و ما توفيقي إلا بالله

موقع الخطباء بتصرف للشيخ هلال الهاجري

دعونا نتأملُ في كلمةِ واحدةٍ فقط، وهي قولُه: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ)، أيْ: لا توفيقَ لي في إصابةِ الخيرِ والحقِّ والصَّوابِ في أيِّ أمرٍ من الأمورِ إلا من عندِ اللهِ -تعالى-، يقولُ ابنُ القَيِّمِ -رحمَه اللهُ-: “أَجمعَ العارفونَ باللهِ أنَّ التَّوفيقَ هو أن لا يَكِلَكَ اللهُ إلى نَفسِكَ، وأنَّ الخُذلانَ هو أن يُخْلِيَ بينَكَ وبينَ نفسِكَ“.

فالعذرُ لي في كلِّ حَالٍ أَنَّني *** مِنَ اللهِ مُحتاجٌ إلى التَّوفيقِ

من توفيق اللهِ -تعالى- للعبدِ أن يجعلَهُ ممن إذا أُعطيَ شكرَ، وإذا ابتليَ صبرَ، وإذا أذنبَ استغفرَ، فإنَّ هذه الثَّلاثَ عِنوانُ السَّعادةِ في الدُّنيا والآخرةِ، و”عَجَبًا لأمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ“، فالتوفيقُ ليسَ مجرَّدُ كَلمةٍ تُقالُ، بل هو منهجُ حياةٍ وأقوالٌ وأفعالٌ، هو نشاطٌ يجدُه العبدُ في طاعاتِه وأعمالِه، وهو تسديدٌ يراهُ في أقوالِه وأفعالِه، لا يُعرفُ له سببٌ إلا قولَه -تعالى-: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ).

ذَهبَ الصَّوابُ برأيه فكَانَّما *** أَراؤه اشتَقَّتْ من التَّأييدِ

فاذا دَجا خَطبٌ تَبلَّجَ رَأيُه *** صُبحَاً مِنَ التَّوفيقِ والتَّسديدِ

التَّوفيقَ تجدُهُ ظاهراً عندَ أصحابِ القلوبِ الصَّادقةِ، والنَّوايا الطَّيبةِ، والمقاصدِ السَّليمةِ، كما قالَ -تعالى- في الزَّوجينِ: (إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا)[النساء:35]، فعندَ إرادةِ الإصلاحِ بالقلوبِ، يأتي التَّوفيقُ من علَّامِ الغيوبِ.

من توفيقِ اللهِ -تعالى- للعبدِ أن يجعلَه حريصاً على العلمِ ومعرفةِ الأسبابِ، ومُجتهداً في معرفةِ سُبلِ الخيرِ والصَّوابِ، واسمعوا لِمن وفَّقَه اللهُ من الأَعرابِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَمَا يُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ: فَكَفَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ نَظَرَ فِي أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: “لَقَدْ وُفِّقَ هَذَا“، قَالَ: “كَيْفَ قُلْتَ؟“، قَالَ: فَأَعَادَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، دَعِ النَّاقَةَ“.

ثُمَّ من توفيقِ اللهِ -تعالى- للعبدِ أنَّه يُعينَه على العملِ، بعدَ أن أرشدَه إلى العلمِ، فهل تجدُ في نفسِكَ حبَّاً للعملِ الصَّالحِ والإيمانِ، وكُرهً للكفرِ والفُسوقِ والعِصيانِ؟، إذا كانَ الجوابُ: نعم، فأنتَ ممن وفَّقكَ اللهُ العزيزُ الرَّحمنُ، يقولُ -تعالى-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)[الحجرات:7].

قالَ ابنُ القيِّمِ -رحمَه اللهُ- في تفسيرِ هذه الآيةِ: “يُخاطبُ اللهُ -جَلَّ وعَلا- عبادَه المُؤْمِنِينَ، فيقولُ: لولا تَوفيقي لَكُمْ لما أَذْعَنَتْ نُفُوسُكمْ لِلإيمانِ، فلم يَكنِ الإيمانُ بمشورتِكم وتَوفيقِ أَنفسِكم، ولكنِّي حَببتُه إليكم وزيَّنتُه في قُلوبِكم، وكرَّهتُ إليكم ضِدَّهُ الكُفرَ والفُسوقَ”، يا اللهُ! كلماتٌ ومعاني عظيمةٌ.

ولذلكَ ترى أنَّ هناكَ من يعصمْهُم اللهُ -تعالى- عن معصيتِه توفيقاً وتَسديداً، ويُعينُهم على طاعتِه تثبيتاً وتأييداً، ومِثالُ ذلكَ يوسفُ عندما تعرَّضَ لوسائلِ الإغراءِ، جاءَه العونُ والتَّثبيتُ من السَّماءِ، توفيقاً وفضلاً من اللهِ ربِّ العالمينَ، (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)[يوسف:24].

ولكنَّما التَّوفيقُ باللهِ إنَّه *** يَخصُّ به من شَاءَ فَضلاً ويُنعمُ

شاهد أيضاً

صفقة التبادل أم اجتياح رفح؟.. خلاف يهدد الائتلاف الحكومي بإسرائيل

تصاعد النقاش في الساعات الأخيرة داخل إسرائيل بشأن تحديد أولويات المرحلة المقبلة ما بين التركيز على التوصل إلى صفقة لتبادل الأسرى تتيح عودة المحتجزين