي تنطبقُ على الصّهاينة الغاصبين هي الآيات والأحاديث التي تتحدّث عن وجوب الدّفاع عن الأرض والنفس وردّ العدوان وصدّ وردع المعتدي ووجوب مناصرة المظلوم وحرمة مظاهرة أعداء المسلمين ووجوب البراءة منهم بعد الولاء للمؤمنين ومناصرتهم، ولكنّ السّديس حريصٌ كلّ الحرص على إغفال هذه النّصوص كرمى عيون ابن سلمان وابن زايد.
كما أغفل السّديس عامدًا سلوكَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مع اليهود عندما قاموا بالعدوان والغدر في بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة ويهود خيبر، في خيانةٍ صارخةٍ للعلم الشرعيّ وتحريفٍ فاضح للكلم عن مواضعه
إنّ السّديس وأمثالُه حينَ يسخّرونَ منبر الحرم المكّي لخدمة الصّهاينة فهم يقعون في حضيضِ التحريفِ وكتابةِ الكتاب بأيديهم لينالوا بها مكسبًا رخيصًا من دنيا فانية ومنصبٍ زائلٍ، وسيعضّون أصابعهم ندمًا حين يتبرّأ منهم ابن سلمان وابن زايد وتتقطّع بهم الأسباب، ويحقّ عليهم قول الله تعالى:
“فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ” البقرة: 79

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.