حفت الجنة بالمكاره

بقلم الشيخ سفيان أبوزيد

“حفت الجنة بالمكاره”

هل المشقة مقصودة شرعا؟

كيف يكون الدين يسرا وقد حفت جنته بما يكرهه الإنسان؟

كيف تحف الجنة بالمكاره وما جاء الدين إلا لجلب المصالح ودفع المفاسد؟

أين تتجلى رحمة الله في أمر جبريل بحف الجنة بالمكاره؟

إلى غير ذلك من التساؤلات التي نطرحها من خلال تأملنا لهذا الحديث..
أولا- كما هي القاعدة المتفق عليها في فهم أي قضية، لابد من الإحاطة بها، سواء بألفاظها الذاتية او معانيها المتفرقة في قضايا أخرى، حتى يكون الفهم محكما عاما شاملا متزنا..
لنقف مليا عند ألفاظ هذا الحديث:
(حفت) الحف الإحاطة من كل جانب، وفيه معنى الشمول لكل جانب..
وفي رواية (حجبت) فهو حجاب حاف، أي مانع من الرؤية محيط من كل جانب، لا يمكن الولوج إلى المحفوف المحجوب إلا بتجاوزه وتخطيه، ولا يمكن الوصول والتمكن من رؤية المحجوب إلا برفعه وإزالته أواقتحامه واختراقه..
إذ يمكن للشيء أن يكون حافا محيطا غير حاجب لابد من تجاوزه ولكن المحفوف يتراءا من خلفه..
وقد يكون الشيء حاجبا غير حاف بحيث يمنع الوصول والرؤية، ولكن من جانب أو جوانب دون أن يكون محيطا..
إذن فالمقصود من الحديث هو الإحكام في المنع والحيلولة دون الرؤية والوصول إلا بالتجاوز والإزالة او الاختراق..
هذا الحاف او الحاجب أمران اثنان:
المكاره: والمكاره جمع مكره، وفيه معنى المشقة والبغض والنفور والألم..
إلا ان هذه المعاني قد يكون مصدرها الطبع او العقل او الشرع
فقد يكون الشيء مكروها طبعا مرغوبا شرعا كالجهاد..
وقد يكون الشيء مكروها طبعا مرغوبا عقلا كالعمل فالعقل يدعوك ويرغبك فيه لما وراءه من مصالح ومنافع، والطبع يدعوك إلى الراحة والسهولة
وقد يكون الشيء مكروها شرعا مرغوبا طبعا كالزنى مثلا..
وقد يكون الشيء مكروها شرعا مرغوبا عقلا كالتامل في ذات الخالق، والحدس والتخيل والتخمين.
وقد يكون الشيء مكروها عقلا مرغوبا شرعا كالتسليم
وقد يكون الشيء مكروها عقلا مرغوبا طبعا كالنوم وقت العمل..
وقد يكون الشيء مكروها طبعا وعقلا وشرعا كالشذوذ الجنسي – وهنا نتحدث عن العقل السوي والطبع السوي والشرع الرباني –
وقد يكون الشيء مرغوبا طبعا وعقلا وشرعا كالأكل المباح.
وقد يكون الشيء مكروها طبعا وعقلا مرغوبا شرعا، كالجهاد..
وقد يكون الشيء مكروها طبعا وشرعا مرغوبا عقلا، كالمغامرة..
وقد يكون الشيء مكروها عقلا وشرعا مرغوبا طبعا، كالكسل
وقد يكون الشيء مرغوبا طبعا وعقلا مكروها شرعا كالمال المحرم..
وقد يكون الشيء مرغوبا طبعا وشرعا مكروها عقلا كالبركة..
وقد يكون الشيء مرغوبا عقلا وشرعا مكروها طبعا كمشقة الكسب الحلال..

إذن بعد هذه الاحتمالات الاربعة عشر ما مناط المكاره في الحديث وما معناها؟

لا شك أن المعنى لا يخرج عما ذكرناه لغة من الألم والمشقة والبغض والنفور، إلا أن النظر والتامل يكون في مناط ذلك ومبعثه، فيستحيل أن يحف الله الجنة بما يكره شرعا أصالة ومنطلقا، لأن الجنة مرغوبة شرعا فكيف تحف وتحجب بما يكرهه خالقها وجاعلها جائزة ومرادا ومرمى..

فتحذف كل الاحتمالات التي مناط الكره فيها الشرع..
فتبقى الاحتمالات التي مناط الكره فيها الطبع والعقل..

إلا انه قد يكون الحاف او الحاجب أحيانا واستثناء مكروها شرعا والمحفوف او المحجوب مرغوبا شرعا، ولكن عند الضرورة وتضيق الحال أو تفرد الطريق إليه او انعدامها إلا من هذا السبيل.. وهذا يحتاج إلى تأمل وموازنة واجتهاد..إلا أن الأصل والغالب ألا يكون المكروه شرعا حاجبا و حافا للمرغوب شرعا..

أما الطبع والعقل فلا يعتبران ميزانا دقيقا في اعتبار الكره او الرغبة، وهذا امر معروف معلوم يعتمده الإنسان في بعض أحواله…

فقد يشرب الدواء المر المنفور طبعا لأجل ما حثه عليه عقله من مصالحه وفوائده فقد حف الشفاء بالدواء المر وهو مكروه طبعا.
وقد يقطع الانسان نومه اللذيذ بتذكر مصالح عمله الشاق فحفت لذة الطبع بمكاره العقل
وقد يستمر الانسان في نومه اللذيذ المرغوب طبعا، ويضيع مكاسب عمله المرغوبة عقلا، فيندم على ذلك، فحفت مكاسب العقل بمكروهات الطبع..

إذن فتجاوز بعض المكاره طبعا او عقلا او إزالتها او اقتحامها واختراقها لأجل مراغب طبعية او عقلية أمر مفهوم معمول به ولا إشكال فيه..

ومن جهة أخرى قد تكون تلك المكاره مكتسبة وقد تكون قدرية، فالأولى كما تعلق بفعل الإنسان واكتسابه من شرب الدواء المر، والثانية كالأقدار التي تسري عليه من مرض أو مصيبة، فالأول يكون تجاوزه واقتحامه أو إزالته بالصبر على المرارة توسلا وتوصلا للشفاء..
وفي الثانية بالصبر على البلاء والاحتساب وإزالة دوافعه والسعي في أسباب موانعه، واليقين بأنه من عند رب عدل رحيم مطلع..
إذن فحف الجنة المرغوبة شرعا بالمحيط والحجاب المكروه طبعا أو عقلا أو طبعا وعقلا، أمر موافق للفطرة والعقل وواقع الحياة، وليس أمرا غريبا عن الإنسان بعيدا عن عاداته ومدركاته، فالحصول على الشهادة مرغوب عقلا، ولكنه محفوف ومحجوب بالاختبار والامتحان المكروه طبعا، وقس على ذلك..

ومن نظر إلى أحكام الشرع لم يجدها على نسق واحد أو بلون واحد أو تدخل تحت حكم واحد، بل فيها الواجب ويقابله المحرم، والمندوب ويقابله المكروه، وهذه تنقسم إلى ما كان مقصودا لذاته وما كان وسيلة لغيره، وبين تلك الأحكام مساحة كبيرة للمباح الذي هو ميدان للعفو والاجتهاد والاحتياط…فالعفو هو الأصل، والاجتهاد في الاستفادة منه واستثماره في الصالح، والاحتياط في أن يكون وسيلة ومطية للطالح.. وهذه الأحكام جاءت لتحقق الحقيقي من مصالح الانسان وتدرأ عنه الحقيقي من المفاسد، وللوصول إلى ذلك لابد من ضبط وتربية واختبار لتمييز الناجح من غيره، والمجتهد من غيره، وتلك المصالح او المفاسد قد تتوافق مع مرغوباته طبعا أوعقلا أو طبعا وعقلا، وقد تتصادم مع تلك المرغوبات فيحدث في ذلك الكره والنفور، ومن هنا حفت الجنة بالمكاره، ومع ترويض النفس على ذلك النظام الشرعي الجديد، تقل حدة تلك المكاره، وقد تنقل من ملف المكاره إلا ملف المرغوبات، فتحصل موافقة الهوى للهداية..
إذن المكاره هي تلك الموازين والنظام والقانون التي تضبط به الحياة، وذلك التسليم لأقدار العدل الرحيم النافع سبحانه..

ويسر الدين مفهوم في هذا الإطار، فلا عمل إلا بحركة ولا حركة بدون بذل وجهد ولا جهد بدون مشقة إلا أن تلك المشقة مقدور عليها متجاوزة بقدر فهم حقيقة المقصد ومصالحه ومراغبه، وبقدر فهم المدروء من المكاره والمفاسد..
ويسر الدين يظهر في أن أسهل طريق وأيسرها للوصول إلى المرغوب بدون خسائر او بأقلها هو طريق الرب العزيز الحكيم..

ورحمة الله تتجلى في ضوء عدله وحكمته، كما تتجلى رحمة الأستاذ بجميع طلابه راغبا في نجاحهم كلهم إلا أن من الجور والظلم المتلبس بلبوس الرحمة والشفقة أن يلغي الاختبارات والابتلاءات والوظائف والواجبات ويسوي بين المجتهد والمستهتر واليقظ والغافل… ويجعل النجاح والجائزة منالا للجميع، هنا سينهار النظام ويعم الظلم وتفسد القضية ويستهتر بالعمل فتنتشر الفوضى…
فرحمة الله في عدله وحكمته وعفوه سبحانه وتعالى وعدله وحكمته وعفوه في ان يحف ويحجب جنته وجائزته بالاختبارات والابتلاءات والتهذيبات والتشذيبات ليميز الخبيث من الطيب..

أما بالنسبة للشطر الثاني من الحديث (وحفت النار بالشهوات) فسنرجئه إلى مقال قادم بإذن الله تعالى نجيب فيه عن تساؤل:
هل هناك تعارض بين الشهوة والجنة؟

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.