الاحتلال يسعى لتهجير سكانها قسرا.. “المُغِّير” الفلسطينية قصة تروى

كأنها ليست أرضه ولا أشجاره ولا حتى المكان برمته في منطقة “باب الخارجة” كما يُطلق عليها، فكل شيء أصبح أثرا بعد عين بفعل عبث المستوطنين دمارا وخرابا فيه، حتى التراب لم يسلم على حد قول المواطن الفلسطيني سعيد أبو عليا.

للوهلة الأولى لم يصدق الستيني أبو عليا ما حلّ بأرضه في قرية المُغِّير وسط الضفة الغربية، عندما قصدها قبل أيام لقطف زيتونه، وراح يضرب كفا بكف متحسرا على أكثر من 150 شجرة دمَّرها المغتصبون للأرض في مستوطنة “عادي عاد” القريبة، وقطعوا جذوعها بالمناشير الآلية.

لم يكن قد مضى وقت طويل على الاعتداء، كما يقدر أبو عليا الذي قال وهو يقلب الأغصان المثقلة بالثمار شبه الناضجة والملقاة أرضا “بعض الأفرع لا يزال غضا ويانعا رغم قطعه”.

عام 1982، عمَّر أبو عليا ووالده أرضهم البالغة 42 دونما (الدونم يساوي ألف متر مربع)، وزرعا فيها 600 شجرة زيتون وعشرات من أشجار اللوزيات والتين وأنواع أخرى لم يبق منها إلا 15 شجرة فقط.

على يسار أبو عليا تربض مستوطنة “عادي عاد” التي يشن مستوطنوها اعتداءات على أهل قريته (الجزيرة)
صمود رغم القهر
لم تسعفنا وعورة الطريق وخطر هجوم مباغت من المستوطنين للوصول إلى الأرض، فليس لدينا تنسيق أمني (إذن من الجيش الإسرائيلي) لدخولها، وسرنا رفقة الرجل مئات الأمتار لنعاينها من بعيد.

يقول أبو عليا وقد تغيرت ملامح وجهه واحتدت نبرته حزنا إن المستوطنين وبحماية جنود الاحتلال يعملون -منذ إقامة المستوطنة عام 2004- على إنهاء وجودهم تدريجيا، فقد مارسوا عنفا غير مسبوق ضد أشجاره، بالقلع والقطع وسرقة الثمار، وأحيانا بالحرق بالنار وبالمواد الكيمائية، وأحيانا بثقب جذوعها، مضيفا “حتى التراب سرقوه ليمسحوا معالم الأرض ويضعوا يدهم عليها”.

لا تبعد أرض أبو عليا عن آخر بيت في مستوطنة “عادي عاد” سوى 4 أمتار، ورغم ذلك لم يستطع الاحتلال مصادرتها كما فعل بأراض مجاورة وحولها إلى “أراضي دولة”، بسبب مداومته على رعايتها حتى في أحلك الظروف.

حتى عندما وجد أبو عليا أشجاره مدمرة، استغل الفرصة وأخذ وأبناؤه وأشقاؤه ينظفون الأرض، فقد لا يُسمح له بزيارتها ثانية قبل موسم الحراث بعد عدة أشهر.

وفوق الجذوع المقطعة، خط أبو عليا “اللهم انتقم من الظالمين” و”يا رب أنت حسبنا”، في رسالة شكوى إلى الله من ظلم المستوطنين، كما خلع أشجارا أخرى ونقلها إلى أرضه داخل القرية وزرعها ثانية زيادة في الصمود والتحدي.

يقول المواطنون إنهم لا يمكنهم تقديم شكوى ضد المستوطنين لأن القضية ستسجل “ضد مجهول”، فالاحتلال سيطالبهم بإثباتات “كالصور والفيديوهات”، رغم إدراكه أنه لا يمكنهم مطلقا دخولها إلا بعلمه.

وليس بعيدا عن أرض أبو عليا، كان الحاج موسى حمدان (70 عاما) يرقب وصولنا إلى منزله في حي “النقَّار” ليطلعنا على آخر فصول معاناته وأولاده، حيث يخطرهم الاحتلال بهدم منازلهم لأن وجودهم بنظره “خطأ إستراتيجي”.

سألنا حمدان عن سبب الإخطار بالهدم، فرد مباشرة “لكوني فلسطيني”، ويقول “يريدون تهجيرنا قسرا من القرية، فقد صادروا الأرض وقتلوا الأغنام وقلصوا المراعي وأخطروا بهدم المنازل”

كل سكان قرية المغير الذين يقدر عددهم بحوالي 3500 نسمة، يعدّون هدفا دائما لجيش الاحتلال ومستوطنيه الذين كانت آخر جرائمهم قتل الشاب حمدي النعسان قبل 10 أشهر.

وإلى شمال القرية حيث المواجهات الدائمة مع الاحتلال، قادنا رئيس مجلس المغير القروي أمين أبو عليا إلى حيث شيدوا صرحا حجريا للشهيد النعسان تكريما له وتذكيرا بحجم المعاناة، فوقفنا قليلا لقراءة الفاتحة ثم انطلقنا صوب الأرض.

صرح الشهيد حمدي النعسان حيث قتله جنود الاحتلال (الجزيرة)
منذ مطلع انتفاضة الأقصى عام 2000 قتل الاحتلال 3 شبان واعتقل وجرح المئات من أهالي القرية، بينهم نحو 30 شخصا يعانون إعاقات دائمة، وحاصرها بجدار حجري وآخر شائك يمتد مئات الأمتار، كما أغلق مدخلها الشرقي ببوابة حديدية سرعان ما أزالها الأهالي.

وفي المكان عينه اختصر شبان القرية حجم معاناتهم وعلقوا قنابل الغاز فوق أعمدة الإنارة في صورة بدت وكأنها لوحة تشكيلية لفنان عالمي.

عزل وتزوير
كلما اتجهنا شرقا تبرز “المعاناة أكثر”، بحسب أبو عليا الذي كان ينقلنا بسيارته إلى شارع “أيالون الاستيطاني” الذي أقامته إسرائيل في سبعينيات القرن الماضي على امتداد الضفة الغربية من شمالها إلى جنوبها، وبه فصل قرية المغير وعزلها عن 35 ألف دونم من أراضيها من أصل 41 ألف دونم هي كل مساحتها.

وزيادة في العقاب، حوَّل الاحتلال 3500 دونم من الـ6 آلاف دونم المتبقية من مناطق “سي” الخاضعة للسيطرة الأمنية الإسرائيلية، وبذلك حرم الأهالي من “السلة الغذائية” لهم ولمواشيهم، فمنعهم الزراعة الموسمية وقلَّص مساحة المراعي بعد أن حوَّلها لأماكن تدريب عسكري.

ومنع الاحتلال أيضا تشييد البنى التحتية وحد من التوسع العمراني للقرية، كما أعطب مصابيح الإنارة في شارعها الرئيسي ومنع استكمال تعبيده ووصله بالطريق العام.

ومن أكثر من 30 ألف رأس من الأغنام و3 آلاف رأس من البقر، لم يعد يملك أهالي المغير إلا نحو 3 آلاف رأس من الغنم فقط، وتحولوا من منتجين إلى عمال في ورشات البناء.

وفي المقابل، منح الاحتلال المستوطنين أراضي شاسعة، ووفر لهم حماية أمنية وخدمات كبيرة، ولمسنا ذلك واقعا عند اقترابنا من معسكر جبعيت شرقي القرية، حيث ينعم مستوطن واحد بـ7 آلاف دونم من الأرض ويحولها إلى مزارع.
دعم قائم
ويقول أبو عليا إن المستوطنين سرقوا كل شيء، الأرض والقرية الأثرية “جبعيت” التي كانت موجودة حتى عام 1904، وعين المياه “الرشراش”، وأبقوا على أسمائها العربية مع تحريف قليل للعبرية إمعانا في “التزوير”.

وأمام كل هذه المعاناة، سعى المجلس القروي وبالتعاون مع أصحاب الأرض لمؤازرة المواطنين في التجمعات البدوية (المراجم وقبون) بمنحهم أكثر من 100 دونم من الأرض، وسجلوها بأسمائهم مقابل حمايتها، في مشهد يصفه أبو عليا “كتآخي الأنصار والمهاجرين”.

وشيدوا مدرسة بدعم مؤسسات محلية، وهم يعكفون على بناء أخرى ومركز ترفيهي للأطفال إضافة لدعمهم مباشرة عبر تسويق إنتاج الأجبان والألبان.

وداخل القرية نفذ المجلس وبدعم سخي من المواطنين مشاريع عدة، من توسيع للطرق الداخلية وشق أخرى خارجية وبناء جدران استنادية وتعبيد الطرق وغير ذلك.

وعلى الأسطح يرفرف العلم الفلسطيني خفاقا، وتزدان الجدران بصور الشهداء، تماما كما تستنطق رسومات القدس والشعارات الثورية على الجدران المارة لتقول “فلسطين.. قصة تروى”.

المصدر : الجزيرة

شاهد أيضاً

عبد المجيد الزنداني.. حياة حافلة بالعلم والعمل والجهاد

ودع اليمنيون والأمة العربية والإسلامية يوم الإثنين 13 من شوال 1445 للهجرة، الموافق 22 أبريل 2024م علما من أعلام هذه الأمة، وكوكبا من كواكبها، وهاديا من هداتها، ورائدا من روادها، هو الشيخ عبد المجيد بن عزيز الزنداني، العالم العامل، والمجاهد والمربي، والقدوة المعلم، القرآني المحمدي الرباني، صاحب العطاءات الدعوية، والإمدادات التربوية، والجهود التعليمية، والأطوار الجهادية،