حتى لا تضيع الفرصة الأخيرة

لا أحب بيعَ الوهم ولا أرتضي لنفسي أن أكذب على الناس، ثم إنني أزدري الذي يقف على رأس أصحاب البلاء ويهتف بهم: ألم أقل لكم؟! هذا عملٌ دنيء لا يصنعه إنسان نبيل. فلمّا قيدت نفسي بهذه القيود الثلاثة لم يبقَ ما أكتبه عن الثورة، فتركت الكتابة فيها منذ شهور طويلة قاسيت فيها ما قاسيت من تأنيب الضمير وعانيت ما عانيت من ضغط الأصدقاء وشماتة الأعداء، حتى إذا برقت اليومَ بارقةُ أمل وأشرفت الثورة على لحظة تاريخية فارقة لم أجد بداً من كتابة كُليمات أرضي بها ضميري وأعذر بها نفسي أمام الله والناس.

إن المكابرة والإنكار سلاح الأغبياء والجبناء، فمَن استثقل العلاج وخاف تبعاته المؤلمة أنكر مرضه، ومن جهل علّته لن يداويها أبداً وسوف يقضي نحبَه فريسةً لها في يوم من الأيام! ثم إن أهل الإدارة يقولون إن أول خطوة في حل أي مشكلة هي الاعتراف بها، وأضيف من عندي: الاعتراف الصريح الشجاع الذي يشخّص المرض تشخيصاً جريئاً بعيداً عن المداراة و المجاملات.

لقد خسرت الثورة كثيراً من الفرص وكثيراً من المكاسب والإنجازات وكثيراً من الأصدقاء، وخسرت أيضاً كثيرين كثيرين من أنصارها على الأرض. لو قلنا إن الثورة لا تعيش اليوم أحسن أيامها لأصبنا، وسوف نكون أكثرَ صواباً لو قلنا إن حالة الثورة لم تكن قط بهذا السوء، وسوف نكون أكثر صواباً مرتين لو قلنا إن الثورة أشرفت على الهلاك لولا لطف الله وثبات ثلة من الصادقين المصابرين على الجبهات. لا أعني جبهات القتال حصراً، فكل من يعمل في دعم الثورة وحاضنتها بأي صورة وبأي طريقة هو على جبهة من الجبهات.

نعم، الثورة في حالة خطيرة ومرحلة عسيرة، ولكنها لم تصل بعدُ إلى خط النهاية، ولئن خسرنا الكثير فإن ما خسره عدونا أكثر، فالطاغية المجرم لم يعد يملك من أمره شيئاً ولا يكاد يحكم في سوريا كلها سوى غرفة نومه والمطبخ والحمّام! لقد بات خادماً، مجرد خادم صغير حقير في بلاط أسياده الروس والإيرانيين. صحيحٌ أن سوريا لم تصبح ملكاً لأهلها الأحرار، ولكنها أيضاً لم تعد ملكاً لبشار وعصابة بشار، قتله وقتلهم الله.

لم تَنتهِ الثورة بعدُ ولن تنتهي ما بقيت في أيدينا رقعة من الأرض نرفع عليها رايتها ونتنفس فيها هواء الحرية العليل، وما بقي لثورتنا رأسُ جسر يمكن أن نطلق منه عمليات التحرير من جديد. لم تنتهِ الثورة بعدُ ولن تنتهي ما بقي فيها من يحمل همّها ويرفع رايتها ويضحي في سبيلها. وهم كثيرون، أعرف منهم من يتصاغر المرء في جَنْب ما يصنعون؛ الذين يبيتون على الجبهات في البرد والناس في الدفء نائمون، الذين يسعون في حاجات المهجّرين والمحتاجين وسواهم في مصالحهم هائمون، الذين لا يعرفون غير الثورة وهموم الثورة وغيرهم بهموم الدنيا منشغلون وفي دروب الحياة ضائعون، الذين يُخرجون من جيوبهم المال واللائي ينزعنَ الحليّ من أيديهنّ فيقدّمنَ ويقدمون للثورة أكرم ما يملكنَ ويملكون.

نعم، لقد خسرنا الكثير ولكننا ما نزال نملك الكثير؛ نملك قلوباً متعَبة تنبض فيها روحُ الثورة وتتدفق فيها أشواق الحرية، ونملك حاضنة منهكة ما زالت تملك إرادة الصمود وتأبى الاستسلام، ونملك أرضاً محررة تآكَلَ أكثرُها وبقي منها كثير، وما نزال نملك علاقات ومواردَ وفرصاً متجددة ومصالح متقاطعة مع الداعمين.

ولكن علينا أن نعترف بشجاعة: إن الفرص تتضاءل والموارد تتآكل والوقت يضيق. ونعترف بشجاعة أكبر: هذا الواقع المر الذي نعيشه اليوم إنما هو حصاد الزرع الذي زرعناه بأيدينا لسنوات، فمن زرع الشوك لن يحصد الورود والأزهار. ونعترف بأم الحقائق: لن تنجو ثورتنا بغير إصلاحات جراحية جوهرية، فإذا بقيت الظروف التي أنتجت الواقع الأليم القديم على حالها فسوف تنتهي بنا أيُّ جهود متجددة إلى النهايات نفسها. فإما أن نغير الظروف لكي ننتج واقعاً جديداً مختلفاً ينقذ الثورة بإذن الله، أو تبقى الظروف نفسها فتعيد إنتاج الواقع الخطير المرير لا قدّر الله.

اليوم تشققت في جدار المحنة الصُّلب شقوق تسربت منها فرصة تاريخية، لو أحسنّا استثمارها فسوف نستعيد ألَقَ الثورة ونضمن لها مستقبلاً أفضل. وحتى لا تضيع هذه الفرصة فنبكيها بكاء أبي عبد الله الصغير على المُلك الضائع، حتى لا نبكي دماً يوم لا ينفع البكاء بالدموع، من أجل ذلك سأكتب بضع كلمات في منشورات قليلة آتية، ثم لعلي أعود إلى الصمت من جديد فأريح مني الأعداء والأصدقاء على السواء.

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.