بعد الخطاب التبريري للتطبيع: هل ستصبح الدولة العربية مجرد جارية تنفذ أوامر السيدة التي هي الدولة الصهيونية؟

عبدالسلام بنعيسي :كاتب مغربي

تركّزُ جميع الأطروحات العربية الرسمية في خطابها لتبرير التطبيع الرسمي العربي مع الكيان الصهيوني، حول فكرة واحدة عبَّر عنها الأستاذ عبد العلي حامي الدين القيادي في حزب العدالة والتنمية المغربي عندما قال: (( إن الدولة المغربية لا يظهر من سلوكها العميق أنها مهرولة ومقبلة نحو التطبيع الرسمي، وإنما دفعت له دفعا))، ويقوم الأستاذ حامي بتوضيح هذه الفكرة قائلا إن: (( حقل العلاقات الدولية محكوم بالكثير من أدوات الضغط والابتزاز المستمر، الذي يؤدي في النهاية إلى تقدير المصالح بناء على تقدير المخاطر)).
لكن لماذا تُدفَعُ الدولة العربية نحو التطبيع دفعا؟ لماذا تُقدِمُ على خطوة ليست مقتنعة بها؟ ما هي الأسباب الذاتية التي تجعل الدولة العربية عاجزة عن رفض التطبيع ولا تقوم برميه في وجه من يسعى لفرضه عليها؟ ألا تتحمل هذه الدولة المسؤولية في ممارساتها السياسية عمّا يفرضه الأخرون عليها؟
لو كانت لدينا ديمقراطية فعلية، ومشاركة شعبية حقيقية في صنع القرار، ولو كان لدينا تدبير للشأن العام ولثرواتنا الوطنية بطريقة عقلانية ومنتجة تحقق تنميتنا المستدامة والمضطردة، ولو كان لدينا تضامن عربي قائم وفعال، بكلمات موجزة، لو كان الإنسان العربي حرا وسيدَ نفسه في وطنه، هل كانت دولته ستشعر أنها مرغمة على التطبيع مع الكيان الصهيوني؟؟
يفترض في الدولة أنها سيدة قراراتها، وحين تُقدم على اتخاذ أي إجراء، فإنها تقوم بذلك تقديرا لمصالحها الذاتية، وبما ينعكس بشكل إيجابي على مواطنيها، وقبل الإقدام على خطوة تكون حساسة ومثيرة للجدل، مثل التطبيع، فإن الدولة تسبقها وتوازيها بحملة إعلامية تشرح فيها الأسباب الموضوعية التي دفعتها لاتخاذ هذه الخطوة.. وتضع جميع الاعتبارات التي تلزمها بالإقدام عليها بين يدي الجمهور..
يتحتم أن يخضع الموضوع لنقاش عمومي شفاف، في الصحافة ووسائل الإعلام الوطنية، وفي الوسط الحزبي، والنقابي، والجمعوي، وفي قبة البرلمان، ويكون مجالا لندوات صحافية من طرف الوزراء المعنيين به، ويتم تناوله من جميع أوجهه وجوانبه، وحين يصبح الموضوع ناضجا والرأي العام مقتنعا به، وقتها يتمُّ الإعلان عنه بشكل رسمي، ليكون محلَّ ترحيب من طرف المواطنين، ويكونون متحمسين له، ويتفاعلون معه، ويساهمون في إنجاحه..
في السياسة جميع القرارات تُدرس من كل جوانبها دراسة مستفيضة ودقيقة، قبل تبنيها، ويتعين أن يكون الحاكم شبه مؤكد أن في القرار الذي يتخذه مصلحة بلده وشعبه قبل التوقيع عليه، فالعديد من القرارات يتخذها الحكام معتقدين أن فيها فائدة لشعوبهم، ثم يتبين لهم بعد إدراجها حيز التطبيق أنها كانت قرارات خاطئة، وقد تؤدي أحيانا إلى نتائج كارثية، فما بالك بالقرارات التي يُدفع إليها من يتخذها دفعا، رغم أنه غير مقتنع بها..
الدولة التي تقدّر مسؤولياتها وتحترم نفسها لا يمكنها أن تتجرأ على القول لرأيها العام إنها مدفوعة دفعا لاتخاذ هذا القرار أو ذاك، رغم أنها غير مقتنعة بجدواه وبفائدته، ففي ذلك تخلٍّ عن التزاماتها، وقد يعدو في الأمر مغامرة ومخاطرة بمصالح البلد برمته.
كلفةُ الرضوخ للابتزاز الأمريكي والصهيوني تصبح في الغالب أعلى من كلفة مقاومته ورفضه. ولنا في الدولة المصرية المثال الحي، كيف كانت مصر قبل توقيع اتفاقية كامب دافيد وكيف باتت بعدها؟ لقد كانت القاهرة في خمسينات وستينات القرن الماضي قبلةَ جميع أحرار العالم، وداعمة لكل حركات التحرر في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وباتت مصر بعد تأميم قناة السويس وصدها للعدوان الثلاثي أم الدنيا حقا، ورغم نكسة 1967 فإن مصر الناصرية خاضت حرب الاستنزاف وتمكنت بعد ست سنوات فقط على النكسة، من إعادة بناء جيشها الذي حقق في أكتوبر 1973 الانتصار على العدو الصهيوني..
أما مصر التطبيع الرسمي مع هذا العدو فقد أضحت محاصرة من الجنوب، ومهددة بالتعطيش، نتيجة السدود التي يتمُّ بناؤها من طرف إثيوبيا تحت إشراف إسرائيلي في مجرى النيل الذي يعد واحدا من المصادر الرئيسية لعيشها، ومحاصرة من الغرب في ليبيا من طرف تركيا، ومهددة بالإرهاب الأعمى من أرضها في سيناء، وتبيع الآن القاهرة مؤسسات القطاع العام التي تم تشييدها في العهد الناصري لكي تتدبر خبزها بعد أن غرقت في المديونية والفساد إلى حدود الرقبة..
والسلطة الفلسطينية التي اختارت مهادنة العدو والتطبيع معه موهمة نفسها بإمكانية استدراجه عندها لكي تحصل منه على حقوق الشعب الفلسطيني، فلقد تحولت إلى مجرد جهاز أمني يشتغل عند الصهاينة في مهمة محددة ألا وهي حماية قطعان المستوطنين الذين يستولون على الأرض الفلسطينية ويقومون بتهويدها..
نضال الشعب الفلسطيني الذي كان مضربا للأمثال في التضحية والصمود والاستشهاد، بات ماضيا بعيدا بعد أن صادرته سلطة رام الله وأخذت تزج بمن يبادر إليه في السجون، وحتى الأسرى في سجون العدو الصهيوني صاروا عبئا على السلطة التي شرعت تل أبيب في مساومتها على حقوقهم وتحرضها على التنكر لها..
ليس للابتزاز الصهيوأمريكي حدود، إنه فضاء بلا سقف، يبدو في مستهله طلبا للاعتراف والتطبيع، ولكن هذا الطلب قد يتدحرج إلى ما لا نهاية، ويتحول إلى تحكمٍ في البلد وفي ثرواته وثوابته وفي سياسته الداخلية والخارجية.. فها هي الصحافة العبرية تتحدث عن ضغط إسرائيلي على المغرب ليقوم الملك محمد السادس بزيارة تل أبيب، والغرض من الزيارة، كما تؤكد تلكم الصحافة، هو توظيفها في حثُّ اليهود المغاربة على التصويت لفائدة بنيامين نتنياهو، وليس مستبعدا أن يتم توجيه طلبٍ أو أمرٍ لواحدة من الدول الخليجية الثرية للقيام بتمويل الحملة الدعائية الانتخابية لفائدة الليكود..
ولكن ما هو المقابل الذي سيحصل عليه العرب من الكيان الصهيوني؟ لا شيء على الإطلاق. الأنظمة العربية تقدم التنازلات المستنسخة والمسترسلة، والحكومات الإسرائيلية تتألف من أحزاب يمينية متطرفة تزايد على بعضها البعض حول مَن منها يلغي حقوق الشعب الفلسطيني ويطمسها، ويهين العرب والمسلمين.
وواضح أن التنازلات العربية للكيان الصهيوني أضحت بلا قاع ولا قرار، وإذا ظلت الأمور ماضية في هذا الاتجاه، فإنها ستُفضي إلى أن الدولة العربية ستصبح مجرد جارية تنفذ أوامر السيدة التي هي الدولة الصهيونية.. كم كان المؤرخ والمفكر المغرب الكبير عبد الله العروي على حق عندما حذرنا قائلا: الدولة الوطنية راهنا تتفكك وتسلب منها كل سيادة.

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.