الأنس

يوسف الدموكي

المثالية التي يحاول البعض التعامل بها في مسألة الأنس والرفقة، نزَّه الله عباده عنها، ورفع الحرج عنهم فيها، فكان موسى كليم الله، يسمعه، ويحادثه، وليس فقط شعور العبد بربه كما نشعر نحن، وإنما «كليمُه»، ومع هذا، فإنه قال «وهارون أخي اشدد به أزري»، فهل استغنى العبد وهو نبي، عن الرب وهو كليمه؟ أبدا، وإنما لأنها فطرة الله التي فطر الناس عليها، حاجتهم إلى المؤنس من أمثالهم.
..
وها هو موسى أيضا، خارجا من مصر، متوجها إلى مدين، والله كافيه ومغنيه وحارسه ومؤنسه، يدعوه ويقول «رب إني لما أنزلت إليّ من خيرٍ.. فقير»، وقال فيه العلماء إنه من باب الدعاء بتيسير الزواج، فلما وصل إلى مدين، رزقه الله بابنة شعيب، زوجًا تعينه على دعوته، ورفيقة صالحة، وصاحبةً مباركة. أستغنى موسى عن الله؟ حاشا، وإنما كان طلب معية الخلق من استشعار معية الخالق.
..
وها هو زكريا عليه السلام، يشكو ضعفه إلى الله، وهو نبي، يقول «وهن العظم مني»، وفي ذلك كنايةٌ عن كبر السن، ولكن إن تسللت إلى مشاعر نبينا حينها، لعله كان من ثقَل الحمل، فطلب زكريا عليه السلام «فهب لي من لدنك وليا». هل شعَر زكريا بالوهن والله قوته؟ شعر لأنه بشرٌ، وطلب من ذي القوة أن يمده بالولي الذي يعينه ويحمل عنه ضعفه.
..
ولما ماتت خديجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألم يكن الله كافيا له وصاحبا؟ بلى، لكنه كان في حاجة إلى الأنس، وهو نبي الله، والله مرسلُه، فتقدم لخِطبة عائشة رضي الله عنها. والصحابة ألم يكن الله كافيهم؟ بلى، لكنها سنة الله، في أن يُحييها عباده، ويسخر بعضهم أنسا لبعض.
..
ولو كان الأمر بالمثالية التي يسوقها البعض في الاكتفاء بأنس الله عن البشر، والمزايدة على من يطلب من الخالق الأنس بالخلق، لكان موسى أولى الناس بالعزلة، وإنني على ذلك لم أقرأ في سيرة أحدٍ وله صحبة أكثر من سيدنا موسى، بدايةً من أمه وأخته، وهارون أخيه، وفتاه الذي صاحبه في البحر، والخضر الذي علمه، وابنة شعيب التي آنست وحشته.
..
فاطلبوا من الله الأنس بخلقه، وأن يرزقكم العون بالبشر الذين يحبهم، وأن يرزق الأيم زوجا، وأن يكرم الوحيد بالصحبة، ويغني الموحَش بالمؤنسة، ولا تزايدوا على الناس، فتزايدوا على أنبياء الله من حيث لا تحتسبون.
..
وهو الله الذي قال: «هن لباسٌ لكم.. وأنتم لباسٌ لهن»، فالأنس مربوطٌ بالستر، و«خلق لكم من أنفسكم أزواجا»، لماذا يا رب؟ «لتسكنوا إليها»، أليس الله بكافٍ عبده؟ بلى، كافٍ، ومن كفايته أن يسخر لعبده من يسكن إليه، فيكون الأنس بالخلق، من الأنس بالخالق.

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.