دعاة جدد لتدين سوفت

أ. د محمد الهندي المصدر إشراقات

هو نوع من التدين شاع في السنوات الأخيرة على يد مجموعة ممن يسمون الدعاة الجدد، وهو تدين خفيف (لايت) يناسب أذواق الطبقات المترفة التي لا تتحمل ثقل الدين وتكاليفه وأوامره ونواهيه، فتم تصنيع وتغليف وتسويق نوع جديد من التدين يناسب العصر الرقمي، يمكن أن تسميه “تدين كاجوال” وفيه مقاسات مختلفة Small ، Medium، Large ، and Xlarge حتى تستريح فيه وتستريح به، ويرفع عنك كثيرا من الحرج والعنت، فهو يتبعك حيث تريد، ويحقق لك كل ما تتمنى، ولهذا شاع وانتشر هذا الدين الجديد بين المترفين والمدللين والمتحررين من كل القيود والراغبين في المتع الدنيوية حلالها وحرامها. هو “تدين ديلفري” حسب الطلب وحسب هوى وذوق المشاهد والمستمع والمتابع. ولقد ظن به البعض خيرا حين رأى بعض مظاهر التدين على طبقات كانت بعيدة عنه، ولكن سرعان ما تبين أن من تزيّنوا به وارتدوه خلعوه وارتدوا عنه بعد فترة طالت أم قصرت فكأنه كان “تيشرت” أعجبهم في لحظة ثم ارتدوا غيره مع تقلباتهم المزاجية وتغيرات الطقس الديني، وربما يعودون إليه إذا ظهر منه “ستايل” آخر جديد.
وهذا النوع من التدين حمله إلى الناس مجموعة من الدعاة “السوفت”، “الكاجوال”، “الديجيتال”، “اللايت”، “المترفين”، “المدللين”، “الكيوت”، الذين أجادوا تحسس أذواق المشاهدين والمستمعين والـ Followers فأعطوهم ما يريدون وكانوا حريصين على دغدغة مشاعرهم وتملق رغباتهم ونيل رضاهم والاستمتاع بتصفيقهم و”لايكاتهم” و”شيراتهم” و”كومنتاتهم”، وقد نالوا من وراء ذلك المجد والشهرة والكثير من المال، واكتسبوا القدرة على التمثيل الديني لإثارة مشاعر المراهقين والمراهقات، واكتسبوا مهارات الأداء الدرامي لإبهار المشاهدين، ونافسوا أهل الفن في الشهرة والمال، وتسابقت عليهم القنوات، ولهثوا هم وراء العقود وانحنوا طويلا لتحية الجمهور الذي يصفق لهم.
بعضهم كانت له كاريزما شخصية وتأثير واسع لدى الشباب على وجه الخصوص، وبعضهم كان لديه مشروعات تنموية وإصلاحية، ولكنهم للأسف عرّضوا أنفسهم لكل أنواع الإغواءات والإغراءات والفتن وماخل الشيطان الذي حذروا أتباعهم منها، وفقدوا شيئا ما –ربما يكون الإخلاص– جعل الناس تعطيهم ظهورها وتسخر منهم بعد أن كانوا يعطونهم كل الحب والتقدير.
لا ننكر أننا كنّا في وقت من الأوقات نحسن الظن بهؤلاء الدعاة الجدد وندافع عنهم حين كانوا يتعرضون لحملات تشويه من مناوئيهم، وكنا نعتقد أنهم يخاطبون فئات من المجتمع لا ينجح الخطاب الديني التقليدي في الوصول إليهم، ولكن الأيام والتجارب أثبتت خطر هذا النوع من التدين الرخو، وخطر حامليه والمبشرين به حين تم استدراجهم لحظيرة المال والشهرة والنجومية والإعلانات، وحين تم توظيفهم لأداء أدوار لا علاقة لها بالدعوة، وحين تكشفت سماتهم النرجسية وتضخم ذواتهم وشراهتهم للمتابعين لهم على صفحات الإنترنت بحيث أصبحوا لا يتسابقون إلى الخيرات بل يتسابقون إلى عدد الزائرين لصفحاتهم الإلكترونية والمتابعين لهم ويحزنون ويتألمون إذا سبقهم أحد أقرانهم، ويعقدون الاجتماعات في مقراتهم لبحث كيفية تحقيق أرقام قياسية جديدة من المعجبين والمتابعين، وهم يستغلون عدد الزائرين لصفحاتهم لاستجلاب الإعلانات من شركات المشروبات الغازية الشهيرة والمنتجات المختلفة ويحققون الملايين من وراء الملايين الذين يتابعونهم. وهذا النوع من الدعاة تجدهم فقط في المساحات الهادئة والآمنة والمريحة والمليئة بالمكاسب، بينما تفتقدهم في المواقف التي تحتاج لشجاعة وجرأة وتضحية، فهم يسخرون الدين لخدمة ذواتهم المنتفخة ولا يضحون بأي شيء من أجل الدين، ولهذا تراهم في صحة جيدة وشياكة هائلة، وفي رفاهية ناعمة، ويرتدون أغلى الثياب من أشهر الماركات العالمية.
ونظرا لشيوع هذا النوع من التدين، والمكاسب الكثيرة التي جناها دعاته، فقد أغرى ذلك إحدى الراقصات لتقدم برنامجا دينيا في رمضان، ولم لا ؟، فهي تريد أن تأخذ نصيبا من الكعكة الدعوية، وهي –في نظر من سيقدمونها– تمثل “ستايل جديد” للدعوة بعد أن احترق بعض رموز التدين الرخو.
ولم يكتف أصحاب التدين الرخو بما حققوه من مكاسب، بل سعوا لصرف الناس عن علماء الدين الحقيقيين الذين يقدمون الدين الحقيقي دون تزييف ودون تملق للسلطة أو للجماهير، ووصموهم بأنهم تقليديون ومتخلفون ومتحجرون ورجعيون، وحاولوا صرف الناس عنهم وربما السخرية منهم بشكل مباشر أو غير مباشر، وساهم الإعلام في ذلك بدرجة كبيرة حين قلّص المساحة للعلماء الحقيقيين الراسخين في العلم وهاجم مؤسسة الأزهر وشيوخها ورموزها، وأفرد المساحة لدعاة الدين الرخو، وأضفى عليهم هالات واسعة ومكنّهم من وعي الجمهور، واستعملهم لتحقيق أغراض دعائية أو تسويقية أو سياسية.
ولقد سقط القناع عن بعض هؤلاء الدعاة الجدد ورآهم الناس على حقيقتهم التي كانوا يخفونها، فعلى الرغم من ذكائهم الشديد وقدراتهم التسويقية الإلكترونية العالية، ومهاراتهم في رسم الصورة Image المبهرة لأنفسهم إلا أن ما تسرب إلى الناس من دوائرهم الضيقة التي كشفت نرجسيتهم وعنجهيتهم وغرورهم وانتهازيتهم وشراهتهم للمال والشهرة والنفوذ تحت قشرة هشة وخادعة من الوداعة والتواضع والنعومة والرومانسية الدعوية. وحين سقط القناع ارتد الكثير من أتباعهم، وفقدوا الثقة في الدين والتدين والمتدينين، فكان هؤلاء الدعاة فتنة للناس، بعد أن فتنوا هم أنفسهم بأضواء الأستوديوهات وعدسات الكاميرات وأموال التعاقدات والإعلانات والهبات.
نحن بالتأكيد ندعو لهم بالهداية ومراجعة الذات وتصحيح الأخطاء وإعادة النظر فيما بينهم وبين الله، فالقبول في السماء يتبعه القبول في الأرض والعكس صحيح.
إن الله لم يبعث رسله وينزل الدين ليتملق به مشاعر الناس ويسترضي أذواقهم، وإنما كان الدين ليرسم للناس طريق صلاحهم ويهذب من أخلاقهم ويصلح ما اعوج من سلوكهم، ويصلح الفرد والجماعة، ويهيئ لعمارة الأرض من خلال منظومة عقائدية وطقوس عبادية محددة وتعاليم أخلاقية سامية. والدين ليس نوعا من الملطفات أو الكريمات أو المراهم أو المكياج، وليس نوعا من المسكنات الموضعية أو المخدرات السحرية، وإنما هو مجاهدة وتضحية بكل ما يملك الإنسان سعيا لوجه الله، ولهذا يقول الله تعالى مخاطبا رسوله: “إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا * إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا * إن لك في النهار سبحا طويلا * واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا”، ويقول تعالى “يا يحيى خذ الكتاب بقوة”. والرسل (ومن بعدهم الدعاة إلى الدين) ليسوا مطالبين بتملق الناس بدين رخو أو دين كاجوال أو دين لايت أو دين معدل ليقبلوه، فالناس مخيرين في قبول الدين الحقيقي أو رفضه، حيث يقول تعالى “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”، “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، ويقول لرسوله “إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء”، ويقول له “فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا”. فوظيفة الدين هي تغيير البشر طبقا لمعاييره ومفاهيمه العلوية الربانية وليس من المنطق السليم إن يتغير الدين ليناسب أهواء البشر وتوجهاتهم وأذواقهم ويصبح نوعا من التسلية والترفيه التليفزيوني أو الإلكتروني، ودغدغة المشاعر واستجلاب الشهرة والمال لدعاة من النوع “الكيوت”.

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.