سيرة مشروع سياسي.. لماذا اهتمت إسرائيل والغرب بوفاة القرضاوي؟

“القرضاوي رجل حنفي المنهج، ووقعت له مشكلة مع الحنابلة في المنهج أيضا، القرضاوي مجتهد، مجتهد بكل ما تحمل الكلمة من معنى.. هناك شباب لا يعرف شيئا، وأنا أعي ما أقول، هناك أمور سياسية هي التي أدَّت إلى وجود هجوم على الشيخ القرضاوي”.

(الشيخ فريد الأنصاري مجيبا عن سؤال حول القيمة العلمية لكتاب “الحلال والحرام” الشهير للشيخ القرضاوي)

محبون ومؤيدون وصامتون، حاقدون وناقمون ثم آخرون شامتون، هكذا يتعامل الناس مع موت الشخصيات العامة خصوصا تلك التي يختلفون حولها. لم تخرج العادة عن المألوف بعد وفاة الشيخ يوسف القرضاوي، بل احتد الناس في وصف الراحل بين فريق يمدح مشروعه في تجديد الدين، وآخر يرى فيه مجرد مُنظِّر فكري وشرعي للإسلام السياسي، الخصم الأول للعديد من الأنظمة العربية والغربية على حدٍّ سواء.

حب من أول كلمة
“كنت منذ وعيت أستمع إلى حديث الهجرة كل عام من علماء قريتنا، وهو حديث مكرور لا يعدو الحديث عن قصة العنكبوت والحمام وما يجري مجرى ذلك. أما هذه الليلة فقد سمعت حديثا جديدا أصيلا، لا عهد لي بمثله”.

تبدأ جميع المشاريع الكبيرة بخطوة صغيرة، بتحرُّك صغير، من قرية صغيرة كقرية “صفط تراب”، تلك القرية التي قدم منها الشيخ يوسف القرضاوي، وهي إحدى قرى مركز المحلة الكبرى التابع لمحافظة الغربية، هناك نشأ الشيخ صغيرا في نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات من القرن الماضي، تحت جناح عمه الذي أخذ على عاتقه تربيته بعد وفاة والده الذي لم يعرفه في حياته وتركه منتقلا إلى الرفيق الأعلى وهو دون السنتين.

ستنطلق حكاية الشيخ من بيت عمه إذن، في ليلة طلب منه فيها الرقود حتى يتسنى لابن عمه وبعض رفاقه الذهاب إلى درس للشيخ حسن البنا، وكانت طنطا تحتفل يومها بقدوم الشيخ مرشد الإخوان المسلمين للاحتفال بذكرى الهجرة النبوية. ورغم صغر سنه، أصرَّ الطفل يوسف على حضور هذا المجلس الذي قد يمتد لساعات طويلة لرؤية الشيخ حسن البنا الذي ينتشر صيته في مصر كلها. تحدث البنا حينها عن الهجرة النبوية باعتبارها نهاية مرحلة أولى، بنى فيها النبي عليه الصلاة والسلام الفرد، منطلقا إلى المدينة لإقامة المجتمع. أُعجب الطفل يوسف بهذا الكلام، كان الكلام عن الهجرة مختلفا هذه المرة، صحيح أنه سمع القصة مرات ومرات، لكن الحديث هذه المرة كان “أصيلا” لم يعهده من قبل، ولشدة إعجابه بكلامه، كاد يحفظه عن ظهر قلب، بعد أن “عرف معانيه وهضم مغزاه الحقيقي”، كما عبَّر بنفسه.

منذ ذلك اليوم، حرص القرضاوي على الاستماع لحسن البنا كلما زار الأخير مدينة طنطا، كما تأثر تأثرا كبيرا بالإخوان المسلمين الذين كانوا يجوبون الشوارع رافعين أعلامهم وهاتفين بشعاراتهم الداعية “لرفعة الإسلام وإعلاء كلمة الله”. حظي الفتى القروي بعد ذلك بفرص متعددة للاستماع للبنا، فتعلق به تعلقا شديدا، يصفه هو نفسه بـ”تعلق المريد بالشيخ، والتلميذ بالأستاذ، والجندي بالقائد”، حتى قبل أن ينضم إلى الجماعة.

بدأت ثنائية “التقوى” و”الوعي السياسي” تتشكَّل مبكرا لدى القرضاوي عبر أستاذه حسن البنا كما يروي هو عن نفسه، فخلال إحدى زيارات هذا الأخير لمدينة طنطا لإحياء ذكرى الإسراء والمعراج، تحدث مؤسس جماعة الإخوان المسلمين عن فلسطين، محذِّرا من خطر “المشروع الصهيوني” الذي يتم إعداده على عين بريطانيا، كما لم تخلُ كلمة البنا من الدعوة إلى الحشد ضد الاستعمار البريطاني لمصر، عبر الدعوة إلى تجميع المسلمين والأقباط وعدم الانسياق وراء دعوات الفتنة الدينية التي تهدف إليها القوى الاستعمارية لإحكام سيطرتها على البلاد.

تفاجأ القرضاوي الذي كان تلميذا في الابتدائية من طريقة تصنيف حسن البنا للوطن على 3 مستويات: الوطن الصغير، الذي يضم مصر التي ترزح تحت نير الاستعمار بحدودها كاملة خلال تلك الفترة، ثم الوطن الكبير الذي هو الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، وأخيرا الوطن الأكبر الذي هو “الوطن الإسلامي”. بدا الذهول واضحا على مُحيا الطفل يوسف وهو يسمع عن هذه الدائرة الإسلامية، من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلسي، مُلتقطا كلمات أستاذه الذي يدعو إلى تحرير تونس والجزائر والمغرب من الاستعمار الفرنسي، وإندونيسيا من الاستعمار الهولندي، مُشيرا إلى ما ذكره الفقهاء بأنه “إذا أُسِرَت امرأة في المشرق، وعجز أهل المشرق عن أن ينقذوها من أسرها، فعلى أهل المغرب أن يقوموا بذلك”.

تعرف القرضاوي في تلك الفترة على معضلة الاستعمار ثم على الأفكار السياسية للزعيم الأول للإخوان المسلمين لمواجهته، التي تكمن في المفاوضات أولا، ولكن ليست أية مفاوضات، بل “مفاوضات صاحب الحق لا المستجدي”، وإلا فالمقاطعة عبر إعراض المسلمين عن التعامل الاقتصادي مع الإنجليز، فإن لم يكن فـ”الجهاد الذي يصبح حينها فرض عين على كل مصري وسوداني حتى جلاء الإنجليز من الوطن”، إذ أكَّد البنا أن الجماعة مستعدة لبذل شبابها الذين يرغبون في الميتة الحسنة، التي “ليست هي الموت على السرير بين الأهل والأولاد، بل أن يُفصل رأس الإنسان عن جسده في سبيل الله”. كان لهذا الكلام الحماسي تأثير كبير على الحضور، وتأثير أكبر على القرضاوي الشاب الذي وجد نفسه في خضم قضايا الأمة الكبرى وهو في سن حديثة.

انضم يوسف القرضاوي بطريقة طبيعية إلى جماعة الإخوان المسلمين، ونشط وسط الجماعة، فكان أول عهده بها اختياره ضمن ما سُمِّي بـ”كتيبة الذبيح” (والذبيح هنا سيدنا إسماعيل عليه السلام)، وهي كتيبة اختارها الداعية في الجماعة “البهي الخولي” من طلاب المعهد الديني ومن طلاب المدارس الثانية هدفها الارتقاء بهم دينيا وروحيا من أجل الانطلاق في مجال الدعوة.

نشط القرضاوي في قسم نشر الدعوة داخل الجماعة، الذي كان يرسل الدعاة إلى المدن والبلدان المختلفة في مصر وخارجها، كما نشط في قسم “الاتصال بالعالم الإسلامي” الموكل إليه الاتصال بالمشرق والمغرب الإسلاميين، وجمع المعلومات والاتصال بالجهات المؤثرة بهدف “جمع كلمة المسلمين”، هذا بجانب عمله في قسم الأُسَر الذي يُعنى بتربية شخصية “الأخ” المسلم وتكوينه تكوينا روحيا وعقليا وبدنيا كاملا، هذا بجانب مهام أخرى مختلفة ومتفرقة.

لم يكن النشاط داخل الإخوان المسلمين ليمر سالما على القرضاوي، فقد كانت العلاقات المتقلبة المتحولة بين مد وجزر بين الجماعة والدولة المصرية قادرة على الزج به وبإخوانه في دوامة المتابعات البوليسية في أية لحظة، وهذا ما حدث بالضبط، ففي يوم 28 ديسمبر/كانون الأول عام 1948، وفي وقت كانت تواجه فيه الجماعة قرار الحل الذي صدر قبلها بعشرين يوما فقط، أعلنت السلطات المصرية اغتيال محمود فهمي باشا النقراشي، وزير الداخلية والحاكم العسكري العام، بعد إطلاق النار عليه من طرف طالب بكلية الطب البيطري بجامعة “فؤاد الأول” يُدعى “عبد المجيد حسن”، وهو أحد طلاب الإخوان المسلمين وعضو من أعضاء النظام الخاص (كان أشبه بجناح عسكري للجماعة مهمته استهداف الاحتلال الإنجليزي والمتعاونين معه)، تنكَّر في زي ضابط شرطة وأجهز على النقراشي في قلب مقر وزارة الداخلية.

قابل القرضاوي وإخوانه خبر اغتيال النقراشي براحة وسرور مشوبَين بالحذر، فكان الاختفاء بعد اتساع دائرة الاعتقال ضروريا بعد أن طلبت الحكومة رأس جميع أعضاء الإخوان في “المملكة المصرية”، ففرَّ برفقة صديق له يُدعى “محمد الدمرداش” والشرطة من خلفهم تتبعهم، قبل أن يضطرا لتسليم نفسيهما بعد أن اعتقلت الشرطة المصرية أم زميله للضغط على ابنها.

بعد توقيفهما من طرف الشرطة، أُرسل القرضاوي وزميله إلى مركز “زفتى” بهدف تسليمهما بعد ذلك إلى المديرية بطنطا ثم ترحيلهما بعد ذلك إلى المعتقل، وفي يوم 13 فبراير/شباط عام 1949، وخلال خروج الإخوان من سجن القسم الأول بطنطا، وجد القرضاوي وإخوانه عناوين الصحف المصرية تصرخ بعنوان صادم انتزع الآهات من الجميع: “اغتيال حسن البنا”.

أزهري خصيم للأزهر
“كنا نظنه (أي شيخ الأزهر) نسي عضويته في لجنة سياسات الحزب الوطني، ونسي قوله في إحدى الفضائيات حين سُئل: أيهما تفضل: الأزهر أم الحزب الوطني؟ فقال: كيف أفاضل بين الشمس والقمر؟! وظننا أن ثورة يناير وما أعقبها من الحريات، التي تمتع بها المصريون في عهد الرئيس مرسي، ستغير من ولائه للنظام السابق”.

(الشيخ القرضاوي متحدثا عن الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر)

ظل الشيخ يوسف القرضاوي وفيًّا لعمامته الأزهرية حتى أواخر حياته، إذ لم تكن العلاقة بين الرجل والأزهر عابرة، بل كانت عميقة وضاربة في القدم، آخذة من الذكريات الكثير، والكثير منها ذكريات عطرة، وبعضها الآخر يفوح برائحة الجحود.

أحب القرضاوي الأزهر منذ نعومة أظفاره، وحلم بالالتحاق به منذ حفظه للقرآن الكريم بعد سن التاسعة بقليل، فقد كانت هذه المؤسسة الدينية الأشهر في العالم الإسلامي تجسيدا واقعيا لاجتماع الأمة الإسلامية كلها، بعربها وعجمها. وقد امتدت العلاقة بين القرضاوي والأزهر على مدار سنوات طويلة، من تلميذ في الابتدائي، ثم طالب بالمعهد الثانوي، فملتحق بكلية أصول الدين إلى الحصول على إجازة التدريس.

لم يغب النَّفَس السياسي للقرضاوي أبدًا طول مرحلة تكوينه الديني بالأزهر، فقد شارك مبكرا في العهد الملكي عبر المطالبة ببعض الإصلاحات، كإدخال اللغة الإنجليزية إلى معاهد الأزهر، وفتح باب الكليات العسكرية والمدنية أمام حملة الثانوية الأزهرية، وفتح باب التعليم للبنات، وإعادة النظر في المناهج والكتب الدراسية. ولم تكن هذه المطالبات مجرد عوارض أدبية يتم تصعيدها إلى مشيخة الأزهر، بل تحول الأمر إلى مظاهرات ودعوات إلى الإضراب واصطدام بالشرطة، كما قاد القرضاوي نفسه مطالبات الإصلاح في أواخر 1953، وشارك في تأسيس ما سُمِّي بلجنة “البعث الأزهري” التي تريد “إيقاظ الوعي الإسلامي وتكوين جيل جديد يفقه الإسلام ويعمل به ويجاهد في سبيله”.

تمر السنون، ويواصل الشيخ القرضاوي علاقته غير المستقرة بالأزهر، ثم ستأتي الثورة المصرية لتعطي للقصة أبعادا أخرى أكثر إثارة، عنوانها الرئيسي هو المواجهة بين الشيخ القرضاوي وشيخ الأزهر، الشيخ أحمد الطيب. فبعد خلع الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك، وصل القرضاوي من الدوحة إلى القاهرة، وكان إلقاؤه لخطبة الجمعة أمام ملايين المصريين المنتشين “بإسقاط النظام” رمزيا للغاية، لم يكن هنالك شخص قد يعطي نفسا آخر لهذه الخطبة أكثر من الشيخ القرضاوي، الذي لم يكن على وفاق مع نظام مبارك، على عكس أحمد الطيب، من يُعتبر رجل النظام في ذلك الوقت لدى الأزهر، وهو الذي كان يرى هذه المؤسسة الدينية والحزب الوطني وجهين لوطن مصري واحد.

غير أن الثورة المصرية قرَّبت نسبيا -ولو لفترة مؤقتة- بين الرجلين، ففي عام 2012 قرَّرت مؤسسة الأزهر تشكيل هيئة من كبار العلماء برئاسة الشيخ الطيب نفسه، وضمَّت هذه الهيئة بجانب الشيخ القرضاوي كلًّا من الدكتور حسن الشافعي رئيس مجمع اللغة العربية في مصر، والدكتور نصر فريد واصل، مفتي مصر الأسبق، والدكتور الأحمدي أبو النور، وزير الأوقاف المصري الأسبق، والدكتور إسماعيل الدفتار، والشيخ محمد الراوي، والدكتور الراحل محمد عمارة، والدكتور محمد المختار المهدي، الرئيس العام للجمعية الشرعية. ووصل تألق العلاقة بين الشيخ والأزهر أوجه خلال الفترة الممتدة ما بين ثورة 25 يناير وحتى انقلاب 3 يوليو 2013، خلال هذه الفترة سمحت مشيخة الأزهر للشيخ القرضاوي باعتلاء منبر الأزهر الشريف لإلقاء خطب الجمعة.

لكن فترة الصفاء هذه لم تكن سوى وقت مستقطع بين فترين متوترين، أما الأولى فيحكي عنها الشاعر عبد الرحمن يوسف، نجل الشيخ القرضاوي، فكانت خلال فترة حكم مبارك، إذ كان الشيخ المستقر في قطر منذ سنة 1961 يزور مصر باستمرار، وجاءت هذه الزيارات بدعوة من شيخ الأزهر حينها محمد سيد طنطاوي، في ذلك الوقت كان الشيخ أحمد الطيب مفتيا للجمهورية، وقد أسرَّ الأخير للشيخ القرضاوي، حسب رواية ابنه، بأنه يعتمد على الأجزاء الثلاثة من فتاويه المعاصرة منذ عُيِّن مفتيا لمصر كونه متخصصا في علوم العقيدة في المقام الأول.

ويحكي ابن الشيخ أنه خلال هذه الزيارة أبلغه الضابط الذي يرافقه أن الأمن المصري يرغب في لقائه وُديًّا، وهو ما أغضبه لأنه لا يحب “ملاقاة القوم”، فأخبر الطيب الشيخ القرضاوي أنه سيتحدث إلى شيخ الأزهر، لأنه كان من المفترض إعلامه لأنه المسؤول عن ضيوفه. لم يتيسر اللقاء الأول، فنظَّم أمن الدولة لقاء آخر في رحلة سفر أخرى، ورفض الجهاز أن يتم اللقاء بينهم وبين الشيخ القرضاوي في مكتب شيخ الأزهر، مقترحا أن يتم ذلك داخل أحد المقرات الأمنية بحضور شيخ الأزهر. مرَّ اللقاء في أجواء مشحونة بسبب اعتراض الشيخ القرضاوي على بعض ممارسات ضباط أمن الدولة، وزاد غضبه، حسب ابنه، بسبب أن الأجهزة السيادية في مصر لم تعد تعطي أهمية لشيخ الأزهر، بل تتعامل معه بطريقة هي أقرب إلى الإهانة منها إلى التقدير.

هذه العلاقة بين الدولة وبين الأزهر بصيغتها “المباركية” لم تكن يوما محل قبول من الشيخ القرضاوي، وسينفجر ذلك واضحا بعد التحرك العسكري الذي قاده الجنرال عبد الفتاح السيسي ضد الرئيس السابق محمد مرسي، حينها احتج القرضاوي على وقوف الأزهر خلف تحرك الجيش، فتقدم باستقالته من هيئة كبار علماء الأزهر الشريف، معتبرا أن كل المناصب الدينية بما فيها مشيخة الأزهر هي مناصب منتزعة بقوة السلاح. ورد الأزهر الشريف على هذه الاستقالة بـ”إقالة”، إذ قال مصدر من داخل مشيخة الأزهر إن أعضاء هيئة كبار العلماء أجمعوا على إقالة القرضاوي بسبب مواقفه وإساءته لشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب. كما نفت المصادر نفسها أن يكون الشيخ القرضاوي قد تقدم بأية استقالة، مؤكدا أن إقالته جاءت وفق اللوائح الجاري العمل بها، بعد تخلُّفه عن حضور اجتماعات المجلس.

لم يكتفِ الشيخ القرضاوي بالاستقالة من هيئة كبار العلماء في الأزهر، بل تحدث بشكل موسع عن خلافه مع شيخ الأزهر أحمد الطيب، بسبب دعم هذا الأخير للنظام الجديد، معلقا على قبول الأخير الانقلاب على الرئيس السابق محمد مرسي بالقول: “كنت أحسب أو أود أن يكون هذا موقف كل شيوخ الأزهر وأساتذته الكبار -أو أكثرهم على الأقل- وعلى رأسهم صديقنا شيخ الأزهر الموقر: الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، إذا عُرض عليه مثل هذا الأمر أن ينتفض انتفاضة العالم الغيور، الذي يخاف على شعبه أن تهدر حريته التي اكتسبها بعد عشرات السنين، ويخشى قبل ذلك ربه، ويخاف على دينه، ويقول لمَن عرضوا عليه هذا الأمر: هذا لا يجوز شرعا. فهذا هو المعلوم لنا من كل ما درسناه، أن مَن عُقدت له الرئاسة أو الإمارة أو المسؤولية العامة فهذا عقد شرعي ملزم بينه وبين الشعب، مؤيد بالقرآن والسنة، ويجب على الجميع رعايته وحفظه، والدفاع عنه من كل ناحية”.

يواصل القرضاوي حديثه في مقال مطوَّل حمل عنوان “وقفات مع شيخ الأزهر وقضية الانقلاب على الشرعية”، مؤكدا أنه تلقى عتابا من “بعض إخوته” بعد أن وضع ثقته في الدكتور أحمد الطيب وأيَّده في منصبه، مستدركا أنه فعل ذلك لأنه رأى أن الرجل رغم كونه عضوا سابقا في الحزب الوطني وفي لجنة سياسات جمال مبارك، فإنه كان أفضل المترشحين للمنصب، بحكم معرفته به بعد أن كان الطيب قد عمل أستاذا للعقيدة والفلسفة الإسلامية خلال إعارته إلى كلية الشريعة في جامعة قطر، والتي كان القرضاوي عميدا لها.

وخلص الشيخ القرضاوي إلى أن أمله خاب في أن يغير المنصب التشريفي والواقع السياسي الصعب من ولاء شيخ الأزهر للسلطة، إذ كان “من الذين شاركوا في نزع الشرعية السياسية بدعم السلاح العسكري” على حد وصفه. كل هذا الصراع، وغيره من الأسباب غير المعروفة، ساهمت في حالة الصمت التي صبغت موقف الأزهر بعد وفاة القرضاوي، إذ امتنعت المؤسسة الدينية العريقة حتى عن تقديم العزاء في الشيخ الذي يُعَدُّ ابنا من أبنائها، قبل أن يكون قامة علمية مرموقة في العالم الإسلامي بأسره.

اللاءات الثلاث: لا للأسد، ولا للبوطي، ولا لنصر الله

“واليوم وصل قطار الثورة إلى محطة كان لا بد أن يصل إليها وهي محطة سوريا، ولا يمكن أن تنفصل سوريا عن تاريخ الأمة العربية”.

(الشيخ القرضاوي متحدثا عن أحداث الربيع في سوريا)

بعد أسابيع قليلة من اندلاع ثورة 23 يوليو/تموز 1952، تلقى الشيخ يوسف القرضاوي “تكليفا” من حسن الهضيبي، المرشد السابق لجماعة الإخوان المسلمين، من أجل الاستعداد لجولة في بلاد الشام: لبنان وسوريا والأردن، رفقة أعضاء آخرين للجماعة بهدف زيارة إخوان هذه المنطقة، ومد روابط التواصل بين الجماعة الأم في مصر وفروعها في الدول الأخرى.

تمكَّن الشيخ حينها من الحصول على تصريح للسفر من “رجال الثورة”، وذلك بفضل العلاقة الجيدة التي كانت تجمع الضباط الأحرار مع الإخوان المسلمين خلال تلك الفترة. كانت سوريا حينها قد دخلت في زمن الانقلابات العسكرية التي ستأتي بآل الأسد إلى الحكم في النهاية. اختار وفد الإخوان في ذلك الوقت أسماء مستعارة، ونزع الشيخ القرضاوي الزي الأزهري حتى لا يثير الشكوك، وحتى يتسنى له التحرك بسهولة أكبر بعيدا عن العيون “البوليسية” المنتشرة في كل مكان.

لم يكن المقام سهلا في سوريا، فقد كادت الشرطة السورية أن تلقي القبض على القرضاوي خلال كلمة كان يُلقيها ببعض البيوت، لكن السفر مرَّ سالما وتمكَّن في النهاية من إنهاء مهمته واستكمال جولته الشامية. كان هذا هو الفصل الأول والتعارف الأول بين الشيخ القرضاوي وسوريا ونظامها السياسي، تعارف سيكون له ما بعده، وسيتحوَّل من الإشادة إلى العداء.

خلال حرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، لم يتأخر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين برئاسة الشيخ القرضاوي عن الخروج والثناء على “جند الله” في فلسطين ولبنان الذين تُذكِّر معاركهم ببطولات القرون الأولى التي حارب فيها الصحابة رضوان الله عليهم أعداء هذا الدين. أثنى بيان الاتحاد على الجميع دون استثناء، دون تطرق للسن ولا الجنسية ولا المذهب، داعيا إلى دعم هذا الجهاد بالنفس والمال واللسان والقلم.

لقي هذا البيان إشادة من طرف حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله اللبناني، الذي وصف موقف الشيخ القرضاوي “بالمتقدم جدا”، وأثنى على دعمه للمقاومة خلال تصديها للعدوان الإسرائيلي على لبنان. نصر الله اعتبر أن أهم نتيجة إستراتيجية خرجت بها المقاومة هي ذلك الاحتضان الشيعي السني، وشعور الجميع بأن هنالك مواجهة تضامنية لعدو مشترك يهدد مصير الجميع.

مهَّد هذا التناغم السني الشيعي لتبني الشيخ القرضاوي لقناعة أهمية التقريب بين السنة والشيعة، على أن يقوم هذا التقارب على مبدأ الحوار وحسن الفهم والتعرف الحقيقي على الطرف الآخر، من أجل رسم صورة كاملة حقيقية عن كل مذهب، مع الاتفاق على بعض المبادئ العامة كحُسن الظن والتعاون في المتفق عليه وتجنُّب الاستفزاز والمصارحة بحكمة.

هذه الجهود التي بذلها الرئيس السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين سرعان ما تبددت، ليعود الشيخ القرضاوي لاعتبار التوظيف السياسي للتشيع خطرًا يهدد الاستقرار في الشرق الأوسط. ومُحذِّرًا من تدهور الأوضاع لحالة من الاصطدام بين أبناء المجتمع الواحد.

نتيجة لذلك، تعرَّض الشيخ القرضاوي لهجوم إعلامي غير رسمي من طرف بعض وسائل الإعلام الإيرانية، ما دفع وفدا إيرانيا رفيع المستوى في الدوحة إلى زيارة رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين للاعتذار، وقد قبل العالِم السني هذه الخطوة “جزئيا”، مشترطا الوقف الكامل “للمد الشيعي” والكف عن سب الصحابة الكرام، وهو ما اعتبره علي أكبر محتشمي، وزير الداخلية الإيراني السابق، أمرا مفروغا منه، كون علي خامنئي، المرشد العام للثورة، يتبع نهج الخميني نفسه في تقدير وفرض الاحترام للصحابة.

ستتخذ هذه الخلافات بُعدا آخر مختلفا للغاية بعد اندلاع الثورة السورية، ووقوف إيران وحزب الله اللبناني رفقة بشار الأسد في حربه على شعبه، في الوقت الذي اتخذ فيه الشيخ القرضاوي موقفا واضحا بالدعوة إلى مواجهة الأسد ونظامه ودعم الشعب السوري في هذه المعركة.

لم يكن بشار الأسد ومن خلفه إيران وحزب الله وحدهم الحانقين على الشيخ القرضاوي لموقفه الداعم للثورة السورية، بل ضمَّت اللائحة شخصا مهما له وزنه الديني، وهو الشيخ محمد سعيد البوطي، العالِم سليل المدرسة الدينية التقليدية الذي وقف خلف آل الأسد حتى آخر دقيقة في حياته.

ظهر التباين واضحا بين الشيخين البوطي والقرضاوي في ملف الربيع العربي، لكن الخلاف بين الرجلين لم يكن وليد أحداث عام 2011، بل يعود إلى ما هو أبعد من ذلك. ويقول الباحث الفلسطيني محمد خير موسى إنه عكس ما يظن المتابعون للشأن الديني السوري باعتبارهم أن الخصم الأهم للشيخ البوطي كان هو الشيخ السلفي الشهير ناصر الألباني، فإن الشيخ المقرب من قصر دمشق كان يحس برفض أكبر للطرح الديني الذي يتزعمه الشيخ القرضاوي.

انتقد البوطي بقوة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يترأسه الشيخ القرضاوي قبل الثورة أصلا، إذ عبَّر في أحد دروسه العامة أن هذا الاتحاد الذي يُقدِّم نفسه على أنه هيئة تجمع كلمة العلماء المسلمين من جميع أصقاع الأرض هو ليس بالضرورة كذلك، فهو يضم العلماء و”أنصاف العلماء” وبعض الشخصيات التي لا علاقة لها بالفقه الإسلامي كبعض المختصين بالفلسفة والقانون والتاريخ. كان هذا هجوما واضحا من البوطي على القرضاوي، رغم المجاملات السابقة والإهداءات، فالرجل كان حسب مراقبين أكثر حِدَّة في انتقاد العالِم المصري في المجالس الخاصة.

ويُشير الباحث محمد خير موسى في مقال له إلى أن أسباب دعم البوطي للأسد عديدة، إلا أن أحدها تمثّل في انحياز القرضاوي للثورة، فلم يتردد الشيخ السوري في لعب دور المنافح الديني والعقدي عن نظام الأسد تحت ذريعة حماية البلاد من الغوغائية، داعيا صديقه السابق إلى طرق أبواب دمشق للجلوس مع بشار الأسد للنقاش والكلام وطرح وجهات النظر بكل ترحيب واحترام.

بعد وفاة الشيخ القرضاوي ظهرت الخلافات واضحة في تغطية وسائل إعلام محور المقاومة، الذي ذكَّر تارة بموقفه القديم الداعم لبشار الأسد، واتهمه تارة أخرى بتيسير القتال على الجماعات “الإخوانية” و”القاعدية” المتطرفة التي دخلت سوريا بفتواه التي لم يطلقها حتى في وجه “إسرائيل”، على حد تعبير بعض وسائل الإعلام المحسوبة على نظام الأسد وحلفائه.

حب فلسطين وتأشيرة أوروبا لا يجتمعان

“إنني أتمنى لو كنت أستطيع الذهاب إلى هناك، أو يحملونني على كرسي متحرك لأشارك في الجهاد، ثم تأتيني طلقة تفصل هذا الرأس عن هذا الجسد ليكون ذلك في سبيل الله”.

عُرف عن الشيخ القرضاوي منذ شبابه المبكر دعمه الكبير للقضية الفلسطينية، فقد كان من الطلبة الذين خرجوا في طنطا عام 1940 للتظاهر والاحتجاج على وعد بلفور، وعاش حياته داعما للقضية التي تشرَّبها منذ بداياته مع جماعة الإخوان المسلمين.

لم يكن مستغربا إذن أن وسائل الإعلام الفلسطينية قد اهتمت بخبر وفاة القرضاوي وقدَّمت العزاء في الرجل، لكن المفارقة العجيبة أن وسائل الإعلام العبرية اهتمت بالأمر أيضا، فقد كتبت “تايمز أوف إسرائيل” و”I24″ حول “وفاة رجل الدين الذي أفتى بالعمليات الانتحارية ضد الإسرائيليين”، رغم أن هذه المنصات نفسها نشرت فيما قبل تراجع الشيخ عن فتوى العمليات الاستشهادية “التي لم يعد له داعٍ” حسب كلامه، لأن الفلسطينيين طوروا وسائل أخرى للدفاع عن أنفسهم.

حاولت إسرائيل تسويق صورة سلبية عن الشيخ القرضاوي، صورة الشيخ المتطرف المعادي للسامية، وقد تلقفت بعض وسائل الإعلام الغربية هذا الحديث وأضافت عليه أوصافا أخرى كالتحريض على النساء ومعاداة المثليين، والتنظير الديني لجماعة الإخوان المسلمين التي يعاديها عدد من دول الغرب.

لم تُخفِ بعض الدول الغربية موقفها المعادي للشيخ القرضاوي، مستسلمة للبروباغندا الإسرائيلية. وفي عام 2004، زار الشيخ القرضاوي بريطانيا، مُثيرا الكثير من اللغط بعد أن طالبت المعارضة بمنعه من دخول البلاد، ومن جهته كان وزير الداخلية البريطاني حينها “ديفيد بلانكيت” قد أكَّد أن كل تحركات وكلام الشيخ القرضاوي ستخضع لمراقبة صارمة طيلة إقامته بالبلاد، بسبب تشجيعه على العمليات الاستشهادية للفلسطينيين، رغم رفضه لعمليات 11 سبتمبر/أيلول التي استهدفت الولايات المتحدة الأميركية.

سيتغير الموقف البريطاني سنة 2008، وستضيق البلاد بحضور القرضاوي. وتحت ضغط اللوبي اليهودي في البلاد واحتجاجات المثليين، أعلنت بريطانيا رفضها منح تأشيرة الدخول لرئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي تقول أنباء إنه كان في طريقه إلى البلاد بهدف العلاج.

وفي عام 2012 حذت فرنسا حذو بريطانيا، وألغت تأشيرة دخول الشيخ القرضاوي بجانب الداعية محمود المصري للمشاركة في اجتماع اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا. وجاء رفض السلطات الفرنسية بطلب من الحزب الاشتراكي الفرنسي وحزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف اللذين اعتبرا أن البلاد يجب ألا تستقبل أشخاصا “معادين للسامية وللمثلية”.

مات الرجل وظلَّ المشروع
حسنا، لم تكن حياة الشيخ القرضاوي الطويلة عادية ولا تقليدية، بل كانت حافلة بالأحداث المهمة، وشاهدة بحق على التحولات الكبيرة التي عاشها العالم العربي والإسلامي منذ عام 1926 وحتى 2022. أنتجت هذه الحياة الطويلة مشروعا مختلفا يحضر فيه ابن تيمية والغزالي معا، يتألق فيه حسن البنا ويعرج على سيد قطب، يستلهم من السلفية أبعادا مهمة لكنه مطبوع بطبعة الإخوان المسلمين، ومختوم بختم الأزهر الشريف. كان مشروعا كبيرا ملأ الدنيا وشغل الناس لعقود طويلة، أفنى فيه الشيخ القرضاوي عمره، فرحل هو وظل المشروع قائما يبحث عن أيادٍ أخرى تتلقفه وتكمله.

المصدر : الجزيرة

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.