رحلة مع الحق واهله

بقلم الاستاذ محمد جابر

الطيبة فلسطين 48

يقول إمام الحرمين الفضيل بن عياض رحمه الله: (لا يغرنك طريق الباطل وكثرة الهالكين فيه ولا طريق الحق وقلة السالكين فيه)، والناس الذين يعقلون (إذا استثنينا أصحاب الاعاقة العقلية الذين رُفع عنهم قلم التكليف) مع الحق على ثلاث فئات لا غير.
الفئة الاولى: في مرحلة من مراحل حياتها تتعرف على الحق وتميزه عن غيره من السبل، ويصبح أمامها الحلال بيّن والحرام بيّن، والحق أبلج والباطل لجلج، ليله كنهاره. وهذه حقيقة لا بد منها لأن الله يقول في كتابه (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)، فليس هنالك حساب أو عتاب إذا لم يكن بلاغ مبين وحجة دامغة، وهو مقصود بعث الرسول، والله بعدله ورحمته لن يحاسب إنسانا حتى يكون الحق مبين….
والناس في ذلك قسمان : السواد الأعظم منهم يضعفون ولا يستطيعون السلوك فيه والالتزام به والخضوع له مع معرفتهم التامة أنه الحق، فيبدؤون بالبحث عن أعذار وذرائع يدرؤون بها ضعفهم. منهم أعذارهم تتحول إلى هجوم على الحق ذاته والتشنيع به وبأهله، بل ومحاولة إغراق غيرهم وحثهم على سلوك سبل الباطل المختلفة. ومنهم من يتعذر بصعوبة التزام الحق وأنه فوق ما يطيقون، على الأقل في هذه المرحلة من حياتهم… ولكن لا يغرنك أصوات بعضهم العالي حتى في حربه ضد الحق، فقد أقيمت عليهم الحجة الدامغة حتى لو ادعوا الجهل او عدم الفهم. وإذا رأيت بعض هؤلاء اصواتهم مرتفعة فإنما ترتفع طرديا كلما كان صوت الحق في داخلهم اقوى والبينة اوضح فيحاولون إسكاته، كحال طفل يقص عليه احدهم قصة مخيفة فيكون رد فعله وضع يديه على أذنيه وإخراج اصوات عالية لا معنى لها رغبة منه بإسكات من يقص عليه تلك القصة.
الفئة الثانية: قررت سلوك طريق الحق والتزام منهجه وتعاليمه والوقوف عند حدوده، بل وقسم منهم قرر رفع رايته ونشره والذود عنه، وأحيانا قيادته، والتحول لصورة من صوره في أذهان الناس وتصوراتهم. هذه الفئة تنقسم إلى أقسام عديدة، ولكن في المحصلة النهائية تنتهي إلى قسمين، القسم الأول: خلال سلوكه طريق الحق يصطدم بالحقيقة المرة أن الحق بحاجة إلى تضحيات وفداء وضريبة، أحيانا تكون في الوقت أو المال، وأحيانا تصل إلى النفس، وفي جميع الاحوال السمعة… فيصطدم الحق مع الزوجة والأولاد والعائلة وصاحب العمل والمؤسسات السلطوية… وللصدام وجوه متعددة منها اللطيف الجميل البشوش الناعم الذي يخاطب الغرائز والشهوات والمصالح والمناصب والمكانة والعواطف والقربى…..، ومنها وجه الأذى والانتقام والوعيد والتهديد والسجون وأعواد المشانق والتشهير والتشكيك…
وإن كان اهل هذا القسم يعلمون نظريا في الغالب أن الطريق وعرة وتحتاج إلى تضحيات، إلا أنهم في الغالب يسقطون في أول امتحان يصطدم بهم تحت مسميات وتبريرات احيانا شرعية، يحاولون أن يستروا بها سوأتهم وقلة رجولتهم وسقوطهم المدوي في امتحان المواقف والثبات على الحق سماهم اساتذتنا المتساقطون على لطريق. يتحولون مطية للدنيا ولأهلها تدور بهم حيث تشاء وقد سلموا اعناقهم وعقولهم وقلوبهم إليها، بل وقد يتحولون إلى أبواق لها ينعقون بصوتها ويرفعون راياتها ويروجون لها ويُخَذِلون أصحاب الهمم ويحاولون تثبيطهم. كما نشهد في أيامنا المباركة هذه الكثير منهم افرزتهم المواقف فكان السقوط المدوي. أصواتهم للباطل أعلى من أصحاب الباطل أنفسهم، باعوا الحق من أجل دنيا غيرهم ولا يغرنك قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن لسان حالهم يزكم الأنوف ويصم الاذان ويعمي القلوب والابصار عن سماع زيف اقوالهم، يصدق فيهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة عن الشيطان (صدقك وهو كذوب). أما الذين لا يعلمون تبعات الطريق وضريبة الحق منهم, وظنوا الأمر لا يتعدى الشعارات، وأن سلعة الله رخيصة، وتركوا الطريق ورفضوا أن يشروا أنفسهم ابتغاء مرضات الله، فنسأل الله العلي العظيم أن يجعل جهلهم هذا سببا لمغفرة الله لهم، وأن لا يكتبهم من الذين تولوا عن الحق وتركوا اخوانهم يواجهون الباطل بظهور عارية……
أما القسم الثاني فهم الفئة الثالثة، الذين كانت بدايتهم كنهايتهم، بل كانوا كعود الطيب كلما تعرض للحرق زاده طيبا، ثبتوا وصبروا وتحملوا كل أنواع الأذى الذي صب عليهم صبا، هذا بعد أن أعطوا من وقتهم ومن مالهم ومن صحتهم ومن سمعتهم، عرفوا الطريق وسلكوها على بصيرة وهم يقولون (هذا ما وعد الله وصدق المرسلون)، لا يرون العقبات ولا المعيقات إلا درجات كلما تخطوا واحدة منها ارتقت منزلتهم عند صاحب الحق يوم الجائزة الكبرى. يعلمون أن أهل الحق يُبتلون على قدر ايمانهم بالحق فإن وجد في إيمانهم صلابة زيدوا بالبلاء… لا يتذمرون ولا يشتكون ولا يتفاجؤون، وإنما يقابلون هذه التضحيات بابتسامة تحمل كل معاني الرضى والقبول، بل الفرحة احيانا، فقد سئل بلال رضي الله عنه كيف صبرت على عذاب قريش؟ قال: مزجت حلاوة الإيمان بمرارة العذاب فغلبت حلاوة الإيمان على المرارة فصبرت.
كأنما الموت في أفواههم عسل *** من ريق نحل الشفا حدث ولا حرجًا
في السجون والمعتقلات وأعواد المشانق تنتظرهم وسياط الجلادين سلخت ظهورهم ….، ومع ذلك يقولون أن دفئ الحق وطمأنينة الإيمان تجعلهم في موضع يحسدهم عليه الملوك وأبناء الملوك (لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف). ولهذا تجد الكثير من المغفلين الغافلين يتهمون أهل الحق بأنهم يأخذون أجورهم من جهة كذا، أو عملاء لجهة معينة ويكون تبريرهم الوحيد (معقول أنهم يعملون ويضحون بدون مقابل(لله))، هذا صوت الخيبة والفشل وحجة الذي لا يؤمن بأي شيء ولا يرى ان هنالك ما يستحق التضحية من أجله… يعيش كالانعام بل اضل والعياذ بالله.
إن معرفة الحق غير كافية، بل السلوك فيه أيضا والدخول في زمرته أيضا غير كاف، وإنما الثبات عليه من أوله إلى منتهاه هو الغاية، صِدق العهد مع الله والاستعداد الدائم للتضحية وتحمل الاذى حتى لقاء الله وما بدلوا تبديلا.
عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر من قول “يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك”.

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.