الفقه والطب.. المنظور الأخلاقي للإنسان وضرورة التفكير النقدي

معتز الخطيب

شهد حقل الطب تغيرات جذرية؛ بفضل الحداثة ورؤيتها للإنسان والحياة والعالم، ومن ثَم نشأت نقاشات حديثة حول سلطة الطب مع تعاظم إمكاناته وفعاليته في مقابل تراجع سلطة التصورات الدينية القديمة بفعل العلمانية أو بفعل تقدم المعرفة الطبية.

يُظهر الاشتغال الفقهي بالإنسان وبدنه منظورًا أخلاقيًّا يؤكد أن وجود الإنسان له جانبان: الأول جانب تعبدي يتصل بنعمة الوجود وشكر الموجِد (أو المنعِم) وهو مبدأ أخلاقي ثابت عقلاً، والثاني: جانب غائيّ من حيث إن الإيجاد منوط بغاية؛ وليس عبثًا أو لهوًا

تقوم الرؤية الإسلامية للإنسان على أنه مكون من 3 عناصر هي: البدن والنفس والروح، والتمييز بين الروح والنفس يكتسب أهمية خاصة في علم التصوف؛ إذ إنه لا يكاد يوجد في الإرث الفلسفي اليوناني الذي تأثر به فلاسفة المسلمين المتقدمين. وقد اشتمل القرآن الكريم -في أوامره وتوجيهاته- على رعاية هذه المكونات الثلاثة جميعا، وورث المعارفَ المتصلة بها 3 فئات من العلماء، وهم الأطباء والفقهاء والمتصوفة:

فالأطباء انشغلوا بطب الأبدان.
والفقهاء انشغلوا بمعرفة أحكام أفعال الجوارح والأبدان.
والمتصوفة انشغلوا بأعمال الباطن وأحوال النفس وطبّ القلوب وأمراضها.
أولاً: المنظور الفقهي للإنسان وأوجه رعايته للبدن
ولكن رعاية البدن تحديدًا اشترك فيها الفقهاء والأطباء معًا، كلٌّ من جهة اختصاصه قبل أن يقع التداخل وتتغول سلطة الطب الحديث على مساحات كانت تاريخيًّا من اختصاص الفقيه. فميدان الفتوى يتسع ليشمل مختلف المسائل التي تتناول أفعال الجوارح (الجسد)، والتي تتوزع على مختلف الأبواب الفقهية المعهودة في كتب الفقه، أي كل ما يتصل بالنشاط الإنساني؛ فموضوع الفقه هو أفعال المكلَّفين وإذا عُدم الجسد أو تعطلت حركته تعطل كثير من أفعاله.

ويُظهر الاشتغال الفقهي بالإنسان وبدنه منظورًا أخلاقيًّا يؤكد أن وجود الإنسان له جانبان: الأول جانب تعبدي يتصل بنعمة الوجود وشكر الموجِد (أو المنعِم) وهو مبدأ أخلاقي ثابت عقلاً، والثاني: جانب غائيّ من حيث إن الإيجاد منوط بغاية؛ وليس عبثًا أو لهوًا. وبناء على هذا التصور وقع التداخل بين الطب والفقه لدى علماء المسلمين ما قبل الحداثة، كما وقع التداخل بين الطب والفلسفة في الموروث الفلسفي اليوناني قبل سيادة التصورات الحديثة التي تُغلّب المنظور المادي والتجزيئي للإنسان والمعرفة.

ويبدو المنظور الأخلاقي للإنسان بجانبيه السابقين (التعبدي والغائي) من 3 جهات انشغل الفقهاء الكلاسيكيون فيها بالبدن الذي هو موضوع علم الطب، وهي:

الجهة الأولى: أن حفظ النفس (والبدن آلة النفس الإنسانية) أحد مقاصد الشريعة الخمسة التي قيل إنها مراعاة في كل ملة (أي كونية)؛ ويتمثل حفظ هذه النفس في 3 معان كما أوضح الإمام أبو إسحاق الشاطبي وهي:
.
وبناء على هذه الجهة، يندرج الكلام عن البدن والأفعال المتصلة به وتلك الصادرة عنه ضمن منظومة الحقوق القائمة في مجال الفقه على 3 أركان: حق الله، وحق العبد، والحق المشترك بين الله والعبد، وهي منظومة تنتظم جميع أحكام الشريعة التي لا تخرج عن واحد من هذه الحقوق الثلاثة؛ فالجسد يشتمل على حقوق مشتركة بين الله والعبد، مما يؤدي إلى تقييد حرية الإنسان في التصرف في بدنه؛ سواء بنفسه أم بغيره عن طريق الإذن (لمن قعدت به أهليته عن مباشرة قراراته) أو الولاية عليه (كولاية الوالد على ولده الصغير مثلاً).

الجهة الثانية: أن البدن أداة للقيام بالعبادات والطاعات المفروضة التي هي غاية وجود الإنسان؛ بحسب النص القرآني وتأويل كثير من علماء الإسلام، وتتصل بالواجب الأول على الإنسان حتى قبل ورود الشرع. فـ”الطاعات كلُّها بدنية”، ولذلك وجبت المحافظةُ على البدن لأداء ما افترض الله على الإنسان، فـ”لو عُدم المكلَّف لعُدم من يَتَدين”؛ فصار حفظ النفس متصلاً بحفظ الدين، وذلك أن المقصود الأعظم للشارع من الشريعة “إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يصير عبدًا لله اختيارًا كما هو عبدٌ لله اضطرارًا”، وهي العبارة الأثيرة التي يكررها الشاطبي. وبناء على هذا المعنى، وجب على جوارح المكلف الظاهرة (البدن) العبادةُ والامتثال، وعلى جوارحه الباطنة الإخلاص لله بالتوحيد والعبادة.

والغرض من ذلك كله تحصيل مصالح الدارين بالسعادة فيهما وهي الغاية النهائية التي يسعى إليها الإنسان الفاضل في نظر العلماء والفلاسفة المسلمين، و”آلته في اجتلاب المنافع واجتناب المضارّ [هي] نفسُه وبدنُه؛ فبصلاحهما يتهيّأ له بلوغ الواجب من ذلك عليه، إذ ليس للإنسان سواهما، وهما قسما كونه، وسببا وجوده في هذا العالم” كما قال أبو زيد البلخي. وقد تَفَرّع على هذه الرؤية الحرصُ على تحصيل علم الطب، وأنه يدخل في فروض الكفاية من زاويتين: الأولى: للقيام بواجب الدين والحاجة إلى صحة الأبدان للقيام بالعبادات، والثانية: للتحرز من الوقوع في الإثم. ويجمع ذلك كله مقصد انتظام المعاش واستقامة نظام الحياة، ومن هنا أثار بعض الفقهاء مسألة تداوي المسلم عند الطبيب غير المسلم؛ لأن التداوي هنا يمس أمرين: سلامة الأبدان وسلامة الأديان على المعنى السابق من أن البدن آلة العبادات.

الجهة الثالثة: أن ما يصدر عن البدن من أفعال هو محلٌّ للأحكام الفقهية، فالأفعال الإنسانية بالنسبة إلى أحكام الشرع خمسة: واجب ومندوب، ومباح، ومكروه ومحرم، والمحكوم عليه هنا -وهو أفعال الإنسان- يتصل بحقل الطب وغيره، وكما قال الإمام العز بن عبد السلام: “للأحكام تَعَلُّق بالقلوب والأبدان والجوارح والحواس، والأموال، والأماكن والأزمان”، ومن الملاحظ أنه مايز بين الأبدان والجوارح والحواس؛ ليشمل الأفعال التي تقوم بالبدن (وهي موضوع الطب) والأفعال الصادرة عن البدن (السلوك والتصرفات) والتي تشمل الجوارح والحواس معًا والتي يُعبر عنها بالأفعال الظاهرة.

ثانيًا: الطب والشرع والمنظور المصلحي
وبناء على المنظور الأخلاقي السابق يبدو مفهومًا توارد علماء عدة على عقْد مشابهة بين الطب والشرع، أو على استعمال لفظ الطب للشريعة، فالعز بن عبد السلام مثلاً قرر أن “الطب كالشرع؛ وُضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام، ولدرء ما أمكن درؤه من ذلك، ولجلب ما أمكن جلبه من ذلك … والذي وَضع الشرع هو الذي وضع الطبَّ، فإن كلَّ واحد منهما موضوعٌ لجلب مصالح ودرء مفاسد”، وقرر ابن تيمية أن “الشرع طب القلوب، والأنبياء أطباء القلوب والأديان”، وقرر الشاطبي أن “الشارع هو الطبيب الأعظم”. بل إن ابن حجر الهيتمي قرر أن الفقيه المتصوف “الأستاذ الجامع لطرفي الشريعة والحقيقة هو الطبيب الأعظم. فبمقتضى معارفه الذوقية وحِكَمِهِ الربَّانية يُعْطي كل بدن ونفس ما يراه هو اللَّائِق بشفائها والمصلح لغذائها”.

وهذه الأقوال وأمثالها تحيل إلى معان عدة:

الأول: البعد الغائي والمصلحي لكل من الطب والشرع؛ لأن هدفهما إصلاح الإنسان ظاهرًا وباطنًا بمكوناته المختلفة، فمقصود التكليف تحصيل مصالح الخلق في العاجلة والآجلة، فإن بدا في بعض تشريعاته مشقة؛ فإنها غير مقصودة لذاتها؛ نظرًا لهذه الغائية المصلحية من جهة، ولأنها صادرة عن حكيم يَسوس الإنسان لما فيه صلاحه من جهة أخرى. ومن هنا دخل الطب والشرع في مدلول الحكمة قديمًا، ووازى بعض الفلاسفة المتقدمين بين طب الأجساد وطب النفوس كما فعل أبو بكر الرازي الطبيب مثلاً الذي صنف فيهما معًا كتابين منفصلين، فجعل أحدهما لطب البدن، والآخر لطب الأخلاق سماه الطب الروحاني حيث يهدف فيه إلى مداواة النفوس.

الثاني: الجمع بين الجزئي والكلي، حيث يتشابه عمل كل من الطبيب والفقيه في الوقائع من حيث النظر في قوانين كلية من جهة، والنظر في كل جزئية بحسبها من جهة أخرى، ولهذا قال السيوطي: “المفتي حكمه حكم الطبيب؛ ينظر في الواقعة ويذكر فيها ما يليق بها؛ بحسب مقتضى الحال والشخص والزمان، فالمفتي طبيب الأديان وذلك طبيب الأبدان”، ويسمى عمل الفقيه في معالجة الوقائع الجزئية “تحقيق المناط” بتنزيل الحكم اللائق بكل واقعة على حدة. أما الطبيب فـ”يحاول حفظ الصّحّة وبُرْء المرض بالأدوية والأغذية بعد أن يتبيّن المرض الّذي يخصّ كلّ عضو من أعضاء البدن، وأسباب تلك الأمراض التي تنشأ عنها وما لكلّ مرض من الأدوية”، كما قال ابن خلدون.

ولا بد من التنبيه إلى أن كلام السيوطي واردٌ على المنظور القديم للطب الذي كان يقوم على خصوصية كل بدن وما يليق به من العلاجات والأدوية؛ تبعًا لنظرية الأخلاط والأمزجة ذات الأصل الفلسفي اليوناني، ومع أن الطب الحديث قد طغى عليه النظر في الكليات وتعميم تطبيقاتها على كل بدن، وتهميش خصوصيات الأبدان إلى أبعد مدى، إلا أنه ثمة توجه جديد اليوم بالعودة إلى خصوصيات كل بدن وما يلائمه مما يرجع إلى اختلاف البيئات (الهواء والغذاء) والتركيب الجيني ونمط الحياة.

ورعاية الجزئيات وخصوصياتها ملمح مهم في الفقه أيضًا، ولهذا قال الإمام تقي الدين السبكي ما معناه: يوجد في فتاوي المتقدمين من أصحابنا أشياء لا يمكن الحكم عليها بأنها المذهب في كل صورة؛ لأنها وردت على وقائع، فلعلهم رأوا أن تلك الوقائع يستحق أن يُفتى بها بذلك، ولا يلزم اطراد ذلك واستمراره.

الثالث: وحدة الإنسان وترابط أجزائه، سواءٌ لجهة الترابط بين البدن والنفس وهي فكرة راسخة في الفلسفة والطب والأخلاق، وقد صنف الإمام أبو زيد البلخي كتابًا في هذا المعنى سماه “مصالح الأبدان والأنفس”، وهنا تكتسب المشابهة بين الطب والشرع معنى إضافيًّا؛ إذ تحيلنا إلى البعد العقدي حيث الفاعل الحقيقي في الكون هو الله تعالى صاحب الخلق والأمر.

فالطب يختص بجانب الخلق (الإرادة الإلهية التقديرية) ويتحرى قوانين الله في خلق الإنسان (ما هو كائن)؛ إذ الإنسان عالمٌ مواز لعالم الكون.
والفقه يختص بجانب الأمر (الإرادة الإلهية التشريعية) أي الأمر والنهي وكيفية استجابة الإنسان لهما (ما يجب أن يكون).
ثالثًا: تطورات حقل الطب والطبيعة الإنسانية
ولكن الطب الحديث ليس هو الطب القديم الذي جرى القياس عليه أو المشابهة بينه وبين الشرع، بل إن رؤيتنا للإنسان نفسه تغيرت؛ فالمنظور الأخلاقي السابق لم يعد هو الحاكم للطب، فطرأ عدة تحولات أبرزها ثلاثة:

الطب الحديث لم يعد يختص بالمريض وشفائه فقط، بل تجاوزه إلى الإنسان الصحيح “وجودة الحياة أو الحياة النوعية” (quality of life)، وهنا طُرحت مفاهيم مثل الموت الرحيم، والمفاضلة بين المرضى على أساس جودة الحياة (وطُرحت فكرة التضحية بالمعوقين وكبار السن عند التزاحم في وباء كورونا مثلاً).
أن الطب الحديث لم يعد يكتفي بفهم قوانين ما هو قائم فقط بل تجاوزه إلى التدخل والتغيير و”التحسين”، أي أنه انتقل من اكتشاف الخلق والخضوع لقوانينه (الإرادة الإلهية التقديرية) إلى التدخل فيه وإطلاق الأحكام التقويمية عليه (الإرادة التشريعية). أي أنه اختلط لديه الجانبان: التقديري والتشريعي؛ حيث يتشبه فيهما العلم بدور الإله لجهتي الخلق والأمر معًا.
أن التقنيات الطبية الحديثة باتت تتيح الكثير من الإمكانات التي لم تكن في حيز الإمكان من قبل، ومحركها الرئيس تلبية رغبات الإنسان وتفضيلاته التي لا تقود فقط إلى إشباع رغباته فحسب (وفق منظور حديث لفهم الطبيعة البشرية) بل إلى تعظيم رأس المال أيضًا. وهي إمكانات تطرح العديد من الأسئلة التي ينشغل بها حقل الأخلاقيات الطبية اليوم، وترجع إلى سؤال كبير مفاده: هل كل ممكن يجوز فعله أو تحقيقه؟ ومن هنا أثارت التقنيات الطبية الحديثة ولا تزال تثير الكثير من الأسئلة الأخلاقية، بدءًا من تقنيات الإنجاب الصناعي ونقل وتغيير أعضاء البدن، والتحكم بجنس الجنين، وصولاً إلى التدخلات الجينية سواء العلاجي منها لإصلاح الأمراض أم التحسيني بهدف الحصول على تفضيلات خاصة تمس شكل البدن أو إمكاناته.
تقود هذه التطورات إلى منظور مختلف عن الإنسان والطبيعة الإنسانية، يُخل بالتصور الغائي الأخلاقي الذي سبق شرحه وكان سائدا ما قبل الحداثة. فبدل تهذيب النفس وأخلاقها كما تجلت في الفلسفة الأفلاطونية عبر الموازنة بين قوى النفس وكبح جماح رغباتها، وتحقيق مفهوم التوسط والاعتدال في فضائل النفس حسب الفلسفة الأرسطية، أو عبر ضبط أفعال الإنسان سواء في نفسه أم الصادرة عنه بتقويمات فقهية أخلاقية وفق التصور الفقهي الإسلامي بحيث يقود إلى إصلاح الإنسان وتهذيبه وفق منظور أخلاقي كلي يستحضر الوجود الغائي للإنسان كما سبق، عملت الحداثة على إشباع هذه الرغبات إلى أقصى حد وإحياء مذاهب اللذة التي كانت هامشية في الفلسفة اليونانية وما بعدها. بل إن الأمر تجاوز حقل الطب إلى حقول معرفية أخرى كالسياسة والاقتصاد اللذين يتصلان -وفق المنظور الفلسفي اليوناني- بالحكمة العملية، ويتأطران بمنظور أخلاقي يقوم على تدبير العامة والمنزل تدبيرًا يقود إلى تحقيق الفضائل وإقامة المدينة الفاضلة والأسرة الفاضلة.

رابعًا: ضرورة التفكير النقدي
تفرض التطورات السابقة مساءلة نقدية لطرائق تعاطي المفتين المعاصرين مع الأسئلة التي تثيرها الممارسة الطبية الحديثة، والتي يمكن أن نرصد فيها 3 إشكالات رئيسة هي:

الأول: استعمال مقولات كلية مثل “المصلحة والمفسدة” و”مقاصد الشريعة”، وهي مقولات صالحة لتبرير كل شيء وأي شيء، ويمكن أن تستعمل للشيء ونقيضه بحسب من يستعملها. فالمصالح والمفاسد مرهونةٌ -في المنظور الفقهي- بتحديد الشارع -سبحانه وتعالى- لها اعتبارًا أو إلغاءً، وهي مصالح متعديةٌ -لا في نَفعها ومَن تشملهم فقط، بل في كونها تشمل مصالح الدنيا والآخرة أيضًا- فلا تقوم مصلحة دينية وهي متعارضة مع مصلحة دنيوية اعتبرها الشارع. أما الطبُّ فإن “منفعته إنما هي في الدنيا فقط”، كما قال ابن حزم الأندلسي. ومن هنا فإن وقوع التعارض في تقدير المصالح بين الطبيب والفقيه غير مقدر في الزمن ما قبل الحديث، ولكنه قائم طبعًا في زمن الحداثة؛ لأن مجال الطب ووظيفته تغيرت ولم يعد ذلك التشابه بين الطب والشرع قائمًا، ولا أدوار الطبيب والفقيه المعاصرين كأدوار الطبيب والفقيه الكلاسيكيين!

وهنا لا بد من التمييز بين تقدير المصالح ومنهجية تقديرها من جهة، وبين كونها مصالح معتبرة لدى الشارع أو لا، فعادة ما يتم الخلط بين الجهتين لنجد أنفسنا في محصلة الأمر أمام شرعنة لمصالح أقرتها الحداثة نفسها وإضفاء شرعية عليها من باب مقاصد الشريعة، وهو مسلك كثير من المتحدثين في مقاصد الشريعة الذين حولوا قيم الحداثة والتنمية إلى مقاصد للشارع! فالمصالح الشرعية هي التي يترتب عليها الثواب، والمفاسد هي التي يترتب عليها الإثم، وقد تدخل بعض المصالح الطبية في مرتبة المباح الشرعي، قياسًا على كراهة الماء المشمّس الوارد في كتب الفقه الشافعي، وأنه مكروه من جهة الطب لا الشرع؛ لأن “هذه الكراهة لا ثواب في تركها ولا قُبح في فعلها” من جهة الشرع ويسمونها الكراهة الإرشادية.

الثاني: قد يتورط بعض المفتين في التسليم باختصاص الطبيب في هذا الشأن وأنه هو الذي يحدد المصلحة والمفسدة، في حين أن المصلحة الشرعية تختلف عن مطلق المصلحة، خاصة في ظل تطورات الحداثة وتقنياتها التي ستفرض أثرها أيضًا على مفهوم المصلحة وما يعد مصلحة للإنسان وما لا يعد، فضلاً عن تقويم تلك المصلحة وإذا ما كانت مرادة لله تعالى أو لا.

فالإحالة إلى الطبيب في الأزمنة الكلاسيكية كانت مرهونة بالوظيفة التقليدية للطب، وهي “حفظ الصّحّة للإنسان ودَفْع المرض عنه، ويتفرّع عن علم الطّبيعة، وموضوعُه -مع ذلك- بدنُ الإنسان” كما قال ابن خلدون، وبناءً على هذا التصور كان الطبيب يقوم بتحديد مفاهيم الصحة والاعتلال وأوصافها، كما يحدد المفاهيم الشرعية المتعلقة بالصحة والاعتلال كالمشقة، والضرر، والاستطاعة، وهي أوصاف تتعلق بها الأحكام الفقهية التي يبني عليها الفقيه فتاواه. وعادة ما تُحيل كتب الفقه إلى الطبيب حصرًا في معرفة العيوب المتعلقة بالرجال والنساء، وفي معرفة الجراح والشِّجاج ومدى تَحَقُّق أسمائها وأوصافها كما حددها الفقيه؛ لأن ذلك كان مطلوبًا في القصاص والجنايات من أبواب الفقه. يقول ابن حزم: “لا بد في الشريعة من معرفة العيوب التي تَجُبُّ التكليف كعاهة الجنون المتملّكة، وقوام الآفات والأدواء، فلا بد من معرفة العلل ومداواتها وهو علم الطب”.

أما الفقيه فقد كان تاريخيًّا مخوّلاً بإنشاء الأحكام وتحقيق المناط في الأمراض بالاستناد إلى علم الطب وبحسب تصوير الطبيب للوقائع. والمناطُ هنا بيان العلة الشرعية وإصدار الحكم الشرعي، أي أنه مناطٌ مركّب. والمثال الكلاسيكي لهذا أن الفقيه يحدد أن المرض عذر شرعي، والطبيب يتحقق من وجود وصف المرض ومبلغه، ولكن الحكم بأن هذا المرض مبيح للفطر في رمضان ليس من اختصاص الطبيب، وإذا أنشأ الطبيب أحكامًا، فإنها تبقى أحكامًا “طبيةً” لا تكتسب صفة دينية أو شرعية إلا عن طريق الفقيه، ومن هنا وجدنا فقهاء الشافعية -مثلاً- يفرّقون بين الكراهة الشرعية والكراهة الإرشادية بأن “الإرشادية مرجعُها إلى الطب؛ لأن المصلحة فيها دنيوية لا دينية”. أما المصالح الدينية فهي التي يترتب عليها الثواب والعقاب.

ولكن اختصاص الطب وعمل الطبيب وتطبيقات التقنيات الطبية الحديثة باتت أكثر تعقيدا من ذلك المثال البسيط ومن التصورات الفقهية الكلاسيكية، خاصة إذا ما تحدثنا عن التدخل الجيني التحسيني مثلاً الذي يمكن أن يؤثر في الطبيعة البشرية للأجيال القادمة، لنجد أنفسنا أمام مصالح ومفاسد مركبة نحتاج فيها إلى حقول اختصاصية متعددة لتقديرها على الوجه اللائق بها وتحديد إذا ما كانت تنسجم مع مقاصد الشارع أم لا.

الثالث: الاكتفاء بتلك المقارنات السابقة بين الطب والشرع؛ أو الاستعانة بنصوص فقهية كلاسيكية يُحيل فيها الفقهاء السابقون إلى أهل الخبرة أو الطبيب للقفز إلى القول: إن مقاصد الطب هي نفسها مقاصد الشرع أو إن تقدير المصالح والمفاسد متروك للطبيب، من دون وعي بالتطورات السابقة في حقل الطب وتبدلات المنظور للإنسان وللطبيعة الإنسانية حيث انتقلنا من المنظور الأخلاقي الغائي إلى منظور أخلاق اللذة والمنفعة في زمن الحداثة.

وبناء على ما سبق، نجد من الضروري البحث عن تنظيرات منهجية متعددة التخصصات للمصلحة والمفسدة، وأن الاستناد إلى عمومات وكليات لا يفي بتعقيدات الممارسة الطبية الحديثة، فالمنظور المصلحي الكلاسيكي لكل من الطب والفقه تعقّد؛ وبات يواجه تساؤلات عدة حول مفهوم المصالح نفسها، وطرق تعيين كونها مصالح، وطرق تحقيقها، وهل هي مصالح حديثة أو شرعية وهل كل مصالح حديثة مشروعة، وهل هي مصالح تخص الأبدان القائمة أم تشمل جنس الإنسان والأجيال القادمة أيضًا؟ وأي تأثيرات نفسية مرتقبة على البشر نتاج تلك التدخلات التقنية وضيق المسافة الفاصلة بين الإرادة التقديرية والتشريعية مع الطب

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.