الذاكرة الاستعمارية: أبعد من رفات الجزائر وجماجم الكونغو بقلم صبحي حديدي

واقعتان طرأتا قبل أيام وأضافتا فصلاً جديداً إلى أرشيف المشروع الاستعماري الأوروبي في أفريقيا، وأسهمتا استطراداً في إعادة فتح ملفات الذاكرة بين المستعمِر والمستعمَر؛ على أصعدة تبدأ من إعادة تدوين التاريخ، ولا يتوجب أن تنتهي عند تصويب الحقائق ثمّ تشخيص الحقوق التي مسّت وما تزال تخصّ ملايين البشر. وليس جديداً التذكير بأنّ حياة أكثر من ثلاثة أرباع البشر في العالم المعاصر خضعت في قليل أو كثير لمؤثرات تجربة الاستعمار؛ وأنّ مغامرة الحداثة ذاتها، التي أخذت شكل التصنيع الرأسمالي في الغرب، تزامنت مع، أو هي اعتمدت إلى حدّ كبير على، توسّع إمبريالي واستعماري احتلّ واستغلّ وأخضع أقساماً واسعة من العالم غير الغربي.

الواقعة الأولى هي إفراج الحكومة الفرنسية عن رفات 24 من شهداء المقاومة الشعبية الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي أوسط القرن التاسع عشر، عادوا إلى وطنهم الجزائر بعد 170 سنة من احتجازهم في متحف التاريخ الطبيعي الفرنسي. معظم الرفات تعود إلى زعماء أو قياديين ميدانيين قتلتهم أو أعدمتهم سلطات الاحتلال الفرنسي بعد حصار طويل استهدف إخماد ثورة الجنوب بقيادة الشيخ بوزيان، الذي أُعدم مع ابنه البالغ 15 سنة والشيخ الحاج موسى في ساحة مدينة بسكرة سنة 1849.

حصيلة العمليات العسكرية تلك، في واحة الزعاطشة، كانت قرابة 800 شهيد جزائري.
الواقعة الثانية هي أنّ ملك بلجيكا لويس فيليب ليوبولد ماري كتب إلى رئيس جمهورية الكونغو فيليكس تشيسكيدي مهنئاً بالذكرى الستين لاستقلال البلد، ولعله كان تحت تأثير مناخات ما بعد خنق الأفرو ـ أمريكي جورج فلويد حين قال: «أودّ أن أعرب عن أسفي العميق لجروح الماضي، هذه التي يستعاد ألمها اليوم عبر التمييز الذي لا يزال حاضرا في مجتمعاتنا». وهكذا كان الملك يستكمل اعتذار الحكومة البلجيكية الرسمي، قبل نحو عام، إلى شعوب الكونغو ورواندا وبوروندي عن الجرائم التي ارتكبتها السلطات الاستعمارية البلجيكية بحقّ أطفال هذه البلدان «المهجنين»؛ أي أولئك الذين ولدوا من زيجات مختلطة بين البيض والسود. وتلك ممارسات انطوت على الخطف، والفصل العائلي، والترحيل، والتبنّي القسري للآلاف من الأطفال.

لافت، بصدد الواقعة الأولى، أنّ رفات المقاومين الجزائريين لم تكن دفينة مقبرة لأنها إنما نُقلت من الجزائر إلى فرنسا لأسباب «بحثية» حول الأجسام، في إطار الدراسات البيولوجية والإثنولوجية والأنثروبولوجية التي اقترنت منذ البدء بالمشاريع الاستعمارية. وفي مقالته المعروفة «تمثيل المستعمَر: مُحاوِرو الأنثروبولوجيا» ناقش إدوارد سعيد الأدوار التي لعبتها هذه العلوم في تصوير (أو بالأحرى: إساءة تمثيل) شعوب المستعمرات و«المجتمعات البدائية»، وأنّ قسطاً غير قليل من الخطط السياسية والعسكرية للسلطات الاستعمارية بُنيت على خلاصات تلك العلوم بصدد المستعمَر وأطواره الجسدية والعقلية والنفسية.

وأمّا الاحتفاظ بالرفات والجماجم في متحف العلوم الطبيعية في قلب العاصمة باريس، وليس في أيّ متحف عسكري مثلاً، فإنّه المؤشر الأوضح على أنّ العلاقة بين المشروع الاستعماري والمتاحف في أنظمة الاستعمار الأوروبية ظلت وثيقة على الدوام؛ وكانت الأركيولوجيا، والتنقيب عن الآثار بهدف سرقتها ونقلها إلى مراكز المتروبول الاوروبية الكبرى، إحدى ركائز هذه العلاقة.

وبالطبع، لم تكن الصلات بعيدة، من جانب آخر، عن ثقافة إقامة النُصب وشيوع التماثيل التي تخلّد شخصيات سياسية أو عسكرية استعمارية، حتى إذا كانت سجلات بعض هؤلاء بغيضة وحافلة بالمسؤولية عن المجازر وجرائم الحرب.

تلك وقائع ارتكبها إسبان في الأمريكتَيْن، وفرنسيون في الجزائر، وبريطانيون في الهند، وبلجيكيون في الكونغو، وإسرائيليون في فلسطين… وهيهات أن تنفع في محو ندوبها الغائرة ترتيباتٌ إجرائية، أو اعتذارات موسمية
والحال أنّ ذاكرة الاستعمار الفرنسي في الجزائر توغل في أنساق أخرى أشدّ وحشية وعنفاً، وهمجية بالتالي، من وقائع إخماد ثورة الجنوب الجزائري أواسط القرن التاسع عشر؛ وليس في وسع سجلّ الذاكرة الاستعمارية أن يقلّب صفحات ذلك الماضي من دون وقفات معمقة، متأنية وضرورية بقدر ما هي قاسية ومؤلمة، عند أمثال الجنرال الفرنسي بول أوساريس، أحد كبار جلاّدي الشعب الجزائري.

مجلداته الثلاثة، التي دوّنت مذكراته عن سنوات الجمر الدامية في الجزائر، حملت عناوين لا تخفى البتة دلالاتها القصدية: «الأجهزة الخاصة، الجزائر 1955ـ1957: شهادتي حول التعذيب»؛ و«من أجل فرنسا: الأجهزة الخاصة 1942ـ1954»؛ و«لم أبحْ بكلّ شيء: اعترافات قصوى في خدمة فرنسا».

وعند صدور كلّ مجلد، كانت معظم السجالات تدور حول هذا السؤال: أليست هذه فرنسا، بلد ثورة 1789، حاضنة مبادىء الحرّية والمساواة والإخاء، مهد حقوق الإنسان، وساحة الأنوار؟ هي هذه كلّها، لا ريب؛ ولكنّ الذي تغاضى عن جرائم أمثال الجنرال أوساريس لم يكن سوى فرنسوا ميتيران: وزير العدل الفرنسي آنذاك، والزعيم الاشتراكي لاحقاً، وأوّل رئيس يساري في الجمهورية الخامسة. لا شرعة حقوق الإنسان نفعت، ولا فلسفة جان جوريس ملهم الاشتراكيين الفرنسيين لجمت، ولا بنود القانون ردعت. الأمر ببساطة أنّ النصوص (فلسفة أم أقانيم دستورية) كانت في واد، والساسة والجنرالات كانوا في واد آخر.

اعتذار الملك البلجيكي، من جانبه، ليس متأخراً كثيراً فحسب، بل هو كما سلف القول جاء متأثراً بأجواء ما بعد خنق فلويد وموجات استنكار العنصرية ضدّ السود؛ وبالتالي لم ينبثق من حسّ بواجب الذاكرة، أو إنصاف الحق والحقيقة كما يجوز للمرء أن يفترض. كان في وسع الملك أن يقتفي أثر رئيس وزرائه شارل ميشيل، والحكومة الفدرالية أمام جلسة موسعة للبرلمان، فيعتذر بدوره إلى شعوب الكونغو ورواندا وبوروندي؛ أو أن يقتدي بالكنيسة البلجيكية التي تقدمت، في سنة 2017، باعتذار مماثل أقرّ فيه الأساقفة بأنّ الكنائس في أفريقيا الوسطى (التي نُقل إليها الأطفال السود فتحولت إلى دور أيتام وبعثات تبشيرية) حظرت الزواج المختلط بين البيض والسود، وحرمت آلاف الأطفال من حقوقهم المدنية.

ذلك لأنّ فظائع جدّه الملك ليوبولد الثاني في الكونغو لم تكن جرائم حرب فقط، بل كانت تجسيد البربرية القصوى من جانب وحش بشري اختار أن يصف نفسه: «نيرون قدّيس بالمقارنة معي. إنني غول لا يتلذذ إلا بتعذيب الأفارقة الزنوج». حكايته تبدأ في عام 1885 حين قرر، هو الملك المتوّج وسليل أسرة ملكية كانت لها حصّة في معظم تيجان أوروبا عبر المصاهرة والخؤولة والعمومة، أنّ بين أبسط حقوقه الملكية تحويل بلد أفريقي، تفوق مساحته مساحة بلجيكا 80 مرّة، إلى ملكية فردية شخصية. وفي دويلته تلك، التي كانت الولايات المتحدة أوّل المعترفين بها، توجّب على الأفارقة الكونغوليين العمل بالسخرة عند رجال الملك، في قتل الأفيال للحصول على العاج، وقطع الأشجار لجمع سائل المطاط. بتر اليد كان العقوبة الأولى للمسخَّر الذي يفشل في تنفيذ الحصة المناطة به من الانتاج، وقطع اليد الثانية كان العقوبة التالية، وأما الثالثة فهي الأخيرة والثابتة: رصاصة في الصدغ!

بذلك فإنّ سياسة الذاكرة الاستعمارية لا يجوز لها تجاهل الجوهر الوحشي خلف الرفات والجماجم، لاعتبار مبدئي أوّل هو أنّ الشطر الاستعماري ـ الاستيطانيّ من التاريخ الأوروبي يحفل بآلاف الوقائع التي يستحيل أن تُطمس طيّ أجداث تُعاد بعد غياب 170 سنة، أو اعتذار خجول عن «جراح» كانت في حقيقتها جرائم إبادات جماعية. وتلك وقائع ارتكبها إسبان في الأمريكتَيْن وسائر «العالم الجديد»، وفرنسيون في الجزائر، وبريطانيون في الهند، وبلجيكيون في الكونغو، وبرتغاليون في أنغولا، وهولنديون في جنوب أفريقيا، وإسرائيليون في فلسطين…
وهيهات أن تنفع في محو ندوبها الغائرة ترتيباتٌ إجرائية هنا، أو اعتذارات موسمية هناك.

شاهد أيضاً

صفقة التبادل أم اجتياح رفح؟.. خلاف يهدد الائتلاف الحكومي بإسرائيل

تصاعد النقاش في الساعات الأخيرة داخل إسرائيل بشأن تحديد أولويات المرحلة المقبلة ما بين التركيز على التوصل إلى صفقة لتبادل الأسرى تتيح عودة المحتجزين