حرية التعبير في عهد معاوية رضي الله عنه

بقلم : علي الصلابي

المعارضة السلمية كان معاوية رضي الله عنه يفرق بين المعارضة السلمية والمسلحة فهو يطلق حرية الكلام والتعبير عن الرأي ما دام ذلك في حدود التعبير عن الرأي، أما إذا انقلب الأمر إلى حمل السلاح وسلَّ السيوف، فإنه لا يجد مفراً من مواجهة هذه الثورات كما فعل مع الخوارج ـ وسيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى، فقد روي عن معاوية أنه قال: إني لا أحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا [5].

وقال عامله على العراق زياد بن أبيه في خطبته لأهل البصرة: إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلَّ من بغضي لم أكشف له قناعاً ولم

أهتك له ستراً، حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره [1]، ويقول عن أحد معارضيه: لو علمت أن مخ ساقه قد سال من بغضي ما هجته حتى يخرج علي [2] وإليك الكثير من المواقف التي تدل على حرية التعبير، وحق المعارضة السلمية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمعاوية وكيف كان يستقبل تلك الانتقادات.

1 ـ أبو مسلم الخولاني:

فقد كان رحمه الله من العلماء الربانيين وكان ممن لا يجامل ولا يدهن، فقد قام أمام معاوية فوعظه وقال: إياك أن تميل على قبيلة من العرب فيذهب حيفك بعدلك [3] وكان يذكر معاوية بمسئولياته تجاه رعيته ويحثه على أداء حقوقه، فقد دخل ذات يوم على معاوية فقال: السلام عليك أيها الأجير. فقال الناس: الأمير. فقال معاوية: دعوا أبا مسلم فهو أعلم بما يقول. قال أبو مسلم: إنما مثلك مثل رجل استأجر أجيراً فولاه ماشيته، وجعل له الأجر على أن يحسن الرعية، ويوفر جزازها وألبانها، فإن أحسن رعيتها ووفر جزازها حتى تلحق الصغيرة، وتسمن العجفاء، أعطاه أجره وزاده من قبله زيادة، وإن هو لم يحسن رعيتها وأضاعها حتى تهلك العجفاء وتعجف السمينة ولم يوفر جزازها وألبانها غضب عليه صاحب الأجر. فقال معاوية: ماشاء الله [4]، فانظر كيف حث أبو مسلم الخولاني معاوية رضي الله عنه على الاهتمام بأمر الرعية وحذره من التهاون أو التفريط في إصلاح شؤونهم وذلك عن طريق ضرب المثل تقريباً للصورة وتشبيهاً للحال [5]، وهناك موقف عملي آخر لأبي مسلم الخولاني مع معاوية أيضاً، وذلك عندما صعد معاوية المنبر ـ وكان قد حبس العطاء ـ فقام أبو مسلم وقال له: لم حبست العطاء يا معاوية؟ إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك، ولا كد أمك حتى تحبس العطاء، فغضب معاوية غضباً شديداً، ونزل عن المنبر، وقال للناس مكانكم، وغاب عن أعينهم ساعة ثم عاد إليهم فقال: إن أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الغضب من الشيطان، والشيطان خلق من نار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليغتسل (6)

وإني دخلت فاغتسلت وصدق أبو مسلم: إنه ليس من كدي ولا كد أبي، فهلموا إلى أعطياتكم [7].

[2] ـ الفرزدق يهجو معاوية:

هجا الفرزدق معاوية وافتخر عليه بنسبه وآبائه وذلك لغرض شخصي، حيث أعطى معاوية عم الفرزدق الحتات بن يزيد المجاشعي، وكان ضمن (وفد أتي معاوية) جائزة أقل من الآخرين، ولما مات الحتات بن يزيد المجاشعي، في الطريق أخذ معاوية تلك الجائزة وردها إلى بيت المال، فقال الفرزدق يخاطب معاوية:
فلو كان هذا الأمر في جاهلية … علمت من المرء قليل جلائبه
ولو كان هذا الأمر في غير ملككم … لأبديته أو غص بالماء شاربه
وكم من أب لي يا معاوي لم يكن … أبوك الذي من عبد شمس يقاربه

فما زاد معاوية على أن بعث إلى أهل الحتات بجائزته (1)
وقد ظفر معاوية بتقدير زعماء المسلمين من أبناء الصحابة رغم نقد بعضهم المرير له، وكان كثيراً ما يقول: إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أعظم من عفوي، وجهل أكثر من حلمي، أو عورة لا أواريها بستري، أو إساءة أكثر من إحساني [2]، وكان أحياناً يتمثل بهذه الأبيات:
تعفو الملوك عن الجليل من الأمور بفضلها
ولقد تعاقب في اليسير وليس ذاك لجهلها
إلا ليعرف فضلها ويخاف شدة نكلها (3)

3 ـ أم سنان بنت خيثمة في مجلس معاوية:

كانت أم سنان بنت خيثمة المذحجية من أنصار أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وفي عهد معاوية قدمت على دمشق واستأذنت عليه فأذن لها، فانتسبت له فعرفها، وأمرها بالجلوس، فلما جلست قال لها: مرحباً يا ابنة خيثمة، ما أقدمك أرضنا وقد عهدتك تبغضين قومي، وتحضّين عليَّ عدوى؟ قالت: يا أمير المؤمنين، إنّ لبني عبد مناف أخلاقاً طاهرة، وأعلاماً ظاهرة، وأحلاماً وافرة، لا يجهلون بعد علم، ولا يسفهون بعد حلم، ولا يتعقبون بعد عفو، وإنَّ أولى النَّاس باتباع سنن آبائه لأنْتَ. قال معاوية ـ رضي الله عنه ـ صدقتِ يا أم سنان، نحن كذلك ثم سادت فترة صَمْتٍ، قطعها بسؤال لأمّ سنان يذكرها فيها بشعرها وتحريضها عليه، فقال لها: كيف قولك:
عَزبَ الرقاد فمقلتي ما ترقد … والليل يُصدر بالهموم ويورد

يا آل مذحج لا مُقام فشمّروا … إن العدوَ لا أحمد يقصد
هذا عليُّ كالهلال تحفُّهُ … وسْطَ السماء من الكواكب أسعد
ما زال مُذْ شهد الحروب مظفراً … والنّصرُ فوق لوائه ما يُفقد

وكانت ام سنان ـ رحمها الله ـ تصغي لما ينشده معاوية من شعرها، ولما انتهى قالت له: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، وإنَّا لنطمع أن تكون لنا خلفاً بعده، فمثلك جدير بذلك وقبل أن يتكلم معاوية بكلمة، قال رجل من جلسائه: كيف يا أمير المؤمنين، وأنا أحفظ من شعرها خلاف ما تقول لك الآن فهي القائلة:
إما هلكت أبا الحُسين فلم تزل … بالحق تُعرف هادياً مهديا
فاذهب عليك صلاة ربك ما دعت … فوق الغُصون حمامة قمريا
فاليوم لا خلف يؤمّل بعده … هيهات نمدح بعده إنْسِيا (1)
عندئذ قالت أمُّ سنان وعلائم الحزم والصِّدقِ ترتسم على وجهها وهي تعّرضُ بجلسائه: يا أمير المؤمنين، لسان نطق، وقول صدق، ولئن تحقّق فيك، ما ظننّا فحظُّك الأوفر، والله ما ورّثك الشَّناءة ـ البغض ـ في قلوب المسلمين إلا هؤلاء ـ وأشارت إلى بعض جلسائه، فادحض مقالتهم، وابعد منزلتهم، فإنك إن فعلت ذلك ازدت من الله عز وجل قرباً ومن المسلمين حباً. وتعجب معاوية مما تقول، فقطع عليها مقالتها قائلاً: وإنّك لتقولين ذلك يا أم سنان؟
قالت: سبحان الله يا أمير المؤمنين، والله ما مثلك مدح بباطل، ولا اعتذر إليه بكذب، وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلوبنا، كان والله عليُّ ـ رضي الله عنه ـ أحب إلينا منك إذ كان حياً، وأنت أحبّ إلينا من غيره إذ أنت باق. فسألها معاوية: وممن أنا أحب إليكم ما دمت باقياً؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، أنت أحبّ إلينا من مروان بن الحكم وسعيد بن العاص. قال: وبم استحققت بذلك عليهما؟. قالت بحسن حلمك، وكرم عفوك [2].

وبعد حديث انتهى الحوار، سألها: ما حاجتك الآن يا أم سنان؟ فسألته حاجتها في حفيدها بالمدينة أن يفك أسره، فلبى معاوية طلبها، وأكرمها ووصلها وردّها إلى المدينة، وقد قضيت حاجتها، وكان لسانها يلهج بالدعاء لمعاوية [3]. هذه أمُّ سنان المذحجيّة، إحدى نساء عصر التابعين وممن فُطرت نفسها على الصَّفاء والصَّراحة، وأوتيت شطراً من البلاغة والحكمة ما جعلها في سجل ناصع يحكي خلودها وخلود أمثالها [1] ولم تكن أم سنان المذحجية وحدها التي كانت تعبر عن رأيها، وتتكلَّم بوضوح عن معتقداتها، بل كانت مثيلاتها كثير مثل، الزرقاء بنت عدي [2]، وأم الخير بنت الحريش [3]، لقد كان معاوية رضي الله عنه، يجرّيء الناس على الصدع بمعتقداتهم وآرائهم، ويشجعهم على حرية الرأي والتعبير وحق النقد والمعارضة السلمية.

مصدر الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الانهيار د.علي محمد الصلابي

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.