سُلطانُ العلماءِ وعُلماء السُلطانِ

بقلم : سياف مصطفى

لما وليّ الصديق أبوبكر رضي الله عنه الخلافة قام في الناس خطيباً فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني.. إلى أن قال: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. كانت هذه أول كلمات للصديق فور توليه أمر الناس، مبيناً في ثناياها أنه وُليَ على الناس ليس لأفضليته عليهم -تواضعاً منه إذ شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالأفضلية- وأنه إن توَسد الأمر قد يطرأ عليه النسيان أو الخطأ، فيحتاج إلى النصح إن أخطأ والتنبيه أن نسي، ثم وضع قاعدةً ينبغي لكل من تولي أمر الناس أن يضعها نصب عينيه “أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم” حتى لا تتكبر نفس من تولى أمراً وتغتر بما تقلدت من منصب وبما أوتيت من جاه.

من تأمل في هذه الكلمات يتبينُ له أن أولى الناس الذين يشملهم خطاب الصديق “وإن أسأت فقوموني” هم أهل العلم والدراية، من آتاهم الله فقهاً وعلماً، لأنهم أعرفُ الناس بالحلال والحرام بالمتشابه والمُحكم، بالمسائل القطعية والخلافية. فلما كان هذا حال من يتولى أمر الناس يقرب البطانة الصالحة ويضع نفسه موضع المُكلفِ لا المُشرف كانت قضايا الأمة ومشاكلها تحل بمشورتهم. لذلك لما مرض أبو بكر الصديق رضي الله عنه مرضه الذي مات فيه قال: انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة بعدي، قالت عائشة رضي الله عنها: فلما مات نظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل صبيانه، وناضح كان يسقي بستانا له فبعثنا بهما إلى عمر فقال رحمة الله على أبي بكر لقد أتعب من بعده.
 
“هكذا كان سلطان الإمارة يقف من خلفه سلطان العلم”
 

سُلْطَانُ العلم وهيبةُ العلماء


يقول الشيخ الدكتور عبدالحي يوسف: “علماء السوء نعني بهم أولئك الذين قصدهم من العلم التنعم بالدنيا والتوصل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها”

كان العلماء الربانيون يصدحون بالحق، ولا تأخذهم فيه لومة لائم، فحفظوا للعلم هيبته وسلطانه، إذا أستشارهم الحاكم العادل وطلب نصحاً بذلوه، وإذا توعدهم الظالم ثبتوا على الحق وجهروا به، علموا أن الله خصهم دون سواهم بعلم علمه إياهم، وحملهم على عاتقهم أمانة عظمت معها مسؤوليتهم، فحفظوا عهد الله ببيان ما ولاهم إياه “وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ” فهذا هارون الرشيد رحمه الله يطلب من الفضيل بن عياض رحمه الله أن ينصحه، وأن يشير عليه فقال له الفضيل: إن عمر بن عبدالعزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبدالله ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة، فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا عليَّ: فعد الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة. فقال له سالم بن عبدالله: إن أردت النجاة من عذاب الله فصم الدنيا. وليكن إفطارُك منها الموت. وقال محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المؤمنين عندك أباً، وأوسطهم عندك أخاً، وأصغرهم عندك ولداً؛ فوقِّر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك.وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله عزَّ وجلّ فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، وأكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت.

وإني أقول لك: إني أخاف عليك أشد الخوف يوم تزل الأقدام، فهل معك -رحمك الله- مثل هؤلاء، أو من يشير عليك بمثل هذا؟ فبكى هارون بكاء شديداً. فلو كان الفضيل يريد نوالاً لأكثر من الإطراء والمدح ووصف هارون الرشيد بأنه المصلح -وهارون كان كذلك- ولو كان يخشى بطشاً لتملقه وطوع كل شيء ليتجنب بأسه، لكن لأن الراعي كان مصلحا والعالم كان ناصحاً أميناً لا يخشى في الله لومة لائم، ذكره بنقصه، وبين له موضع خلله، ووضع يده على الجرح ليلتئم، فحفظ للدين هيبته، وذكر الخليفة بما كان ينقصه، فرفع الله ذكره وتوالت الألسنة بالثناء عليه..
 
وهذا الإمام الحبر أحمد بن حنبل رحمه الله لما دخل على المأمون في فتنة خلق القرآن، استشاط المأمون غضباً، وقام فزعاً وقال للإمام أحمد بصوت عال وحدة غضب: هذا هو سيفي قد جردته من غمده فو الله لا أدخله فيه.. إلا أن تعترف بخلق القرآن. كان يسع الإمام أحمد ما وسع غيره من الترخص حين الإكراه، وكان يسعه الصمت لينجو من بطش السلطان، لكن الإمام أحمد علم أن خلفه خلقاً كثيرين ينتظرون قولته، فإن ذل فقد يضل على إثره كثيرون، فآثر أن يقول الحق ويصدح به ويثبت عليه فبين أن القرآن غير مخلوق، فوقف بذلك في وجه السلطان، فضُرب لأجل ذلك وسجن، وثبت الله به الأمة من بعده، فعز ذكره ورفع الله قدره وأجرى الله إلى يومنا هذا ألسنة الناس بالثناء عليه.

هذه نماذج لعلماء حفظوا للعلم سُلطانه ونصحوا لذي السلطان بالعلم الذي معهم، و غيرهم كثير كالإمام مالك رحمه الله لما أفتى رحمه الله أن يمين المكره لا تلزمه، وكان أبو جعفر المنصور يريد من الإمام مالك أن يفتي ب

غير ذلك، لقي عقابا على ثباته على مبدئه، وكان يسع الإمام مالك في هذه الفتنة أن يأخذ بالرخصة ويسلم من الأذى، فشرف بذلك ورفع الله قدره بثباته، وحق أن يقال فيه:

يدع الجـواب فلا يراجع هيبة
والسائلون نـــــواكس الأذقانِ

أدب الوقار وعزُّ سلطان التقى
فهو المطاعُ وليس ذا سلطانِ!

وغيرهم ممن رفع الله ذكرهم، وحفظ جهادهم وكلمة الحق التي قالوا بها، هم سلف وواجبٌ علينا أن نتبع نهجهم، وعلى من تقلد رايتهم أن لا ينكسها ويرمي بها في أحضان كل ظالم وفاجر.
  
عُلماء السُلطان

وبضد ما ذكر سابقاً، يوجد صنفٌ من الذين آتاهم الله علماً، وزادهم فيه درجةً، من يُداهن به ذا السلطان الجائر، يتملق به ليبلغ عنده مكانة ومنزلة، يمدح تارة ويلوي أعناق النصوص أخرى ليوافق هوىً لذلك السلطان، مثل هؤلاء والذين ينظرُ إليهم العامة على أنهم قدوة وأسوة، كانوا سبباً في سقوط هيبة العلم والعلماء عند كثيرين. كيف لا والواحدُ منهم يحكي عن جهاد الصحابة والصالحين في إعلاء كلمة ربهم وصبرهم على البلاء، ثم يناقض قوله بفعله وينسف ما بنى بمواقفه. يرى الناس من ذي الظالم جوراً وسفوراً جهاراً نهاراً ثم يجتهد هو في إيجاد المخارج له، والبحث عن التبرير له.

  
فلا يستوي أبداً من كان معتزاً بدينه رافعاً به هامته، يدفع عنه في كل محفل ومَجمَع، ومن نكسه وتذلل به وأشترى به لعاعة من الدنيا، وأسوأ ممن تذلل به ذاك الذي طوعه لخدمة طاغية أو فاجر أو ذي منصب، يصدق فيه قول القائل:

عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى
وللمشتري دنياه بالدين أعجب

وأعجبُ من هذين من باع دينه
بدنيا سواه فهو من ذين أخيبُ

يقول الشيخ الدكتور عبدالحي يوسف: “علماء السوء نعني بهم أولئك الذين قصدهم من العلم التنعم بالدنيا والتوصل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها”، تلك الطائفة التي ما انفكت تعين على الباطل وتروج له بالصد عن سبيل الله وتحريف الكلم عن مواضعه وقطع الطريق التي تصل العباد بالله، والتي جعلها حكام السوء في كل زمان مطية لتزيين الشهوات وتبرير المنكرات. هذه الفئة النكرة حذرنا منها رب العالمين في كتابه وضرب لها مثلاً “وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” سورة الأعراف.

فالمتأمل يجد طائفة من هؤلاء في زماننا ما اكتفت بإعانة الظالم فقط، بل لوت أعناق النصوص من أجل أن تبرر له وتدعم مشروعه وتقف خلفه مدحاً وإطراء وتبجيلاً أهانوا أنفسهم قبل أن يضعوا من قدر ما حملوا.. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد توعد من وليَ أمر الناس فغشهم وكتم عنهم بقوله : (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) وفي رواية لمسلم: “ثُمَّ لاَ يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ”. والغش ضد النصيحة، وعدم القيام بما فيه نجاتهم مع قدرته. فيدخل في ذلك من آتاه الله علماً فهو مسترعاً في دين الله، يحفظ للناس دينهم وينصح لهم.

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.