أيا صوفيا.. مسجد يذكر فيه اسم الله لم لا نفرح

د. هيثم بن جواد الحداد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد فقد زرت أيا صوفيا قبل مدة من الزمن مع العائلة، وبسبب الزحام جاء دورنا في الدخول متأخرًا، فحان وقت صلاة العصر ونحن في الداخل، فأردت الخروج لأداء الصلاة في المسجد المجاور، لكن الحرس أخبروني بأني إذا خرجت فلا أستطيع الدخول مرة ثانية، فأخبرتهم أني أريد الصلاة، فأجابوا بأن هذه ليست مشكلتهم، وأدركت أن الجماعة في المسجد ستفوتني حتما، فقلت لهم إذا أصلي هنا، فمنعوني من الصلاة، فحصلت مشادة كلامية بيني وبينهم على ضعفهم الشديد في اللغة العربية والإنجليزية، وعجزي في اللغة التركية.

لكن بعد تجمع بعض السياح والمرشدين ومترجميهم، تمكنا من الحديث لكنهم أصروا على منعي من الصلاة في “هذا المتحف اللاديني”، وأني سوف أعتقل إذا صليت، فقلت معترضا متضجرا أني في لندن وهي بلاد غير المسلمين يمكنني أن أصلي تقريبا في أي مكان أشاء، شريطة أن لا أسبب الضرر لأحد، وهذه أعني تركيا بلاد مسلمين تمنعوني من الصلاة هنا؟ قالوا وقد جاء رئيسهم وتجمهر عدد أكبر من الناس، بأن هذا المكان علماني ليس له علاقة بالدين، ولا يسمح فيه بالدين، المهم خرجت حانقا على العلمانية المتطرفة التي لا تقف على الحياد من الدين، بل تقف ضد الدين، بل لا تمانع في الدخول في حرب مع الدين لتحقيق مآرب سياسية، إنها علمانية النفاق والدجل.

تذكرت هذه الحادثة وأنا أتابع ردود أفعال بعض المسلمين، على قرار المحكمة العليا الإدارية في تركيا يوم الجمعة 19 ذي القعدة 1441=10/7/2020 القاضي ببطلان قرار عام 1934 الصادر في عهد أتاتورك بتحويل مسجد أيا صوفيا إلى متحف، من الطبيعي جدا أن نشاهد ردود فعل من فئات من العالم المسيحي، وفي الحقيقة وبعيدا عن الخلفية التاريخية الدينية لهذا المكان، فمثل هذه الردود ليس بمستغرب، فمن الطبيعي جدا أن يدافع أتباع كل ديانة عن دينهم، ويدّعون أن لهم الحق التاريخي والديني في بعض المعالم الأثرية، والدينية، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على عمق الدين في نفوس الناس، مسلمين، أو غير مسلمين. لكن المؤلم أن يثير هذا القرار بعض المنتسبين إلى الإسلام سواء في داخل تركيا، أو في خارجها، ويكون الأمر مؤلما حينما يصدر الامتعاض من هذا القرار من بعض الرموز الإسلامية في بعض البلاد التي تهفو إلى قيادة العالم الإسلامي.

ويزداد الألم الممزوج بالدهشة حينما يستخدم هؤلاء المسلمون والدعاة ذرائع ما كانت لتجتمع في مكان واحد لتنافرها، لكن أصحاب الهوى والفجور في الخصومة السياسية استطاعوا بقدرة ما على الاستشهاد بها جميعا وكأنما ثمت تناغم تام بينها، فمن قائل بأنه يحرم على المسلمين الاعتداء على الكنائس ودور العبادة، ويستشهد لذلك ببعض النصوص المبتورة من كلام العلماء، ومن قائل بأن هذا القرار المتعصب يسوغ لليهود تحويل المسجد الأقصى لمعبد يهودي، وأنه بناء على هذا التفكير المنحاز البعيد عن التسامح لا ينبغي للمسلمين كذلك أن ينتفضوا حينما قضت المحكمة العليا في الهند بتحويل المسجد البابري التاريخي إلى معبد هندوسي، ومن قائل أن تحويل المتحف إلى مسجد مع وفرة المساجد في تلك المنطقة هو تسيس للدين، وهو تصرف أراد منه أردوغان وحزبه تحقيق مكاسب سياسية، وجلب مزيد من التعاطف معه من قبل المسلمين في العالم الإسلامي، وأنه فعل لم يرد به وجه الله واليوم الآخر!

والحقيقة أني لا أستبعد أن يستشهد أحد – وربما قد فعل ذلك – بحديث القرآن الكريم عن مسجد الضرار حيث قال الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)﴾ سورة التوبة. وربما اعتبر هؤلاء مسجد أيا صوفيا مسجد ضرار؟؟

لكن لم يفصح هؤلاء “المسلمون من أهل التوحيد” عن موقفهم من رفع ذكر الله في هذا المكان، هل هم فرحون بذلك أم غاضبون لأن التوحيد، وإعلاء كلمة الله، سيعمران هذا المكان، إن كان هؤلاء صادقين، فلا بد أن يفتتحوا مقالاتهم بتسجيل ارتياحهم ابتداء برفع ذكر الله، وبناء المساجد، وربما بتحويل هذا المكان إلى مكان للتوحيد، يرفع فيه ذكر الله، وأن أيا صوفيا سيصبح من أحب البقاع إلى الله فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أَحَبُّ البلاد إلى الله مساجدُها، وأبغضُ البلاد إلى الله أسواقها) رواه مسلم، ولهم الحق بعد ذلك بشيء من التحفظ مثلا على الطريق التي تم بها القرار، أو الخشية من أن يتخذ ذلك ذريعة لشرور أكبر من قبل المتعصبين من غير المسلمين، أو نحو ذلك، علما أن جميع هذه الأعذار حجج واهية ذكرها كاف في السخرية منها.

هل الخصومة السياسية لأردوغان وحزبه، وتركيا، حولت أهل التوحيد إلى أهل شرك؟ هل الخصومة السياسية لأردوغان وحزبه، وتركيا، حولت أهل التوحيد من الولاء للإسلام وأهله، إلى الولاء لأعداء الإسلام؟ بالله عليكم، إذا وقف أردوغان وحزبه وتركيا في خندق، ووقف أعداء الإسلام في خندق مقابل، هل نقف مع أعداء الإسلام ضد تركيا بسبب خصومة سياسية؟ وكم هو مستهجن أن نسمع استنكار هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام على ما يعتبر في حقيقته “عمارة لبيوت الله” بحجة أو بدون حجة، بينما لم نسمع لهم حسيسا عند تشييد معابد للسيخ، أو الهندوس، أو كنائس في بلاد المسلمين.

قليلا من العدل يا أهل التوحيد، ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)﴾ [التوبة]. حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما توطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر؛ إلا تبشبش الله له كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم) رواه الإمام أحمد، إذا كان هذا فرح الله جل وعلا بفرد واحد يأتي المساجد بعد غياب عنها، فكيف بفرحه جل وعلا بمن أعاد مسجدا لآلاف الناس، بعد غياب ذلك المسجد عنهم عشرات السنين!

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.