حب الوطن جبلي و الارتباط بالوطن كسبي

بقلم الشيخ الاستاذ سفيان ابو زيد

(لو لا ان أهلك أخرجوني منك ما خرجت…)

قالها سيد الاوفياء لأوطانهم والمحبين لها صلى الله عليه وسلم عند خروجه من مكة بعد أن اضطهد فيها وحيل بينه وبين إكمال مشروعه الاصلاحي الرباني…
فلو لا حرف امتناع لوجود، فامتناع أهلك على بقائي واستمراري رغم اني صرحت لهم (لكم دينكم ولي دين) رغم ذلك كله أصروا على اخراجي وابعادي بشتى الطرق والوسائل…

فالظاهر انه لا رغبة للنبي صلى الله عليه وسلم في الخروج من مكة وذلك لحبه لها ذلك الحب الجبلي الفطري الذي يربط كل إنسان بوطنه وإن كان ذلك الوطن صحراء قحلاء جرداء، وإن كان ذلك الوطن في ذيل قائمة الغنى والتطور ورغد العيش، فإن حبه يبقى مغروسا في قلبه لانه يرى فيه صباه ويرى فيه لغته ويرى فيه ذكرياته ومسقط رأسه، وكأني بالنبي صلى الله عليه وسلم لما نطق بتلك الكلمات رجعت به ذاكرته الشريفة إلى أيام الصبا والرعي على قراريط وإلى أيام الشباب والقصص مع الاصدقاء والاقارب والجيران…

ولكنه صلى الله عليه وسلم لما رفضت ولفظت رسالة حياته ووضعت أمامه العقبات ودفع إلى الخروج حيل بينه وبين مشروعه ورسالته الالهية انتقل وارتبط بالبيئة التي وجد فيها نفسه ونَفَسه واستطاع من خلالها أن يرى ثمار مشروعه تينع شيئا فشيئا فأصبحت المدينة منتماه ووطنه ومحياه ومماته، مع بقاء حبه لمكة ذلك الحب الفطري والجبلي…

نقرأ من خلال هذا المشهد أن حب الوطن أمر جبلي فطري لا مزايدة فيه ولا مناقصة…

أما الارتباط بالوطن أمر كسبي تؤثر فيه علاقة متبادلة بين الفرد ومكونات ذلك الوطن ( الشعب والارض والسلطة) موازينها الحقوق والواجبات وتحقيق الاهداف والغايات، فمتى ما اتزنت تلك الموازين اعتدل الارتباط وتعمق وتجدر في أعماق ذلك الفرد وذلك الوطن حتى يستحيل اقتلاعه… وإن اختلت تلك الموازين تسطح ذلك الارتباط وتضحل وهزلت حباله وكانت عرضة للقطع بأدنى شد إلى حيث لا رجعة، مع بقاء جذوة ذلك الحب مشتعلة تنتظر أمل اتزان تلك الموازين…

والارتباط بالوطن مبني على الثقة فيمن كلف نفسه بسياسة الوطن أو اختارته الأغلبية لتلك المسؤولية ومحاسبتهما وانتقاد سياستهما…
وكذلك يكون مبنيا على تمتيع المواطن بحقوق تكون دافعا له للقيام بواجباته، والتشبث برأضه والتضحية من أجله والتفكير في مستقبله…
فإن أحس المواطن بأدنى مستوايات ذلك، فسيصبح وتدا راسخا أمام كل سياسات الإغراء والجذب الخارجي…
وسيصبح جبلا شامخا أمام رياح الإطاحة وعواصف التخريب…

وسيصبح بذرة صالحة لكل مشاريع التطوير والإبداع…
وسيصبح طوقا محكما صادا لسهام الزعزعة والفوضى…
وسيصبح ترسا أمام قذائف الاستهداف الداخلية والخارجية…
وسيصبح سيفا قاطعا لكل حبال الخيانة والفساد والاختلاس…

فإن انعدمت الثقة وتبخرت الحقوق وعم الفساد واختلط الحابل بالنابل، والصالح بالطالح، وغلب الفساد على من كلف نفسه بالإصلاح وروضه وجعله صهوة له وهو مستمرئ لذلك، واختفت الحقيقة وغيبت الصراحة، وكثر الكومبارس،
عندها تتلاشى ذرات الارتباط عند الغالبية من المواطنين وتصبح هباء منثورا وريشا منفوشا ترمي بها أي ريح مخلصة من ذلك الارتباط، مجهولة الغاية والوجهة…

هذا إن كف ذلك المواطن شره وابتعد حاملا روحه وجسده ليجد نفسه ونَفَسه في أي بقعة أو مكان يرد له شيئا من الاعتبار والحقوق ولو بالمغامرة بتلك النفس عبر أشرعة الموت ومسالك الإذلال المخلصة له والتي يتراآى له من وراءها آفاق الاعتبار والاستقلال…
فإن انقطعت أمامه سبل الفرار، بقي عنصرا متذمرا غير مبال أو مستجيبا لدعوات الطأطاة الناثرة للفتات، أو مروضا متواقعا منتظرا لفرص الانعتاق، أو محاولا بشتى الطرق للإصلاح بما أوتي من قوة غير مستكين منتظر دوره في إجراءات القمع المتربصة، أو سيلا عارما يجرف الأخضر واليابس…

وسدود شعاب ذلك السيل في بناء الثقة وأداء أبسط الحقوق وبناء المسؤولية على المحاسبة…فمن كلف بمسؤولية ايا كانت يعلم يقينا بأنه سيعطي أكثر مما يأخذ ماديا ومعنويا
عندها سنستنشق نسيم الأمل من بعيد..

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.