الحياة الطببة

الحياة الطيبة والسعادة، والعيشة الهنية الرضية؛ مطلب مهم، ومقصد أسمى، يسعى إلى تحقيقه البشر، وتشرئب إلى سماعه النفوس، وتطمح إلى تحقيقه وبلوغه الأفئدة.

السعادة هدف سامي ينشده كل الناس، ويبحثون عنه، بدءًا من المثقف إلى العامي، ومن السلطان إلى الصعلوك، ما منهم من أحد إلا يكره حياة النكد والشقاء، ويرنو إلى حياة السعد والهناء، ولهذا تعددت مشارب الناس ووسائلهم، وتنوعت أساليبهم وأفهامهم في البحث عن السعادة، والعيش في ظلالها.

إلا أن من الناس من قد أخطأ الطريق، وزل به الفهم في إدراك معنى السعادة الحقة، وتحقيق الحياة المطمئنة التي يرغب فيها، ويسعى إلى بلوغها؛ لأنه لم يسلك الطريق الصحيح لبلوغها.

فمن الناس من يبحث عن السعادة في جمع الأموال، فيراها في تحصيل القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث.

ومن الناس من يبحث عن السعادة في المناصب والوجاهات والرئاسة، وحب الإستعلاء، فيراها في الوظائف والمناصب التي ترفعه عن الناس.

ومنهم من ينشد السعادة في كثرة الأولاد، وصحة الأجسام، وشبع الأبدان، والمظاهر والشكليات.

ومنهم من لا يرى السعادة إلا في متعة البدن، وكثرة اللهو واللعب، وتقطيع الأوقات، وإمضاء الساعات في المقاهي والاستراحات والمتنزهات، والعكوف على المشاهد والقنوات.

عباد الله: لقد طلب السعادة أقوام على مر العصور بطرق متعددة ليست على هدي الله -تعالى- وهدي رسله -عليهم الصلاة والسلام-، فكانت بعض هذه الطرق سبب لدمارهم وهلاكهم، وإن لنا فيما قصه الله علينا في كتابه الكريم من قصص أقوام طلبوا السعادة في غير مظانها الحقيقية فانقلبت سعادتهم شقاوة أبدية في الدنيا والآخرة؛ إن لنا في ذلك لمعتبر.

هذا فرعون أعتى من عرفته البشرية تكبرا وتجبرا، ينعم الله عليه بأعظم النعم، ويعطيه ملك مصر، ويجمع له الناس، ويُجري له الأرزاق والأنهار، فيخاطب الملايين الذين استعبدهم عقودا من الزمان ويقول: (يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الزخرف: 51]، (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص: 38] فكان عاقبة هذا العتو والتكبر والتمرد الشقاء واللعنة والهلاك: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى) [النازعات: 25]، (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر: 45 – 46].

وهذا قارون منحه الله -تعالى- كنوزا كالتلال تنؤوا بحمل مفاتحها الأثقال، ما جمعها بجهده ولا بكده، بل بفضل الله ونعمته، وحُذِر من الفساد في الأرض، والتكبر على العباد، لكنه استكبر وعتى عما نهى الله عنه، فحُرم السعادة في الدنيا والآخرة: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ) [القصص: 81].

 

 

 

هذا الوليد بن المغيرة يرى أن السعادة في تكثير الأموال والأولاد، ويرزقه الله مالا ممدودا، وعشرة من الأبناء عن يمينه وشماله، فيكفر بنعمة الله عليه، ويعصي رسوله، ويهزأ به، فيُحرم السعادة، ويُكتب له الشقاء في الدنيا والآخرة: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا* وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) [المدثر: 11 – 17].

وغيره وغيرهم، أمم وأقوام في الماضي والحاضر انتكست أفهامهم في طلب السعادة، فطلبوها في غير طرقها الصحيحة، فما لبثوا أن انقلبت عليهم حسرة وندامة وشقاوة وتعاسة.

والحق -يا عباد الله-: أن السعادة الحقيقية والحياة السعيدة ليست في شيء مما مضى كله بدون توفيق الله -تعالى-، فقد شقي أناس بأموالهم وأولادهم وأزواجهم، وشقي آخرون بعواقب مناصبهم وجاههم، وشقي آخرون بلعبهم ولهوهم.

السعادة الحقة ليست في وفرة المال، ولا كثرة الولد، ولا سطوة الجاه، ولا رفعة المنصب، السعادة أمر معنوي ملموس لا يقاس بالنوع والكم، ولا يشترى بالدينار والدرهم، لا يملك بشر أن يعطيها من حُرمها، ولا أن ينتزعها ممن أوتيها.

السعادة الحقيقة والحياة الهانئة المطمئنة إنما تكون في الإيمان والعمل الصالح، يقول ربنا -عز وجل- ومن أصدق من الله قيلا: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) الحياة الطيبة هي السعادة بكل معانيها: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) أي في الدنيا، أما في الآخرة: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97]، وذلك في جنة عرضها السموات والأرض، فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، لا مرض فيها ولا نصب، ولا هم ولا غم، ولا تعب ولا موت، بل لذاتها متتابعة، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، هذه هي السعادة التي أخبرنا عنها ربنا -عز وجل-.

بل أخبر أن من أعرض عن ذكره فإن له المعيشة الضنك، ويٌحشر يوم القيامة أعمى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) [طـه: 125 – 127].

عباد الله: الحياة بغير الإيمان تعقيد تحفة المنغصات، بضعف الإيمان تنبت الاضطرابات الاجتماعية، والأمراض النفسية.

الدنيا للمؤمن ليست عبئا مضَجِرا، ولا لغزا محيرا، ولكنها مرحلة ومزرعة، ودار ممر واختبار يرجو بعدها لقاء الله -تعالى-.

المؤمن تغمره السعادة؛ لأنه مؤمن بأن الحياة محكومة بأقدار الله -تعالى- فلا ييأس على ما فات، ولا يبطر بما حصل، ولا يستسلم للخيبة، ولا يهلك نفسه تحسراً، بل كل مواقف الدنيا عنده ابتلاءً بالخير والشر، ولئن زلزلته وقائع البلوى رده الإيمان إلى استقرار النفس، وبرد اليقين، ورباط الطمأنينة، فنعِم بالسكينة من غير هلع ولا شقاء.

المؤمن يملك السعادة والراحة التي تجمع له بين التوكل والعمل الكادح، لا يزلزله جزع، ولا يرهقه قلق، يعمر الحياة نشاطاً واجتهاداً.

المؤمن يعلم أن السعيد لا يأكل أكثر مما يأكل الناس، ولا يملك أكثر مما يملك الناس، ولكنَ السعيد يرضى أكثر مما يرضى الناس.

عباد الله: إن من أسباب السعادة: الإيمان بالله -عز وجل- والذي يتضمن الرضا والقناعة بما أُعطي العبد، هذا هو الغنى الحقيقي؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس” [متفق عليه].

رضا وقناعة بما يعطى، رضا بما يقدر الله -عز وجل- على العبد، فمن أُعطي الرضا فقد أُعطي السعادة.

أما الساخطون الشاكون فلا يذوقون للسرور طعماً، حياتهم سواد ممتد، وظلام متصل، وليل حالك.

الساخط المتسخط دائم الحزن والكآبة، ضيق النفس والصدر، ضائق بالناس وضائق بنفسه.

الدنيا في عينه كسم الخياط.

أما الرضا فسكون وطمأنينة ورضا بما قدر الله -تعالى- واختار، فمن أنعم الله عليه بالرضا تأتيه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلِم، ولا يصبح ولا يمسى إلا راضياً مرضياَ.

هنيئا لمن ملأ الرضا فؤاده، لا يتحسر على ماضٍ باكياً حزيناً، ولا يعيش حاضراً متسخطاً جزوعاً، ولا ينتظر المستقبل خائفاً ووجلاً، لا يعيش رهبة من غموض، ولا توجس من مستقبل، إيمانه مصدر أمانه: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 82]، (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: 125].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.