البيوتُ أَسْرَار!

بقلم : أدهم شرقاوي

الإخوة «الفيس بوكيّون» والأخوات «الفيس بوكيّات» تحيّة طيّبة وبعد:

قالوا قديماً: البيوتُ أسرارٌ، ولكن على ما يبدو أنَّ الكلام القديم كالثّيابِ القديمة «موضة» هو الآخر، نكفُّ عن استخدامه حتى ولو بدَا أنيقاً!

كانت البيوتُ صناديقَ مغلقة، ما للبيتِ للبيتِ وما للناسِ للناسِ، واليوم صارت البيوتُ مشاعاً وكلّ ما فيها للنّاس! جولةٌ مسائيّة في مواقعِ التّواصلِ الاجتماعيّ تجعلكَ تُدركُ أنّها مواقعُ الفضائحِ الاجتماعيّ، فكلمةُ تَوَاصَلَ في اللغة مزيدةٌ من حرفين، والمزيدُ من حرفين- من زاويةٍ دلاليّة- يفيدُ المشاركة، كـ«تَرَاسَلَ وتَقَاتَلَ»، أفعالٌ يلزمها بالضرورةِ طرفان، فكما لا يمكنُ للإنسانِ أن يتراسلَ أو يتقاتلَ مع نفسه، هكذا كلمة تواصل لا بدّ لها من طرفٍ ثانٍ معنيّ ومهتمٍّ بما يوصله له الطرف الأول.

أنا لا أعرفُ حتى اللحظة ما المرادُ إيصاله من شخصٍ أوّل ما يستيقظ يكتب «لقد استيقظتُ» !

الحمدُ للهِ أنّكَ أخبرتنا بهذا، لقد كان العالمُ كله واقفاً على أعصابه، خشية ألا تستيقظ، ولقد صارَ بإمكان هذا الكوكب أن يكملَ يومه بعد أن اطمأن على استيقاظك المبارك!

وبعد الاطمئنان على «اللايكات» و «الكومنتات» يكتب لنا: «عن إذنكم شاور تايم» !

سيّد العالم دخل ليستحمّ! بإمكانكم أن تنجزوا ما يمكنكم من أعمالكم ريثما يخرج جلالته من الحمّام، ويصوّر لنا فنجان قهوته مرفقاً بكتاب أغلب الظن أنّه لن يفتحه! فمن المستحيل أن تجتمع الثقافة والتفاهة في صعيدٍ واحد! عموماً لا تنسوا «اللايك» وإلا سيغضب ولن يصوّر لنا طعام الغداء!

من طرائفِ الأشياءِ أنّ كائنةً فيس بوكيّة كتبتْ مرّةً: «رأيتُ الموتَ بعينيّ» !

وبعد أن هبّت الكائنات الافتراضيّة مُباركةً لها نجاتها المحتوم من الموت، تبيّن أن الموتَ الذي رأته بعينيها ليس إلا انكسار أظفارها وهي تفتحُ قنينة البيبسي!

رحمَ اللهُ أمَّ مرشود! منذ خمسين عاماً ذهبتْ لتحتطبَ عندما لم يكن في البيوت أفران غاز، وكانت في آخر أيام حملها، وهناك أرجأها المخاضُ إلى ظلّ زيتونة، فساعدها النسوةُ اللائي كُنّ معها، فوضعت ابنها، ثمّ لفّته بقطعةِ قماشٍ، وعادتْ سيراً على الأقدام، ابنها بيدها، وحزمة الحطبِ على رأسها، فكفى مياعة!

هناكَ بيوتٌ من قوانينها ألا تمتدّ يدٌ إلى الطّعامِ قبل التقاط صورةٍ للفيس بوك، وهناكَ حلوى تُصنع لتُصوّر في انستغرام فقط، وهناك ثياب تُشترى لـ «اللايكات» في مواقع التواصل، وهناك خلافاتٌ زوجيّة تُناقشُ على الملأ، فماذا بقي للبيوت؟!

الإنسانُ كائنٌ اجتماعيّ بطبعه، وقد قال الخليلُ بن أحمد الفراهيديّ: ما سُميَ الإنسان إنساناً إلا لأنّه يأنسُ بغيره!

ولكن هذا لا يعني أن الأُنس لا يتحققُ إلا حين نتخلى عن خصوصيتنا!

نُعزّي أهلَ الفقيدِ بفقيدهم، ونُهنّئ أهلَ العرسِ بعريسهم، نعودُ مريضاً، ونزورُ صديقاً، نحترمُ جاراً، ونُجلُّ عجوزاً، ونوقّرُ عالماً، نناقشُ فكراً، ونطرحُ رأياً، هذا هو الأُنسُ بالنّاس، وهذا ما يُشبعُ غريزة الاجتماعِ المدفونة فينا، لا في أن تكون البيوت مشاعات.

شاهد أيضاً

ثورة في الجامعات الأميركية

طلاب جامعة كولومبيا بأميركا يتظاهرون احتجاجًا على حرب الإبادة الجماعية التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين في غزة