النميمة والنجاسة

سفيان أبوزيد

بين النجاستين المادية والمعنوية(البول والنميمة)

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين ، فقال : إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير ؛ أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ، ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين ، فغرز في كل قبر واحدة . فقالوا : يا رسول الله لم فعلت هذا ؟ قال : لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا .

اشتغل بعض الشراح في هذا الحديث بقضية إثبات عذاب القبر أو نفيه والاحتجاج لذلك، ولم يولوا بنفس الحماس والأهمية مقاصد هذا الحديث وأغراضه ومراميه، وبعده القيمي والأخلاقي، رغم أن قضية إثبات عذاب القبر مغروف منها، لكنها ليست اساسا ولا مقصدا في هذا الحديث، وإنما جاءت تابعة، فلنعد البوصلة إلى نصابها ولنركز على مقاصد وأسرار هذا الحديث العجيب:

بعد تأمل هذا الحديث والاطلاع على ألفاظه ورواياته وردتني تساؤلات:
لماذا الجمع بين هاتين الخصلتين (عدم التنزه عن البول، والمشي بالنميمة) ؟
هل فعلا هذان العملان ليسا بالكبيرين كما ورد في أغلب روايات هذا الحديث؟ وما المقصود من كونهما ليسا كبيرين؟
ولماذا هم النبي صلى الله عليه وسلم للمحاولة التخفيف عنهما؟

(إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) وفي رواية (سمع صوت إنسانين يعذبان في قبولهما) أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن صاحبي القبرين يعذبان وهذا تصريح واضح بما يكون في هذه المحطة من نعيم او جحيم، والذي ينبغي ان نشتغل به، هو كيف يمكن ان نصل إلى ذلك النعيم، ونبتعد عن ذلك الجحيم، كما نتوسل إلى الطهارة المادية والمعنوية، ونتنزه من النجاسة المادية والمعنوية..

وفي هذا التعبير دلالة على تجدد عذابهما واستمراره وتأكيده، وسماع صوتهما دليل قاطع حسي على هذا الأمر.
نسأل الله السلامة والعافية.

(وما يعذبان في كبير) أي أن سبب وموجب عذابهما ليس كبيرا، في حركته وعمله ووسائله، والطاقة التي تبذل من أجله، فالتعرض للبول وعدم التنزه منه ناتج عن إهمال وعدم اكتراث من صاحبه، وكذلك النميمة والمشي بها عمل سهل لا يتطلب جهدا، فكلا العملين ليس بالكبير، هذا من جهة، وهو كذلك ليس بكبير في نظر الناس، ونظر العقل، حتى يترتب عنهما هذا الجزاء المستمر استمرارهما في القبر (ليعذبان وما يعذبان في كبير)

وجاء الاستدراك في رواية (بل هو كبير) وفي رواية (وإنه لكبير) وفي رواية قال (بلى) وفي هذا تصحيح لذلك المفهوم السائد وهو استصغار هذين العملين او استسهالهما أو عدم الاكتراث بهما وبعواقبهما ومآلاتهما ومفاسدهما…فهما عملان كبيران خطيران، ليس فقط للعقاب المترتب عنهما، وإنما للمفاسد الناتجة عنهما في الدنيا، فكان ذكر العقاب والعذاب استنهاضا للفكر ودليلا على خطورتهما الدنيوية أي في الدنيا..

(اما احدهما فكان لا يستنزه من البول) وفي رواية (اما هذا) وفي رواية (لا يستتر ) وفي رواية (لا يستبرئ) وفي رواية (يعذب في البول) وفي رواية ( من البول ) وفي رواية ( عن البول ) وفي رواية (من بوله)

وهنا يبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم الكبير الأول الذي كان سببا في عذاب أحدهما، وهو سلوك تَركي منفي ب (لا) يستنزه أو يستبرئ او يستتر ويمكن تفسيره بسلوك فعلي وهو (يتعرض) او (يتلطخ) ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عبر بالصيغة المنفية وبالسلوك المنفي، للدلالة على أمرين:
للدلالة على السلوك الإيجابي الذي ينبغي أن نسلكه والتصريح بلفظه وهو التنزه او الاستبراء او التستر عن البول ومنه.
وللإمعان في هذا السلوك الشنيع والتعود عليه فهو لا يتعرض فقط إلى البول بل لا يستتر منه وهذا التعبير آكد في تصوير الحالة وعرض بشاعتها شناعتها..
وقد جاء التعبير عن المنفي بالاستنزاه وهو الصون والتصون والبعد والاحتياط والتطهر والورع والتحفظ والتحاشي والتنحي.
وبالاستبراء وهو الاستنقاء وطلب البراءة والبرء وقطع الشبهة والريبة والاستقصاء..
والاستتار الاختفاء والاتقاء والاحتجاب والتغطية..

وهذه أفعال وإن كان يجمعها معنى عام وهو الوقاية والتوقي إلا أن لكل فعل دلالته، فالمطلوب محاولة الابتعاد عن النجاسة المادية صغرت أم كبرت، والتطهر منها والتنزه والتأنف عنها واستقصاء أثرها وإزالة شبهتها والاحتياط مما يوقع فيها، وقد عبرت بالمحاولة لأنه قد يقع الإنسان في النجاسة او تقع عليه أو يبتلى بها، فالمقصود هو المحاولة ما أمكن اتقاء ذلك والاسمرار على الطهاة والنظافة وتوفير أجواء ذلك ووسائله، فهذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يستنزه من نجاسة رذاذ البول او رشاشه او من البول نفسه، فمن باب أولى البعد والتباعد عما هو اعظم من البول ورذاذه ورشاشه…وللإنعام في هذا التنزه، جاء تعريف البول، أي من أي بول سواء كان بوله او بول غيره، وبعبارة أخرى من أي نجاسة سواء كانت نجاسته او نجاسة غيره، وكذلك جاء التعبير ب(من البول) و(عن البول) للدلالة على الابتعاد من مكان النجاسة وتجاوز مكان النجاسة.
وفيه تحذير عن التنجس والتنجيس واتخاذ ذلك عادة وسجية، فلا تنجس ولا تنجيس..وبذلك باتخاذ كل الوسائل المتاحة لتوقي ذلك..
ونحن نعلم بأن الشريعة جاءت بالعفو فيما زاد عن الوسع في هذا الباب، ولكن المقصود هنا هو ترسيخ كلية الطهارة ومفهوم النظافة المادية وإشاعته حتى يصبح عادة وسجية لا ينفك عنها إلا عند السهو أو الضرورة..

بعد ان ارشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الجمال وهذا النقاء المادي والحسي الذي ينبغي أن يكون حاضرا في المجتمع المسلم، وذلك بتحذير من وسائل نقيضه وهو التنجس والتنجيس بشتى صوره واشكاله أدناها التعرض ومخالطة البول..

جاء التحذير مما هو أعظم وأخطر ممن مجرد تبول أو تعرض لبول او عدم تستر منه، بل إنه في تقدير أن الصورة الاولى والمشهد الاول والسبب الاول، ببشاعته جاء خادما لخطورة وشناعة السبب الثاني من أسباب العذاب الدنيوي والأخروي، ولذلك جاء ذكر عدم الاستتار من البول مقدما في اغلب الروايات على المشي بالنميمة، فبالحسي يتضح المعنوي، فهو مقصود ومقدمة لهذا الخطر الداهم والنجاسة المعنوية، وهي نقل الحديث من قوم إلى قوم على جهة الإفساد والشر، وعبر عنها بهذا المعنى للدلالة الخفاء والريبة وبعث الشك والضغينة وكل الوان الحقد والكيد.

فإذا كان البول نجاسة مادية فالنميمة هي النجاسة المعنوية، فإذا كان الذي لا يتنزه عن البول ولا يستبرئ منه ولا يستتر منه ينجس نفسه بالأصالة وغيره بغير المباشر، فإن الذي يمشي بالنميمة ينجس غيره ومجتمعه بالأصالة وهو محرك تنجيس وتعفين وتوسيخ وتكدير وتفريق وتمزيق، وإذا كان البول جبلة خلقت فينا لا يمكن بحال من الأحوال الإنفكاك منها، بل فيه مصلحة للجسد والمجتمع فمن الأمراض الخطيرة حقنه او عدم إخراجه، فإخراجه واجب وضرورة لذلك جاءت الفطرة والشرع ليعلمنا كيفية الإخراج السليم، أما النم والنميمة فهي مكتسبة وليست ضرورة، وأصلها مرض قلبي خلقي سلوكي، ينبغي التخلص من جذوره بأدواء حسن الظن وإحسانه، وترك التجسس وحفظ الأسرار وتطهير السريرة، وترك ما لا يعني، وستر العورات، وغير ذلك من الوقايات والعلاجات والمطهرات والمعقمات التي دلنا عليها شرعنا الحنيف، وقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم المشي وهو حركة فعلية ووسيلة محايدة ولكنها كانت بالنميمة فهو بسببها فهي الدافعة له، وهي مصاحبة له وملاصقة له، فهذا المنجِّس سبب حركته ومشيه هو النميمة، وهي ديدنه ومنهجه ووسيلته وحديثه ومنطقه ومبعثه، وعبر بالفعل المضارع (يمشي) للدلالة على تجدد واستمرار هذا التنجيس، نسأل الله السلامة والعافية. فالذي يمشي بالنميمة كالذي يرش الناس بالنجاسة، فالاول كان يرش نفسه بالبول وهذا يرش غيره بنجاسة النميمة ورشاشها ورذاذها..

وقد جاء في بعض الروايات ذكر الغيبة بدل النميمة، لأن الغيبة هي ام النميمة، فالتنجس يبدا بالغيبة ووسيلة إشاعة النجاسة يكون بالنميمة، فالذي يمشي بالنميمة كالذي أكل لحم أخيه ميتا أو أكِل لحم أخيه ميتا أمامه فساهم في توزيعه ونشره ظلما وعدوانا وبهتانا وافتراءا، نسال الله السلامة والعافية.

ورجوعا إلى السبب الاول والصورة الأولى والشخص الاول الذي كان لا يستنزه ولا يستبرئ ولا يستتر من النجاسة، فمفهوم مخالفته هو طلب ووجوب الاستنزاه والاستبراء والاستتار من النجاسة، وكذلك الأمر هنا، فلابد من التنزه عن النجاسة المعنوية المعبر عنها بالنميمة، والتانف منه والترفع عنها، والابتعاد عنها وعن أهلها الماشين بها، والاحتياط منها ومن اهلها الماشين بها، والاستنقاء منها ومن اهلها والماشين بها، والتبرؤ منها ومن اهلها والماشين بها، والتطهر منها ومن اهلها والماشين بها، والتحفظ عن كل وسائلها ودوافعها ومن مجالسها ومستنقعاتها..

فكما أننا استبشعنا السبب الاول وهو التعرض للبول والنجاسة المادية ووسائلها واماكنها وأصحابها، فكذلك يبنغي ان نكون مع النجاسة المعنوية (النميمة) ومع وسائلها ودوافعها وأسبابها واهلها والماشين بها..بل هذه النجاسة اخطر وابشع وانتن من الأولى..

ونظرا لسماع النبي صلى الله عليه وسلم لصوت هذين المعذبين، سارع إلى التخفيف عنهما، وهو الرحمة المهداة، ومشكاة الصلاح والإصلاح، وجلب المصالح ودرإ والتخفيف من المفاسد..إلا ان تخفيفه صلى الله عليه وسلم كان مؤقتا لحظيا ( ما لم ييبسا ) للدلالة على خطورة ما كان يقترفانه ويجترحانه من مفسدتي التنجيس المادي والمعنوي.

وفي هذا دعوة إلى المساهمة في مكافحة هذين الدائين العضالين وهذين السلوكين الخطيرين، بالوعظ والإرشاد والتربية والتسليك وتصحيح المفاهيم وبعث الأمل فيمن ابتلي بهما او بأحدهما، بأن يتطهر ويتخفف من دواعيهما وأسبابهما ويتوب إلى الله عزوجل، الذي يمحو ويعفو، وينتقل من فئة المنجسات إلى فئة المطهرات، فتبدل سيئاته حسنات، فيخفف عنه مطلقا لا تخفيفا وقتيا لحظيا إن كان، وذلك قبل فوات الأوان.(ما لم ييبسا)

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.