مَعالمُ ومَلامحُ في الصراع بين الحقّ والباطل .!

كتب بواسطة الدكتور عبد المجيد البيانوني

{وَقُلِ : الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ، فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ }[الكهف:5] .
تكرر ذكر الحقّ في القرآن (187) سبعة وثمانين ومئة مرّة .. وهذه بعض التأمّلات والمَعالم والمَلامح ، لبعض معاني الحقّ في الآيات الكريمة :
1 – أكثر ما استعمل الحقّ في القرآن الكريم في مقابل الباطل والضلال ، والكفر والخروج عن دين الله ، ممّا يعبّر عن قطعيّ الدين ، وحقائقه الكبرى ، المعلومة منه بالضرورة ، التي لا تقبل النقض والخروج عنها .

2 – ويؤكّد ذلك ما جاءَ في دعاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنّه كان إِذا قامَ من الليلِ يتَهجدُ قالَ : « اللهمّ لكَ الحمدُ ، أنتَ قيِّمُ (وفي روايةٍ معلقةٍ: قيَّام) السمواتِ والأرضِ ومَن فيهِنَّ ، ولكَ الحمدُ ، لكَ مُلْكُ (وفي روايةٍ : أنت ربُّ) السمواتِ والأَرضِ ومَن فيهِنَّ ، ولكَ الحمدُ ، أنتَ نورُ السمواتِ والأرضِ ومَن فيهِنَّ ، ولك الحمدُ ، أنتَ مَلِكُ السمواتِ والأَرضِ ، ولكَ الحمدُ ، أنتَ الحقُّ ، وعْدُكَ الحقُّ ، ولقاؤكَ حقٌّ ، وقولُكَ حقٌّ ، والجَنةُ حقٌّ ، والنارُ حقٌّ ، والنبيُّونَ حقٌّ ، ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم حقٌّ ، والساعةُ حقٌّ … » .

3- والله تعالى هو : “الحقّ” في ذاته وصفاته ، فهو واجب الوجود ، كامل الصفات والنعوت ، وجوده من لوازم ذاته ، ولا وجود لشيء من الأشياء إلاّ به . فهو الذي لم يزل ولا يزال بالجلال والجمال والكمال موصوفا ، ولم يزل ولا يزال بالإحسان معروفاً .
فقوله تعالى حَقّ ، وفعله حَقّ ، ولقاؤه حَقّ ، ورسله حَقّ ، وكتبه حَقّ ، ودينه هو الحقّ ، وعبادته وحده لا شريك له هي الحقّ ، وكل شيء ينسب إليه فهو حَقّ : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ}.{وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} {فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلا الضَّلالُ}{وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} . تفسير السعدي .

4 – وقال الزمخشريّ : {رَبُّكُمُ الحَقُّ} الثابت ربوبيته ثباتاً ، لا ريب فيه لمَن حقّق النظر ، {فَمَاذَا بَعْدَ الحَقّ إِلاَّ الضَّلاَلُ }يعني أنّ الحقّ والضلال لا واسطة بينهما ، فمن تخطى الحقّ وقع في الضلال {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} عن الحقّ إلى الضلال ، وعن التوحيد إلى الشرك ، وعن السعادة إلى الشقاء .. فكأنهم كانوا يقرّون بألسنتهم مرّة ، ومرّة كانوا يتلعثمون عناداً وضراراً وحذاراً من إلزام الحجة .

5 – إنّ «الإنسانَ » يحتاج إلى هدى اللّه في كلّ ما يختصّ بكينونته وحياته من عقيدة وخلق ، وموازين وقيم ، وأنظمة وقوانين ، تحكم هذه الكينونة وتنظم لها واقع الحياة ..
وكلّما فاء هذا «الإنسان» إلى هدى اللّه اهتدى . لأنّ هدى اللّه هو الهدى . وكلّما بعد كلية عنه ، أو انحرف بعض الانحراف ، واستبدل به شيئاً من عنده ضلّ . لأنّ ما ليس من هدى اللّه فهو ضلال .. فليس هنالك نوع ثالث : « فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال ؟ » . وهذه حقيقة قوله تعالى : « وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالَمِينَ » . في ظلال القرآن .

6 – وقد استقصى الإمام الراغب في المفردات ما يدور عليه معنى الحقّ ، فقال : « حقّ : أصل الحقّ المطابقة والموافقة كمطابقة رجل الباب في حقّه لدورانه على استقامة .
والحقّ يقال على أوجه : الأول : يقال لموجد الشيء بسبب ما تقتضيه الحكمة ، ولهذا قيل في الله تعالى هو الحقّ ، قال الله تعالى : {ثمّ رُدّوا إلى الله مَولاهم الحقّ } ، وقيل بعيد ذلك : {فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}[يونس:32] .
والثاني : يقال للموجد بحسب مقتضى الحكمة ، ولهذا يقال : فعل الله تعالى كلّه حقّ ، وقال تعالى : { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً } إلى قوله تعالى : { ما خلق الله ذلك إلاّ بالحقّ } وقال في القيامة : { ويستنبئونك أحقّ هو قل إي وربّي إنّه لحقّ } { ليكتمون الحقّ } ، وقوله عزّ وجلّ : { الحقّ من ربك } ، { وإنّه للحقّ من ربّك } .
والثالث : في الاعتقاد للشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء في نفسه ، كقولنا اعتقاد فلان في البعث والثواب والعقاب والجنّة والنار حقّ ، قال الله تعالى : { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحقّ } .
والرابع : للفعل والقول الواقع بحسب ما يجب ، وبقدر ما يجب ، وفي الوقت الذي يجب ، كقولنا فعلك حقّ ، وقولك حقّ ، قال الله تعالى : { كذلك حقّت كلمة ربك } ، { حقّ القول منّي لأملأنّ جهنّم } ، وقوله عزّ وجلّ : { ولو اتّبع الحقّ أهواءهم } يصحّ أن يكون المراد به الله تعالى ، ويصحّ أن يراد به الحكم ، الذي هو بحسب مقتضى الحكمة .
7 – ويقال : أحققت كذا أي أثبتّه حقّاً أو حكمت بكونه حقّاً ، وقوله تعالى : { ليحقّ الحقّ } فإحقاق الحقّ على ضربين :
أحدهما بإظهار الأدلّة والآيات كما قال تعالى : { وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً } أي حجّة قويّة .
والثاني : بإكمال الشريعة ، وبثّها في الكافّة كقوله تعالى : { والله متمّ نوره ولو كره الكافرون ، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ، ليظهره على الدين كلّه } ، وقوله : { الحاقّة ما الحاقّة } إشارة إلى القيامة كما فسّره بقوله : { يوم يقوم الناس } لأنّه يحقّ فيه الجزاء ، ويقال : حاققته فحققته أي خاصمته في الحقّ فغلبته . وفلان نزق الحقاق إذا خاصم في صغار الأمور . ويستعمل استعمال الواجب واللازم والجائز ، نحو : { وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين } ، { كذلك حقّاً علينا ننج المؤمنين } ، وقوله تعالى : { حقيق على أن لا أقول على الله إلاّ الحقّ } قيل : معناه جدير ، وقرئ : حقيق علي قيل واجب ، وقوله تعالى : { وبعولتهنّ أحقّ بردهنّ } .
8 – والحقيقة تستعمل تارة في الشيء الذي له ثبات ووجود ، كقوله صلى الله عليه وسلم لحارثة : ( لكلّ حقّ حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ؟ ) أي ما الذي ينبئ عن كون ما تدعيه حقّاً ، وفلان يحمي حقيقته : أي ما يحقّ عليه أن يحمى . وتارة تستعمل في الاعتقاد كما تقدّم ، وتارة في العمل ، وفي القول ، فيقال : فلان لفعله حقيقة ، إذا لم يكن مرائياً فيه ، ولقوله حقيقة إذا لم يكن فيه مترخّصاً ومستزيداً ، ويستعمل في ضده المُتجوّز والمتوسّع والمتفسّح ، وقيل : الدنيا باطل ، والآخرة حقيقة ، تنبيهاً على زوال هذه وبقاء تلك .
وأمّا في تعارف الفقهاء والمتكلّمين : فهي اللفظ المستعمل فيما وضع له في أصل اللغة . والحقّ من الإبل ما استحق أن يحمل عليه ، والأنثى حقّة ، والجمع حقاق » .
9 – وبناء على ما تقدّم فإنّ التأمّل والتدبّر لكتاب الله تعالى يقفنا على مَعالم ومَلامح من الصراع بين الحقّ والباطل ، ليكون المؤمن الحقّ على وعي وبصيرة من دينه ، فلا يخدع بشيء من ترّهات الباطل وأحابيله ، عن شيء من الرشد وحقائق دينه ..
10 – {وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ …}[الكهف:29] ، الحقّ أصعب رقم في الوجود ، لأنّ السموات والأرض قامت عليه .. فلا يمكن إلغاؤه وشطبه مهما حاول أولياء الباطل وأنصاره .. إلاّ إذا أمكن إلغاء رقم من منظومة الأعداد والأرقام ..
11 – {فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}[يونس:32] :
(الحقّ من ربّكم) خلقاً وقدراً ، وأمراً وتكليفاً ، فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال .؟ فليس للإنسان العاقل إلاّ أن يذعن للحقّ ويستسلم ، وإلاّ فإنّه لن يستطيع تغيير شيء من قدر الحقّ أو أمر الحقّ .. وإن حاول ذلك فليس أجهل منه ولا أحمق ..
12 – وقد يبتلى أهل الحقّ ، ويهمّشون عن الفاعليّة في الحياة إلى حين ، وذلك بتسلّط أهل الباطل ، فهذا لا يزلزل الحقّ عن رسوخه قدراً ووجوداً ومآلاً ، وربّما كان ذلك بتقصير أهل الحقّ في الأخذ بأسباب القوّة .. {… وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}[الفرقان:20] .
13 – وإنّ للحقّ في هذا الوجود منظومة ، سننيّة للإصلاح وعمارة الأرض ، ومعها الله تعالى بالتأييد والرعاية والتثبيت .. وللباطل منظومة للإفساد في الأرض .. فكن مع منظومة الحقّ ، ولا تكن مع منظومة الباطل ، فهي في حقيقتها زبد يذهب جفاء ..
يقول الله تعالى : {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ}[الرعد:17] . فالحقّ معدن نفيس ، ينفع حيثما وقع ، والباطل زَبَد خسيس ، لا قيمة له ولا وزن ، يضرّ ولا ينفع ، وأوّل ما يضرّ أولياءه ، وليس له إلاّ سوء العاقبة .. وأيّ حركة من الحقّ تهزم أضعافها من الباطل ، كما أنّ قليلاً من النور يبدّد كثيراً من الظلمات ، شرط أن يكون في الاتّجاه الصحيح .. لأنّ في الحقّ سرّ قوّته وانتصاره ، وفي الباطل معاول هدمه وهزيمته .. وربّما طال عُمرُ الباطل ونَفَسُه لبقيّة خير فيه ، أو أثارة باطل في حملة الحقّ ، ولكنّ العبرة بالخواتيم .
اللهمّ اجعلنا ممّن يستسلم في كلّ شؤونه للحقّ ، ويتحرّك بالحقّ ، وينتصر للحقّ ، وافتح بيننا وبين قومنا بالحقّ ، وأنت خير الفاتحين . وحَبّب إِلَيْنا الإِيمَانَ ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِنا ، وَكَرَّهَ إِلَيْنا الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ ، واجعلنا من الرَّاشِدِينَ .
« اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مَنِ الحَقِّ بِإِذْنِكَ ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ » .

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.