من تساؤلات قارئ الحديث المتأمل

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-، عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ غَرَسَ غَرْسًا، فَأَكَلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ».

لنركز في هذه الرواية على كلمة (مسلم) وعلى كلمة (يغرس) وعلى كلمة (إنسان) وكلمة (دابة) وعلى كلمة (صدقة)…

فوصف الأول بالمسلم لأن المسلم هو المخاطب الأول بتطبيق منهج الله، والعمل بمقتضاه، والحرص على ذلك بغض النظر عن الواقع أو الحال أو الظرف…
ومن تلك المقتضيات أنه معطاء للخير، نفاع حيث يكثر الضر، كريم حيث يشيع الجشع والبخل، رحيم حيث تعم الغلظة والقسوة…
والمسلم يغرس لينتفع غيره، والغرس في الواقع عملية بطيئة النتائج، ونتائجها غير يقينية الوقوع، ولكن فيها من الأمل، والتفاؤل وصلاح السريرة وحب الخير، والإصرار على النفع والصلاح والإصلاح الشيء الكثير، لذلك جاء فعله ماضيا للدلالة على تحقق هذه المعاني، وتحقق المقصود، وأن من المسلم إذا تمكن من عملية الغرس بكل تلك المعاني فإن نتائجها ستتحقق بإذن الله تعالى…

والغرس له معنيان: معنى حقيقي وهو الواضح في هذا الحديث، وهو غرس النبات والشجر والثمار لينتفع به الناس، وهذا غرس مادي تنتفع به المادة في الإنسان…
وهناك غرس معنوي يرافق ذلك الغرس، وهو غرس كل تلك القيم في كيان المسلم، فالمسلم الذي يغرس لينتفع غيره، هو في نفس الوقت يغرس حب الخير في نفوس الناس، يغرس قيمة التضحية من أجل الصالح العام، يغرس الإخلاص لأنك لما تأتي إلى شجرة وتقطع ثمارها أو تشتري فاكهة وتتلذذ بطعمها، لا تسأل عن غارس شجرها بل قد لا تأبه بذلك، وهو الذي غرسها لينتفع بها مجهول من الناس ليس بينه وبينه أي صلة أو مصلحة أو قرابة، وهذا قمة في غرس بذرة الإخلاص، والصدق والصلاح والإصلاح…فعلى المربين والدعاة والعلماء والمؤسسات التعليمية أن يتبنوا #سياسة_الغرس في مناهجهم التربوية والتعليمية…

لنأتي إلى كلمة (إنسان) فغرس المسلم بكلا معنييه عملية إنسانية، ودعوة إنسانية، وتوجه إنساني لا تمييز فيه لدين أو طائفة أو مذهب أو حركة أو اتجاه، بل هو موجه لكل من وقع عليه اسم إنسان، وإنسان هنا جاءت نكرة للدلالة على الشيوع، ولم تقيد بصفة كصالح أو متعاون أو نظيف أو مخلص، وإنما هو إنسان مجهول الهوية والنسبة والصفة الإضافية، وهذا إمعان في غرس مبدإ حب الخير والنفع، وتقوية آصرة الإنسانية، لأن ذلك الإنسان الذي سيطعم من تلك الثمرة لن يسأل عن غارسها أو عن هويته أو صفته أو شكله، وهنا ملحظ مهم عجيب في الإسلام، وهو الحرص على شيوع الخير ووصوله إلى الناس بغض النظر عن إضافته في السيرة الذاتية أو لم يضف…

ولنأت إلى كلمة (دابة) وهي بعد المسلم الأرضي والكوني الذي يصل إلى كل المخلوقات حيها وجامدها، وهذا فيه من غرس معاني الرأفة والرحمة والحفاظ على التوازن البيئي ومكافحة أسباب انقراض الحيوان، والأستاذية بالرفق بالحيوان، وتمكينه من وسائل العيش، ومكافحة أسباب نفوقه، والعبث بحياته، إلى غير ذلك مما يفهم من هذه الكلمة، وفي تقديم كلمة (إنسان) على كلمة (دابة) دلالة واضحة وإشارة صريحة على أن الاهتمام والرفق بالإنسان، مقدم على الاهتمام والرفق بالحيوان، وكل خلط في هذا الترتيب ظلم ورفق مصطنع وكذب وبهتان، فأولى أولويات الغارس المتوازن الصادق والمخلص ينبغي أن يكون هو استفادة الإنسان قبل غيره من المخلوقات…

لنات إلى كلمة (صدقة) وهي من الصدق والصدق تطابق بين القول والفعل، فهي صدقة دالة على وقوع الثواب والأجر كوقوع العطاء في يد محتاجه، ودالة على صدق فعل الذي ترتبت عنه، ودالة على إخلاص فاعله وموافقته لمنهج الله وما صدقات ذلك، ودالة على أن ذلك الغرس قد آتى أكله المتوازن ووصل إلى مقصوده…

وهذا كله يقوم به المسلم بغض النظر عن الواقع أو الآخر، فهو غرس داخلي وتربية داخلية صالحة لكل زمان ومكان ومع كل إنسان، فلنحرص على ثقافة الغرس وسياسة الغرس لنرجع إلى الأستاذية الحقيقية للعالم…

سفيان أبوزيد

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.