تركيا أولا؟!

بقلم الاستاذ محمد جابر الجمعية المحمدية الطيبة فلسطين 48

عرفت الدول الاسلامية في صيغتها الحديثة تجربتين رائدتين ونجاحا ملفتا في السياسة الداخلية، وهي التجربة التركية التي قادها اردوغان، وسبقتها التجربة الماليزية التي تزعمها مهاتير محمد. كلتا التجربتين ساهمتا مساهمة ملحوظة لتحويل تلك الدول من دول فاشلة فاسدة إلى دول ناجحة بل ومتفوقة. وبالتحديد في سياستها الداخلية الإدارية والتنظيمية وعلى رأسها الجانب الاقتصادي … وليس سرا أن توجُّه الرجلين الفكري والعقدي اسلامي، وكذلك خطابهم العام الجماهيري الشعبوي الذي يدغدغ مشاعر وأحلام الشعوب الاسلامية والعربية، التي أرهقتها النكسات والنكبات، وإن لم يكن الطرفان يحكمان بنظام ومنظومة اسلامية، إلا أن الرأي العام بالغالب ينظر اليهم بانهم اسلاميي التوجُّه والغاية.
ولا شك أن معظم أبناء الشعوب الاسلامية وبالتحديد العربية منها، يتمنى أن يقود بلاده رؤساء على شاكلة اردوغان ينقل دولهم النقلة النوعية والمعنوية التي نقلها هذا الزعيم الفذ، ولهذا تعتبر تركيا في هذه المرحلة من تاريخ امتنا نقطة الضوء وبارقة الأمل التي ينظر إليها قسم كبير من هذه الامة كنموذج يحتذى. وأهم من ذلك أن في هذه الامة ما زالت قوى دفع تستطيع النهوض بها من جديد، وإعادتها إلى المسار الصحيح الذي يليق بها ويليق بالدين العظيم الذي تشرفت بحمله.
وكلما حققت تركيا نجاحات على الصعيد المحلي، ازداد توقع البعض منها وأمله فيها، وساهم في ذلك خطابات اردوغان الحماسية ونبرته العالية وعاطفته الجياشة واصابته قلوب الناس وعقولهم، وأكثر من ذلك تعطشهم لهذا الصوت.

إلا أن الواقع المؤسف يقول أن اردوغان فيما يتعلق بسياسته الخارجية تبين انه ليس اكثر من ظاهرة صوتية لا رصيد حقيقي لها، إلا ذلك الذي يتعلق بمصالح تركيا الخاصة، أو ما قد يعرض تلك المصالح للخطر او التهديد. هذا من دون الخوض في النوايا الشخصية التي نحسن الظن بها، ونعتقد ان الرجل حين يقول ما يقول يكون قاصدا لذلك مؤمنا به، ولكن الأمر لا يتعدى رد الفعل والمشاعر، وإذا اخضعنا تلك التصريحات والكلمات لامتحان النتائج فإننا سنرى في الغالب خيبة أمل وشيكا بلا رصيد كما يقولون…
إن التحرك التركي غير ثابت، ومتغير بناء على المصالح التركية الضيقة، وليس هنالك حلفاء أو أصدقاء ثابتون وإنما يتغير الموقف بتغير المصالح، وهذا أمر لا بأس به، بل قد ينظر إليه البعض بأنه الحكمة بعينها والسياسة على أصولها، أو كما يحب أهل السياسة والمحللين تسميتها بالواقعية السياسية أو البرغماتية التي لا تعرف قيما ولا مبادئ، وإنما الغالب فيها لغة المصالح التي لا يعلو فوقها صوت، بل وقد يداس في سبيلها كل مبدأ أو قيمة، وهذا أيضا لا بأس به بشكل عام إذا صدّر صاحب هذا الاتجاه للآخرين أنه يعمل في ساحة العمل السياسي بأدوات السياسة المتاحة أمامه، ولا يرفع سقف التوقعات منه ولا يبث لعموم الناس أن ما يحكمه القيم والمبادئ، وفوق كل ذلك الدين والشرع والحلال والحرام والحق والباطل وليس فوقهم أو دونهم أي اعتبار، ثم إذا تعارضت هذه مع أي مصلحة لدولته خاصة، تم تجاوز هذه الاعتبارات وتقديم المصلحة الآنية لدولته. وهذا ما يظهر جليا في سياسة تركيا الخارجية تقريبا في جل المواقف التي تتخذها إن لم يكن في كلها…
والأمثلة على ذلك كثيرة لا يتسع المجال لذكرها في هذا المقال، ولكنني سأكتفي باثنتين او ثلاث منها يكون سقف الخطاب التركي وبالتحديد اردوغان عال جدا في قضية من قضايا الامة، ترتفع معه التوقعات، ثم بعد ذلك لم يبقى من أثر ذلك الخطاب أي شيء سوى خيبة الأمل التي تعود تجرجر أذيالها، فمثلا أحداث سفينة فك الحصار عن غزة مرمرة ومن قتل فيها الذين نسال الله العلي العظيم أن يكتبهم من الشهداء. فالمتتبع للخطاب التركي منذ تلك الحادثة أين ارتقى ثم إلى أين وصل, ثم اتفاق المصالحة مع اسرائيل وما تبعه من وعود وامال بفك الحصار أو تخفيف وطأته على الاقل وماذا أثمر، يجد أن الخطاب بالمرحلة الأولى كان سببه ممكن أن يكون الغضب ورد الفعل لهذا الغضب، ولكن عودة العلاقات بين الطرفين لم يكن سببه قبول اسرائيل الاعتذار أو تعويض أهالي القتلى بعشرة ملايين دولار، أو حتى ما أوحي إليه عن موافقة اسرائيل على تخفيف الحصار عن غزة… وإنما مصالح اقتصادية بين الطرفين على وقع اكتشاف اسرائيل لحقول الغاز الضخمة في البحر المتوسط ورغبتها في تصديرها إلى اوروبا عن طريق أنابيب تمر من الأراضي التركية، وهي الإمكانية الوحيدة اقتصاديا تقريبا،ما أسال لعاب تركيا وجعلها تتجاوز كل الاعتبارات الأخرى أو تخفض سقف خطابها، وعلى ذلك يمكن ان تقيس أيضا خطاب اردوغان في اليوم الأول حين أعلن ترامب اعتراف امريكا بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهذا المثال لأصحاب الذاكرة القصيرة …
وفي أيامنا هذه التدخل العسكري التركي في سوريا، فالخطاب التركي يتحدث عن إعادة اللاجئين السوريين إلى أراضيهم وتشكيل حزام آمن لهم والحفاظ على وحدة الأراضي السورية ومنع إقامة دولة كردية على الحدود السورية تشكل منطلقا للهجمات ضد تركيا ذاتها ويهدد وحدة أراضيها وسلمها الأهلي. خصوصا وأن الاكراد جزء أساس من مركبات الشعب التركي كما هو الحال في العراق وايران وسوريا… فالتحرك التركي لم يكن لمصلحة الشعب السوري ضد نظام مجرم استعان بكل قوى الارض من أجل وأد حلم شعبه في الحرية، وإنما باللحظة التي أحس بها النظام التركي أن عدم تحركه الان يعني أن مستقبل تركيا في خطر حقيقي، وأن حديقتها الخلفية أصبحت مخترقة بعد أن أظهرت لها مجموعة من العمليات الانتحارية على اراضيها صورة مصغرة للمستقبل الذي كان ينتظر تركيا، فبادرت إلى التحرك بهذا العنف والقوة وعلى عكس ما يتصوره ويصوره بعض الداعمين للنظام، فإن تركيا لم تقدم دعما حقيقيا للثوار أكثر من خطابات رنانة لاردوغان واستيعاب اللاجئين المكلومين. ولو قدمت تركيا في بداية الثورة عشرة بالمئة مما قدمته ايران لنظام بشار لما وصل حال سوريا إلى ما وصلت اليه …. ومن أراد أن يرى سرعة التدخل التركي على حقيقته فلينظر إلى ازمة الخليج وسرعة ارسال الجنود الاتراك إلى قطر عندما علمت تركيا أنها إن تركت قطر فالدور القادم عليها وستقول أكلت يوم أكلت قطر…..
فإذا كان السؤال هل اردوغان أفضل من جميع الزعامات العربية والاسلامية القائمة؟ الجواب القطعي نعم، وبسنوات ضوئية. أما إذا كان السؤال هل اثبت أنه زعيم ذو مشروع إسلامي ؟ فالجواب القطعي لا، وبكافة المحطات، هذا مع حسن ظننا بالرجل.

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.