هذا هو مشروع الإرهاب الأبيض القادم.. قراءة نقدية في نص سفاح نيوزيلندا

– لماذا تهاجم المسلمين إن كان كل المهاجرين ذوي الخصوبة المرتفعة هم المشكلة؟

– لأسباب تاريخية، ومجتمعية وإحصائية. إنهم المجموعة الغازية الأكثر كراهية في الغرب، ومهاجمتهم ستلقى مستويات أكبر من الدعم.

كما أنهم من أقوى الجماعات، ولديهم خصوبة أعلى، ولديهم رغبة في دحرنا.

(وثيقة تارانت)

أكثر من سبعين صفحة، وما يربو عن 16000 كلمة، كانت حصيلة الوثيقة التي تركها “برينتون تارانت” سفاح نيوزيلندا، قبيل تنفيذه لجريمته التي استهدفت مسجدين، وقُتل على إثرها أكثر من خمسين نفسا. وثيقة عنوَنها تارنت بـ “الإحلال العظيم – نحو مجتمع جديد” وعُرفت في الصحافة الأوروبية بـ “مانيفستو” تارانت، إذ اعتُبرت طريق عمل تركه السفاح الأسترالي لمن سيأتون بعده، وقد سطّر فيها دوافعه ومبرراته ومعتقداته وما يؤمن به من أفكار.

تنويه: مرفق أدناه ترجمة “ميدان” لوثيقة “الإحلال العظيم”، التي تركها تارانت قبل عمليته الإرهابية، ويمكنكم تنزيلها مباشرة.
لم تتمدد أفكار تارانت في الفراغ، ولم تُولد من العدم، فموجة اليمين المتطرف تسري في الداخل الأوروبي بسرعة لم تُعرف منذ عقود مضت، وتحديدا منذ أفول النازية والفاشية وغيرها، حيث تصاحب هذه النغمة استدعاء تفوق الرجل الأبيض كممثل للحضارة، وقد عزز من تنامي هذا الخطاب وتحويله من المستوى الشعبي للفعل السياسي وصول ترامب للبيت الأبيض في أميركا، والذي استند في حملته الانتخابية إلى خطابات شعبوية تستدعي إرث الرجل الأبيض، مستبطنا معها العداء للأعراق والثقافات الأخرى، وهي الظاهرة ذاتها التي تكررت في ألمانيا بصعود حزب البديل “AFD”، وكلٍّ من فرنسا وإيطاليا بصعود اليمين إلى السلطة.

تغيرات سياسية، وتنامٍ لخطاب شعبوي بات يحتل حيزا كبيرا في العقل الأوروبي، ويتمازج فيه الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، مع عداء لسياسات الهجرة التي شهدتها بلدان الاتحاد الأوروبي منذ الثورة السورية، وعلى الرأس منها ألمانيا. أراد تارانت أن يُخبرنا بالتفصيل عن ركائز الفكر اليميني، ناقضا معها دعاوى موت الأيديولوجيا، والأفكار الشمولية والعرقية، ودخول عهد النضال الديمقراطي، والاحتكام للصندوق، والمواطنة والمساواة، جنبا إلى جنب مع العولمة الاقتصادية والفكرية، تلك الوعود التي بدأت في التنامي بعد ويلات الحرب العالمية الثانية.
لم يكتف إرهابي نيوزيلندا “برينتون تارانت” بعرض حادثه مباشرة على الإنترنت، في مشهد يشبه استدعاء ألعاب الفيديو، ولا بكتابة أسماء يَمِنِيين ومعارك الصليبيين على سلاحه الناري، فقد جاءت وثيقته احتجاجا على أفكار النظام القائم، ومانفيستو للأجيال القادمة، في سعي لإعادة البوصلة للرجل الأبيض وهيمنته على زعامة العالم!

تنوعت وثيقة تارانت بين معلومات تاريخية، ومعطيات سياسية، ورغبة في الثأر، وحث على مواصلة الرجل الأبيض لمهمته المقدسة، مع تدعيم آرائه بمقولات من حقل الأنثروبولوجيا، بما يحويه من معلومات حول الأجناس والعرق الأبيض، وإحصائيات حول معدلات الخصوبة في العالم، ونقد لقيم الليبرالية والديمقراطية والأسس الفكرية، ليبرهن على شيء واحد عبّر تارنت عنه بوضوح بقوله: “يجب دحر الغزاة عن كامل التراب الأوروبي، بغض النظر عن من أين أتوا أو متى كانوا قد أتوا، الغجر، الأفارقة، الهنود، الأتراك، الساميين، وغيرهم. يجب طردهم ما لم يكونوا ينتمون إلى قومنا، ولكنهم يعيشون على أراضينا”.
الجنس الأبيض، نقاء أم استعمار؟!

“إنها مُعدلات الولادة ”

بدأ تارانت وثيقته بقوله: “إنها معدلات الولادة”، وكررها ثلاث مرات. قصد تارانت أن مشكلته تكمن في تناقص معدلات الولادة للجنس الأبيض، مع زيادتها في الأعراق والأجناس الأخرى المهاجرة إلى بلاده، وهو ما يُحتمل معه أن يحدث إحلال إثني وعرقي بين الأعراق، أو فكري وحضاري بين الثقافات! فكرة الأعراق التي انطلق منها تارانت لم تكن جديدة أو من اختراعه، وإنما لها أصول تاريخية تمتد إلى عصور العقلانية الأوروبية وتأسيس الحداثة. فمنذ عصور النهضة الأوروبية شاعت فكرة تفوق الجنس الأبيض، باعتباره الجنس الوحيد القادر على الإبداع الحضاري دون غيره. على هذا الأساس، تم النظر إلى أوروبا والجنس الأبيض فيها باعتبارهما شيئا واحدا ممتدا عبر التاريخ حتى عصرنا الحالي، وكانت هذه النظرة متمركزة حول “الأنا” الأوروبية، وبهذه “الأنا” تم إعادة قراءة التاريخ والفلسفة والعلوم والفنون بعين أوروبية ومتحيزة إلى العرق الأوروبي.

يشرح الطيب بوعزة، أستاذ الفلسفة الجزائري، هذه الفكرة التي استبطنها العقل الأوروبي، فيقول: “إنه عقل استعلائي يتمركز حول أناه تمركزا عرقيا صريحا أو كامنا. ورغم أن عُقدة الأنا الأوروبي المنغلق يمكن أن نلحظها حتى في القديم (يعني في عصور الرومان والإغريق)، فإن تأسيس قراءة التاريخ البشري على نحو مماثل لهذه الرؤية سيبدأ في التشكل بوضوح في القرن الثامن عشر”. وهذه النظرة الأوروبية الموحدة للتاريخ والفلسفة وأنه خارج من رحم الرجل الأبيض وحسب هي ما وصفها بوعزة بعملية “تزييف للوعي الفكري والفلسفي والتاريخي”.

وقد شاع بين النُّخب الثقافية في مختلف أقطار أوروبا منذ القرن الثامن عشر والتاسع عشر فكرة سمو العرق الأبيض وذكائه فوق غيره من الأعراق، وبدأت هذه الفكرة تأخذ طابع العلمية بالبحث الذي كتبه الفرنسي جوزيف أرثور جوبينو بعنوان: “بحث في لا مساواة الأعراق” الذي يقسم فيه الأجناس، ويحاول البرهنة على تفوق الجنس الأبيض الأوروبي، وليكتب على نهجه باقي الكتاب في أوروبا مثل هيوستن ستيورات شاميرلين في إنجلترا، ولودفينغ فولتمان في ألمانيا. تكمن المفارقة في أن نظرية تفوق الجنس الأبيض ذاتها هي أحد المفاهيم التي استدعاها أدولف هتلر، ووظّفها لخدمة الأيديولوجية النازية لغزو أوروبا كلها، بزعم تفوق الجنس الآري على باقي الأجناس الأوروبية، وقد كانت حصيلتها مأساة الحرب العالمية، والتي لعبت فكرة التفوق العرقي إحدى أهم أدوات التجييش فيها.

لم تتوقف نظرية الأعراق على المنحى البيولوجي والعرقي، وإنما اتخذت منحى ثقافيا يدّعي أحقية ثقافة الرجل الأبيض بقيادة العالم. وعلى ضفاف هذه الفكرة نشأت حِزم من المعارف والآليات التي ارتبطت ارتباطا وثيقا بالاستعمار، وتبريره ثقافيا ومعرفيا، وعلى الرأس من هذه المعارف والعلوم كانت الأنثروبولوجيا والاستشراق. وهو ما تفطن له إدوارد سعيد في كتابيه “الاستشراق” و”الثقافة والإمبريالية”، فقد رأى سعيد أن الاستشراق ليس مجرد طلب الغرب لعلوم الشرق وحسب، وإنما يكمن في بنيته “تحيّز مستمر وماكر من مركزية أوروبية في التعامل مع الشرق وعلومه”.
كانت هذه هي الفكرة التي دندنت حولها وثيقة “تارانت” وحاولت استعادتها، ولو بإبادة باقي الأجناس، لتؤسس مفهوم تفوق الجنس الأبيض، رغم ما عانته أوروبا من ويلات هذه الفكرة التي تمنح الإنسان رتبة الإنسانية بجيناته ولون بشرته وليس على مبدأ الوطنية وحقوق الإنسان كما أسست أوروبا نظامها بعد الحرب العالمية الثانية. يقول تارانت: “فإن فكرة أن كل ما يتطلبه الأمر ليصبح رجل صيني من قومية الهان ألمانيًّا هو أن يُولد على الأرض الألمانية هي فكرة مجنونة بقدر فكرة أن الألماني الذي يُولد على المريخ هو مريخي. إن أوروبا هي أوروبا فقط بفضل إرثها الثقافي والعرقي واللغوي. عندما يتم اعتبار غير الأوروبيين جزءا من أوروبا، فإن هذه لا تعود أوروبا على الإطلاق. قيمة أوروبا هي في الشعب الأوروبي”.
وفي نص أوضح، يتساءل تارانت: “من هم البيض في نظرك؟!”، ليُجيب: “إنهم الأوروبيون بحكم الثقافة والإثنية”. ثم يُردف: “من هم غير البيض في نظرك؟!”، ليُجيب: “غير الأوروبيين بحكم الثقافة والإثنية”. أي إن الحضارة حكر على الرجل الأبيض، والرجل الأبيض هو الأوروبي ثقافة وعرقا، وليس الأبيض لونا فحسب!
مجرد رجل أبيض أم ذئب منفرد؟!
“أنت تنتظر إشارة، لكن الناس ينتظرونك أنت!

أُريد أن أُظهر نتيجة العمل المباشر، وأُنير الدرب لأولئك الراغبين باتباعه، لتحرير أراضي أسلافهم من قبضة الغزاة”

(وثيقة تارانت)
أصرّ تارانت أن يُعرف نفسه في المقام الأول بأنه “مجرد رجل أبيض”، لكن الفارق بينه وبين غيره من البِيض هو قراره بأن يأخذ موقفا لكي يضمن لقومه مستقبلا مشرقا. لم يستطع تارانت -بحسب تعبيره- أن يتجاهل التغير الثقافي الذي يخشى على أوروبا ومعتقداتها منه، فقرر ألا يتجاهل هذه التغير ويبدأ المواجهة مع المهاجرين الذين وصفهم بـ “جماعة الغزاة، من ثقافة تمتلك معدلات خصوبة أعلى من الرجل الأبيض، وذات تقاليد راسخة قوية تسعى لاحتلال أرض شعبي واستبدالهم إثنيا!”.

كان تركيز تارانت على بُعده الحضاري واستعادة حضارة البيض، فرغم توجيهه رسائل إلى المسيحيين والمحافظين وغيرهم، واعترافه بأن حضارة أوروبا ممزوجة بالمسيحية، فإنه لم يُجب عن سؤال “هل أنت مسيحي؟!” بالإثبات أو النفي، وإنما اكتفى بقوله: “هذا أمر معقد. عندما أعرفه سأخبرك”، لكنه استدعى المسيحية في غير مرة باعتبارها جزءا من إرث أوروبا الحضاري والثقافي. أما سؤال “هل أنت قومي” فلم يتردد تارانت في أن يُجيب: “نعم، لأقصى درجة”.
عبارات كتبها منفذ هجوم نيوزيلندا على سلاحه (مواقع التواصل)

كانت مضامين وثيقة تارانت فكرية في المقام الأول، وهو ما جعل خطابه موجها لرفاقه المجهولين، أولئك الذين يحثهم على القيام بشيء ضد هؤلاء المهاجرين الذين يصفهم بـ “الغُزاة”. كانت نظرة تارانت السلبية للمهاجرين، واعتبارهم غزاة غير أبرياء، هي المهيمنة على خطابه حتى نهايته، فقد جعل مبرر هجومه أن تقل معدلات الهجرة فتتلاشى فرص الإحلال الثقافي والإثني ويحمي حضارته من التبدل، ولم ينتظر عملا منظما، فقد أراد بفعله الفردي هذا أن تصل رسالته بأنه قادر كفرد على التأثير. فلم يكن تارانت -بحسب ما ذكر- يسعى إلى الشهرة، فلا أحد سيتذكره بعد بضعة أشهر، واعتبر اتهامه بجنون الشهرة اتهاما مُضحكا، فإن غرضه لم يكن سوى إحداث صدمة تستمر لسنوات قادمة، وتحقق توجيها عمليا للخطاب السياسي والاجتماعي نحو التغيير والخوف من الثقافات الوافدة!
لم ينتمِ تارانت كذلك إلى جماعات يمينية مُنظمة كما ادّعى، سوى تواصلات بينه وبين جماعة “فرسان الهيكل الجديد”، لكنه يعتبر نفسه ممثلا “لملايين الأوروبيين وجموع القوميين الذي يرغبون بالعيش بسلام وسط أبناء قومهم، على أراضيهم، يمارسون تقاليدهم الخاصة”. لذا يقول تارانت بأنه لا يكره المسلمين في بلادهم، لكنه لا يقبل بوجودهم في بلاده، وأما كرهه فينصب على الأوروبيين الذين أسلموا، “أولئك المسلمون الذين كانوا أوروبيين فيما مضى، ثم غيّروا ديانتهم وأداروا ظهورهم لتراثهم، وثقافتهم، وتقاليدهم، وخانوا دم أبناء جلدتهم”. كان تارانت واضحا في رسائله، وجاهرا بأفكاره من غير خجل، فلم يُخفِ تعصّبه أو سعيه لتدمير المهاجرين، بل أعلن بكل صراحة: “أنا متعصب بالطبع! فآخر الفضائل في بلد يحتضر أهلها هي التسامح والتعاطف، وأنا لا أُريد أيًّا منها!”.
رسائل تارانت
“فروا لأراضيكم، ما زالت الفرصة سانحة”
أرسل تارانت عددا من الرسائل: رسالة إلى المحافظين: “المُحافظية ميتة حمدا لله!”. اعتبر تارانت أن المحافظين الأوربيين متناقضون حين يُشجعون المهاجرين واللاجئين بالعمالة الرخيصة، فالأمة الأوروبية -بحسب وصفه- مهددة في لغتها وثقافتها وإثنيتها، ذلك أن أي شخص معه الأوراق القانونية يمكنه أن ينضم إليها، والعمل في مؤسساتها. أما الدين في أوروبا، والذي يدعو المحافظون إلى التمسك به، فيرى أن ما تبقى منه مجرد كنائس خالية، ومراكز تسوق مكتظة! إلى المسيحيين: “فلتسألوا أنفسكم ماذا كان ليفعل البابا أوربانوس الثاني؟!”.

وجّه تارانت خطابه للأتراك بأن يذهبوا إلى شرق البسفور حيث القارة الآسيوية، وتوعّدهم بأن عيشهم في أي بقعة غرب البسفور، أي في القارة الأوروبية، سيجعلهم مهددين بالقتل

الجزيرة

استنهض تارانت همة المسيحيين بأن شعب الرب الجدير بالمجد يئنّ الآن تحت مهانة المساواة المخزية مع إثنيات لشعوب عدوة للرب: “فعار علينا، أيها الأبناء والإخوة، أن ننظر إلى العالم في هذا القرن ونرى خراب المدينة المقدسة. فلتجعلوا نار التوبة تشعل الحرب المقدسة، ليقودنا حب إخواننا إلى القتال. فلتكن حياتنا أقوى من الموت لكي نحارب أعداء الشعب المسيحي”. إلى الماركسيين والشيوعيين: “لا أريد أن أراكم في الشوارع أيها الحثالة المعادون للبيض!”.

لم يسلم الماركسيون وأتباع “أنتيفا” من نقد تارانت، فقد وجه لهم توبيخا بالغباء، إذ إنهم لا يؤمنون بالهرمية الجينية ويريدون أن يتساوى الناس في السلطة بصرف النظر عن أجناسهم، فخاطبهم تارانت قائلا: “لا أريدكم بجواري، لا أريدكم في مرمى بصري. أريد رقابكم تحت حذائي”. إلى الأتراك: “ما زالت الفرصة سانحة، فروا لأراضيكم”. وجّه تارانت خطابه للأتراك بأن يذهبوا إلى شرق البسفور حيث القارة الآسيوية، وتوعّدهم بأن عيشهم في أي بقعة غرب البسفور، أي في القارة الأوروبية، سيجعلهم مهددين بالقتل. واستدعى تارانت خطاب إرث الحروب الصليبية القديمة، وحروب العثمانيين والأوروبيين قائلا: “نحن قادمون من أجل القسطنطينية، وسندمر كل مئذنة ومسجد في المدينة، ستخلو آيا صوفيا من المآذن وستعود القسطنطينية مجددا ليد المسيحية التي امتلكتها ذات يوم”.
عبارات كتبها منفذ هجوم نيوزيلندا على سلاحه (مواقع التواصل)
دوافع وتكتيكات تارانت
“ليكن في علمك أنني تخرجت في المركز الأول على دفعتي في الوحدات العسكرية البحرية، وأنني شاركت في العديد من الطلعات الجوية السرية ضد القاعدة، وأنني قتلت ما يفوق 300 فرد منهم بشكل مؤكد”

(وثيقة تارانت)
اختلطت دوافع تارانت بين الثأر للصليبيين القدامى في حروبهم ضد المسلمين، وبين الانتقام من المهاجرين، وبين الحفاظ على مكانة الرجل الأبيض وهيمنته الحضارية. يقول تارانت: “لقد قمت بهذا العمل لكي أقول للغزاة بأن هذه الأرض لن تكون أرضهم أبدا ما دام هناك رجل أبيض واحد يتنفس، ولكي أنتقم لمئات الآلاف من الموتى الذين سقطوا في الغزو الأجنبي للأراضي الأوروبية عبر التاريخ. تلك الآلاف من الأرواح الأوروبية التي فقدناها في الهجمات الأوروبية الممتدة”.

أراد تارانت بتكتيكه هذا أن تتغير إحداثيات الجغرافيا والسياسة، فنفذ عمليته واصفا دوافعه بأنها: “لكي أدفع خصومنا السياسيين للتصرف، فلن أسمح لهم بالتطاول أبدا، وعليّ أن أدفع العنف والثأر، ولأُوقع بين بلدان الناتو الأوروبية والأتراك شرخا، فيعود الناتو جيشا أوروبيا موحدا، وتعود تركيا مرة أخرى إلى مكانتها.. كقوة أجنبية عدوّة!”، وكانت مناداة تارانت بسيادة الرجل الأبيض وحضارته الممتدة عبر العصور تمثيلا لهوية ثقافية أوروبية موحدة، بحسب تارانت، يشترك فيها كل الرجال البيض. فالرجل الأبيض هو ابن لثقافة واحدة وبلدة واحدة، سواء كان في أوروبا أو نيوزيلندا أو أستراليا أو كندا وأميركا، فكل هذه البقاع هي موطن الرجل الأبيض، فليتنقل فيها حيث شاء، أما المهاجرون فهم غزاة مجرمون يستحقون القتل.

ومن هنا أجاب تارانت عن سؤال “أنت نفسك مهاجر إلى نيوزيلندا، فلِمَ تبغض المهاجرين؟” بقوله: “نعم، لكن ليس في الحقيقة هناك أي إشكال في أن يعيش أسترالي في نيوزيلندا، فهو أشبه بأن يعيش نمساوي في بافاريا وأستراليا ما هي سوى مستعمرة بريطانيا، فهي إذن جزء من أوروبا. فهم لن يقوموا بإحلال إثني للشعب، كما أنهم لن يغيروا ثقافة البلاد، لأنهم الأشخاص أنفسهم بالثقافة نفسها”.
واستدعى تارانت مفهوم وحدة العرق الأوروبي عدة مرات، فقد ذكر أنه مما أثار حفيظته أنه رأى مهاجرين في فرنسا مع عائلاتهم من أصول غير أوروبية، وفي الوقت ذاته كانت مقابر الجنود الفرنسيين القدامى الذين سقطوا في بلاط الشهداء على مرمى البصر، فجلس في سيارته يبكي ويستدعي هذه الذكرى ويتساءل: “هل يُعقل ألا نطلق طلقة واحدة لأجل هؤلاء، فأمام تلك الصُلبان اللا متناهية، وأمام تلك الجنود الموتى الذين فقدناهم في الحروب المنسية، تحول يأسي إلى إحساس بالخزي، وإحساس الخزي إلى إحساس بالذنب، وإحساس الذنب إلى إحساس بالغضب، وإحساسي بالغضب إلى انتفاضة! لا يتصرف أحد؟! فلماذا لا أتصرف بنفسي؟! لقد قررت المعركة واستخدام العنف، أن آخذ المعركة إلى الغزاة بنفسي”.

وقد بدأ تارانت بالتدريب على السلاح لمدة عامين، ثم بدأ بالتخطيط لهجوم “كرايستشيرش” قبل ثلاثة أشهر من الحادث، وهو ما اعتبره تارانت تأخيرا ضروريا لأجل كتابة آرائه والتدريب ورسم الخطة، وقد تمنى لو قتل المزيد ممن سماهم الغزاة.

وقد اعترف تارانت بمشاركته السابقة في حروب شوارع وأنه قناص من الصف الأول في القوات المسلحة الأميركية كلها، فقد استهدف 300 من مقاتلي القاعدة من قبل. وأما المهاجرون فإنهم بالنسبة إليه ليسوا أكثر من هدف مثل غيرهم، سيُزيلهم من على وجه الأرض، ولن تأخذه بهم شفقة ولا بأطفالهم، فإن أطفالهم ليسوا أطفالا بل أبناء للغزاة، وسيصيرون غزاة في يوم من الأيام. وهو ما دفع تارانت لاختيار سلاح ناري كتب عليه أسماء قادة يمينيين، وأسماء ومعارك قديمة، وبث عملية القتل عبر الإنترنت، ويبرر هذا بأن هدفه التأثير الاجتماعي الأكبر الممتد.

اتجهت أوروبا إلى نبذ العنصرية، بعدما رأت أن التعصب العرقي تسبب في تأجيج العداوة فيها، وانتشرت مفاهيم الديمقراطية، ونبذ العنصرية، والمواطنة

الجزيرة

أما عن نيوزيلندا كمكان، فقد اختارها تارانت ليُبرهن بأن الرجل الأبيض قادر على الوصول لأبعد نقطة على أرضه وتطيرها من الغزاة! ولم يُرد أن يتعرض لرجال الشرطة ما داموا أوروبيين إلا إذا هاجموه، لكنه لن يقتلهم: “كنت لأطلق النار باتجاه أماكن غير حيوية في أجسادهم مثل واجهة الفخذ، أو الساق اليسرى، بحيث أُلحق بهم أقل قدر ممكن من الأذى ويتماثلون للشفاء بسرعة”.

ردكلة الرجل الأبيض!
“لا تنخدع بأوهام النصر الديمقراطي، استعد للحرب، استعد للعنف، استعد للمخاطر والخسارة والكفاح، فهذا هو الطريق الوحيد إلى النصر”
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تتعالى في أوروبا نغمة القضاء على الأيديولوجيات الشاملة، وعلى الرأس منها مفاهيم النازية والفاشية. وإزاء زيادة هذه القناعة، اتجهت أوروبا إلى نبذ العنصرية، بعدما رأت أن التعصب العرقي تسبب في تأجيج العداوة فيها، وانتشرت مفاهيم الديمقراطية، ونبذ العنصرية، والمواطنة، ومأسسة الحياة السياسية، بغض النظر عن الانتماءات أو الأصول العرقية.
على هذا الأساس أُنشئت الهيئات الكبرى لحماية ودعم الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم مثل منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن. وبُشّر العالم باختفاء الأيديولوجيا الشاملة والحدّية على المستوى الفكري، مع التفاؤل بزيادة الاندماج والإيمان بقيم الديمقراطية على المستوى السياسي والعملي. لكن حادثة تارانت، تنقض وبشكل صارخ هذه المفاهيم التي خلّفتها الحرب العالمية الثانية، وتُنبئ عن نظرة اليمين المتصاعد في أوروبا لهذه المفاهيم، والتي تشابه آليات القرون الوسطى في تقسيم الناس على حسب أجناسهم وأديانهم وبُلدانهم.

فقد هاجم تارانت فكرة المساواة، واعتبرها أكبر نكتة حمقاء في التاريخ، ورأى أن اتجاه الشباب الغربي إلى الراديكالية غير قابل للتلافي، بل إنه محتوم أيضا، كل ذلك من أجل سيادة الرجل الأبيض فوق غيره. واعتبر تارانت أن الديمقراطية هي حكم الغوغاء التي لا بد ألا تشغل الرجل الأبيض عن التجهيز للمعركة الفاصلة، المعركة التي تتم خلالها المفاصلة الحضارية بين عرقه والأعراق الأخرى. اعتبر تارانت أن ما ينقص أوروبا لتهجير الأعراق غير المرغوب فيها، وسيادة الرجل الأبيض، ليس القوة العسكرية، وإنما قلة الإرادة. فبحسب تارانت: “يمكننا ترحيل أو تدمير جميع السكان الغزاة من غير الأوروبيين في غضون أسبوع، إن نحن كعرق قررنا ذلك فإننا قادرون، لكننا بحاجة إلى الإرادة فحسب”.

لم يسلم المجتمع الأوروبي من نقد تارانت، فقد انتقد مظاهر ما بعد الحداثة والسيولة التي يعيش فيها المجتمع الأوروبي، مثل حالة الفردية التي يعيشها الشباب الغربي، ودعاوى تقبل الثقافات، وأيقونات الشباب من مطربين ونجوم اعتبرهم رموزا للعدمية، تقتات على المخدرات والجنس والمادة مثل مايكل جاكسون، ومادونا، وكورت كوبين، وغيرهم. وقد اعتبر تارانت أن هذه النماذج إنما هي نماذج من الوهم، كما اعتبر أن التنوع الثقافي ليس قوة في حد ذاته، وإنما الاتحاد على الجنس الأوروبي هو القوة.

فالمَخرج الحقيقي -بحسب تارانت واليمنيين من خلفه- يكمن في الراديكالية وعودة الرجل الأبيض لحضارته الذاتية، وطرد الثقافات الهجينة. لم ينس تارانت كذلك في خطابه القادة، إذ اعتبر الرئيس الأميركي دونالد ترامب مُمثّلا لقومية الرجل الأبيض، وإن لم يقتنع به سياسيا. أما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل -والتي فتحت بلادها للمهاجرين واللاجئين- فقد دعا تارانت إلى قتلها ووصفها بأنها “أم كل شيء مُعادٍ للبيض والجيرمان”. أما الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، فهو أيضا يستحق القتل إذ إنه، بحسب تارانت، زعيم أكبر مجموعة إسلامية داخل أوروبا وممثل لأعداء أوروبا، وأن قتله سيُحدث صدعا بين الأتراك والناتو، فتضعف قبضة تركيا على المنطقة.
كانت تلك هي أبرز المضامين الفكرية التي انطلق منها إرهابي نيوزيلندا في وثيقته، ذلك “المنافيستو” الصاعد الذي يُرشح أن يجتاح أفكار اليمين في أوروبا، والذي بناه تارانت على البيانات والمعلومات التي تُمازج بين الواقعي والسياسي، والتاريخي والثقافي، والأنثروبولوجي والأعراق

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.