صلاح كل عصر، في سورة ا

بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

ابتدأت هذه السورة الجامعة النافعة الشاملة الكاملة، بقسم رباني مقسمه رب السماوات والأرض، والعظيم على يقسم إلا بعظيم..
فلماذا القسم بالعصر؟ وما دلالة العصر؟ وما عظمته؟

العصر هنا هو الوقت بالنظر إلى اختلاف أحواله وطول سنينه ومواكبة أحداثه وأحواله وتغيراته وتقلباته وناسه، فهو نظر إلى الوقت والزمن نظرة دقيقة لمفرداته، ذلك العصر والزمن الذي هو رأس مال الإنسان، يحاول ما أمكن أن يتمسك به ويستمتع بلحظاته، ويستثمره في مصالحه، ويفهم غوابره ويجتهد في استغلاله، فهو وعاء الإنسان، فإذا كسر أو امتلأ حانت نهاية كل شيء وأسدل الستار.
وهنا تظهر عظمة هذا العصر الذي يمثل كل شيء بالنسبة للإنسان، ويتمنى طوله، وألا تأتي نهايته، فلعظمته عند الإنسان أقسم الله به، ليتنبه الإنسان لما بعد القسم من مقسم عليه.

(إن الانسان لفي خسر)
جاء المقسم عليه مؤكدا بـ (إن) تأكيدا بعد تأكيد القسم، وعبر بالإنسان إشارة لمعنى الأنس والطمأنينة والمعاني الأنسانية التي لا يمكن للإنسان أن يأنس ويسعد ويستمر إلا إذا كانت عامة عادلة شاملة.
وجاء التأكيد باللام كذلك، فتأكيد بعد تأكيد بعد تأكيد لوقوع الإنسان في الخسر، ذلك الخسر الذي كان يهرب منه ويحاول الابتعاد عنه، وتحقيق نقيضه من النجاح والربح والتنمية وصلاح الحال والمستقبل، يخبره القرآن بأنه في خسر مظروف فيه وفي تفاصيله، ومآلاته بشكل يقيني ومؤكد.
وعبر بالخسر هنا دون الخسران أو الخسارة مناسبة لحال التفصيل الذي في دلاله العصر، فدلالة الخسر تفصيلية، أي الخسر في كل التفاصيل والدقائق، فتعاملك أيها الإنسان مع عصرك، بمستجداته وتقلباته وأحواله وناسه وتفاصيله هو في خسر أو آيل إلى الخسر ما دام بعيدا عن منهج الله والإيمان به.

ثم جاء الاستثناء (إلا) بالحل والأمل والانقاذ والانعتاق من هوة ذلك الخسر، وجاء المستثنى منه والناجي من ذلك الخسر، والمنقَذ منه موصوفا بأربع صفات، وهي بمثابة شروط النجاة، إلا أنها جاءت على صيغة صفات، إشارة إلى فاعليتها وضرورة الاتصاف بها وممارستها وتحققها، وإخراجها من دائرة النظرية والقانونية إلى ميدان التطبيق والعمل.

(الذين آمنوا) أي حققوا الإيمان بحقيقته ومقاصده، وهنا يتجلى الإصلاح الفكري والعقلي المنطلق من الإيمان بالله.

(وعملوا الصالحات) أي صار عمل الصالحات وقصد الصالحات والتعاون على الصالحات والاجتهاد في الصالحات وجهتهم ومنهجهم وقبلتهم، لذلك عبر بالعمل الذي هو فعل ومقوم وقصد، وعبر بالصالحات أي الأعمال الصالحة، في قصدها ومنهجها ونتائجها فهي صالحة في ذاتها وفي توسلها وفي مآلها.

(وتواصوا بالحق) أي حققوا ذلك وفعلوه فيما بينهم من خلال برامج وقوانين ودساتير ومناهج ومواثيق، والتواصي فيه معنى التفاعل في وزنه، فالمسؤولية فيه مشتركة كل حسب الثغر الذي هو فيه، وتزداد مهمته بازدياد أهمية الثغر، وكل في حاجة إلى ذلك التواصي، وفيه معنى التواصل، أي أن ذلك التواصي هو عملي وحركي، وتستخدم فيه جميع وسائل التواصل والإعلام الممكنة والمتاحة، وهو تواص بالحق، في وسائله وخطابه ومضمونه ومنهجه، فهو ملاصق ومصاحب للحق ومتوسل به إلى الحق، والحق هو كل موقف محكم وصحيح في غايته ووسيلته ونتائجه، وهو ما وجب فعله في حينه، وهذا الموقف قد يكون واضحا جليا يجب تبنيه والتزامه، وقد يكون خفيا يجب استفراغ الجهد في إيجاده والبحث عنه وتوجيه البوصلة إليه، وجاء الشرع حاضنا لذلك التوجه وموجها له.

(وتواصوا بالصبر) بعد تواصيهم وتواصلهم بالحق وفي الحق وعلى الحق، لاشك بأن ذلك قد ينتج عن تضحية واستفراغ جهد، وخطأ وسوء تقدير وعودة وتوبة وابتلاء وصراع وامتحان واختباروتغرير وإغراء، وكل هذا يحتاج إلى تحمل وصبر وطول نفس وتمسك بحق وتوثق بفأل وأمل، في حملة صبرية جماعية منظمة مستمرة متواصلة شاملة كاملة متعددة الجواب والتخصصات، يتوسل بها إلى استمرار منظومة التواصي بالحق…

فإن تطلع الإنسان إلى هذه الصفات وحاولها وعمل بها وثبت عليها، فإنه لا ولن يناله خسر بقدر محاولته واستمراره وثباته.

والحمد لله رب العالمين

سفيان أبوزيد

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.