مطار غزة الدولي بعيون “مُضيفة”

(الأناضول)

تستجمع الغزّية رولا عليان قواها النفسية جيداً، قبل أن تقرر أخيراً الإفصاح عن شريط الذكريات التي عايشتها خلال عملها كمضيفة طيران في مطار غزة الدولي.

فمنذ الإعلان عن إغلاق المطار عام 2001، ومن ثم تدميره، لم تمتلك القدرة على زيارته، أو حتى مشاهدة صوره المنتشرة في كل مكان، لأن ذلك “يفتح لها باب التفكير مجدداً في ذلك الحلم والرمز الفلسطيني الذي غاب في طرفةِ عين”.

تقول عليان، التي عملت كمضيفة بالمطار لمدة عامين، قبل إغلاقه، إنها كانت على متن آخر رحلة انطلقت من المطار باتجاه مدينة دبي الإماراتية.

وتوضح تفاصيل الرحلة الأخيرة: “حينما وصلنا مطار دبي، دخلنا الفندق للمبيت، وبعد أقل من ساعتين وصلتنا اتصالات من الإدارة تفيد بضرورة عودة الطائرة وجميع الطواقم والمسافرين لأرض المطار، لأن إسرائيل أعلنت إغلاق المطار الجوي الفلسطيني وهددت بقصفه”.

وتُبيّن عليان، التي تعمل حالياً كمحاضرة أكاديمية في مجال الصحافة والإعلام، أنّهم لبّوا الأمر فوراً وصعدوا من جديد على متن الطائرة، وحين صاروا على مقربةٍ من المجال الجوي الفلسطيني وصلتهم معلومات تفيد بأنّ إسرائيل قررت استهدافهم إذا ما دخلوا الحدود.

ولفتت إلى أن الطائرة ظلت معلقة في الهواء لمدة ساعة على أطراف القطاع، إلى أن صدرت تعليمات أشارت بضرورة عودتهم للهبوط في مطار العريش المصري، القريب من قطاع غزة.

وهذا ما حصل فعلاً، عاد الجميع “مكسوري الخاطر”، كما توضح خلال حديثها.

وقالت إن إسرائيل رفضت رجوع طاقم الطائرة، (أكثر من 60 شخصا) من خلال الطريق البرية.

وبعد مفاوضاتٍ طويلة استمرت لأسابيع وافقت الأخيرة على ذلك، شرط أن يدخلوا القطاع عبر معبر “صوفا” الإسرائيلي المخصص لنقل البضائع.

وكان مطار غزة الدولي الذي افتُتح سنة 1998 في إطار اتفاقية “أوسلو” للسلام التي وقعتها منظمة التحرير مع إسرائيل، قد توقف عن العمل في كانون أول/ ديسمبر لعام 2001 بعد أن ألحقت فيه إسرائيل دماراً كبيراً شمل محطة الرادار.

وبعد عدّة شهور عادت المقاتلات الإسرائيلية وقسمّت المدرج لأجزاء، وخلال حرب لبنان في صيف سنة 2006، دمرت الأخيرة ما تبقى من مباني ومنشآت.

البداية والتدريب

بداية عمل عليان بالمطار كانت في مرحلتها الجامعية من خلال تعاطيها مع إعلان توظيف مضيفين ومضيفات نَشر في الصحف المحلية عام 1998.

وفي ذلك الوقت، كانت السلطة الفلسطينية تنفذ على قدمٍ وساق خطط توسعة آليات العمل وتزيد من الكوادر، لتكون قادرة على توفير أفضل الخدمات للعملاء بنظامٍ عالمي، بحسب قولها.

وتقول: “ما حفزني على خوض تلك التجربة على الرغم من أنّي كنت أدرس تخصص الصحافة والإعلام في ذلك الوقت، هو وجود شقيقتي سالي التي كانت تعمل كإدارية في المطار”.

وأضافت أن شقيقتها طالما “شوقتها بالكلام عن المسافرين وأجواء المطار، الأمر الذي أوجد لديها حافزا وحبّا لذلك العمل”.

وتعرضت الغزّية برفقة 14 شابا وشابة اجتازوا اختبارات الوظيفة والمقابلات، لتدريبٍ مكثف في مطار الملكة علياء بالمملكة الأردنية على مدار ثلاثةِ أسابيع.

وعن تلك الفترة تقول: “كانت مليئة بالتجارب الجديدة والمعارف، ولم تخلُ منها كذلك مشاعر الفخر كوننا نمثل فلسطين، ونساهم في تطوير أهم رموز سيادتها”.

وتوضح أنّ التدريبات كانت تتم عبر تقنيات عالمية وأساليب حديثة جداً، حيث أنّهم استخدموا مجسمات لطائرات حقيقية وأجروا عليها اختبارات لإخلاء الركاب وإسعافهم وإطفاء الحرائق وغيرها من المخاطر التي ممكن أن تواجههم في الجو.

وتدّربوا كذلك على فنون الضيافة الجوية وأساليب التعامل مع الركاب.

والجدير ذكره، أنّ المطار الفلسطيني كان لديه القدرة على استيعاب 700 ألف مسافر سنوياً، خلال عمله على مدار الـ24 ساعة يومياً.

ويقع المطار على ارتفاع 98 مترا عن مستوى سطح البحر، ويبلغ طول مدرجه حوالي 3000 متر، وضمّ 19 مبنى.

وتم تصميم المطار، الذي افتتحه الرئيس الراحل ياسر عرفات، وفق العمارة الإسلامية، وتجاوز عدد العاملين فيه الـ400 شخص.

الرحلة الأولى

حِرْص عليان وزملائها على التدقيق في كلّ التفاصيل التي يطلعهم عليها المدربون، دفعهم لطلب إعادة التجارب العملية مرّة أخرى، وبعدها انتقلوا للتدّرب على متن رحلاتٍ حقيقية.

وتلفت إلى أنّهم عادوا لفلسطين منتصف عام 1999، وبدأوا بممارسة مهامهم كمضيفين في مطار غزة الدولي، وكانت أول رحلاتها هي للقاهرة في أيلول/ سبتمبر من ذات العام.

تصف مشاعرها في تلك الرحلة قائلةً: “الفخر قبل كلّ شيء لأنّ الحلم تحقق، والقلق بعدها، فالمضيف هو المسؤول المباشر عن كلّ الركاب في الطائرة، وهذا أمر ليس سهلاً، خاصّة وأنّ المواطنين الفلسطينيين البسطاء كانوا حديثي التجربة في التعامل مع الطيران في الجو، والأجواء التي تصاحبه”.

وتضيف ساردة ذكرياتها مع بعض الركاب: “أحدهم كان يصرّ على حمل زجاجات الفلفل الأحمر المفروم، على متن الطائرة، وآخر يطلب أن ترافقه عبوات زيت الزيتون البلدي في رحلته لينقلها لأصدقائه وأقربائه في الدول الأخرى، وحين كنا نخبرهم بأنّ ذلك ممنوع لاعتبارات لها علاقة بالضغط الجوي، كانوا لا يتقبلون ذلك بسهولة”.

وتذكر أن الرحلة الجوية من مطار غزة للقاهرة أو الأردن، كانت لا تستغرق سوى ساعةً واحدة، وبمجرد التفكير في هذا الأمر ينتابها غصّةً شديدة، خاصة وأنها ترى معاناة المسافرين في هذه الأيام.

ويسافر سكان غزة حالياً، عبر منفذين الأول هو حاجز “إيرز” الخاضع لسيطرة إسرائيل، لكنه مخصص فقط لفئات محدودة ويحتاج لتصاريح أمنية إسرائيلية خاصة؛ والثاني هو “معبر رفح البري”، والذي يحتاج السفر عبره لساعات طويلة.

تفاصيل كثيرة

وتذكر عليان، أن موسم الحج كان هو الأهم بالنسبة لها.

وعن ذلك تقول: “عدا عن العمل هناك شعور عظيم كان يرافقني مرتبط بقدسية الركن الأعظم من أركان الإسلام”، متسطردةً “المعاناة التي يعيشها الحجاج الفلسطينيون اليوم بعد تدمير المطار، أنا أعيها جيداً لأنّي أعرف كم الراحة التي وفرها لمن أدوا الفريضة وقت عمله”.

وكانت عليان تلحظ بشكلٍ دائم تعليقات الركاب الفلسطينيين على طعام الطائرة وطريقة تقديمه.

تسرد ضاحكةً: “خلال الرحلات الجوية نتقيد بالمواصفات العالمية ذات العلاقة بالضيافة، وهذا الأمر لم يرق للركاب الغزيين بشكلٍ خاص، فكانوا يعترضون على شكل الخبز ونوعية الأكل وكلّ شيء”، منبّهةً إلى أن طاقم المضيفين كانوا يتفهمون كل ذلك برحابةِ صدرٍ.

وزارت المضيفة خلال جولاتها الجوية، معظم مطارات الدول العربية، وتستطرد أن أبرز الرحلات كانت تلك التي وصلوا ضمنها للأراضي التركية، وكسروا بها النطاق الجوي العربي.

وتستكمل: “احتفلنا كثيراً بذلك الإنجاز، الذي مهد لفتح تعاون مع مطارات دولية أخرى، كانت سترى النور لو لم تدمر إسرائيل أراضي المطار ومبانيه”.

وتختم عليان بالقول: “إن علينا استثمار كل فرصة لتذكير العالم في ذلك الرمز الفلسطيني الذي دمرته إسرائيل دون وجه حق”.

وتختم عليان حديثها، بالتأكيد على رغبتها للعمل مرة أخرى، في المطار، في حال تم إعادة افتتاحه، كونها ترى أن الطائرات التي كانت تقلع منه هي بمثابة “سفراء لفلسطين ووجهها النابض بالحياة”.

شاهد أيضاً

صفقة التبادل أم اجتياح رفح؟.. خلاف يهدد الائتلاف الحكومي بإسرائيل

تصاعد النقاش في الساعات الأخيرة داخل إسرائيل بشأن تحديد أولويات المرحلة المقبلة ما بين التركيز على التوصل إلى صفقة لتبادل الأسرى تتيح عودة المحتجزين