كرة القدم.. أفيون الشعوب وذراع الأنظمة لسلب العقول

بقلم : محمد عبد الرحمن صادق

كرة القدم واحدة من الرياضات الكثيرة التي تمارس حول العالم، إلا أن هذه (الساحرة المستديرة) تحظى بنصيب الأسد من الاهتمام والتمويل، ويكفيك أن تعرف أن نادياً واحداً من الأندية الكبرى قد يفوق سعر لاعبي فريق كرة القدم فيه ميزانية دولة من الدول الصغرى أو دولة من الدول الفقيرة، ويكفيك أن تعلم كذلك أن الصراع من أجل الحصول على بطولة من بطولات كرة القدم أصبح يفوق الصراع من أجل كبريات القضايا المصيرية لبعض الدول.

إن هذا الهوس الذي وصل إليه الجماهير بالساحرة المستديرة جعل البعض يطلقون عليها (معشوقة الجماهير)، فالمصالح تعطل، والمواعيد تلغى، والمناسبات تنسى، والقرارات المصيرية ترجأ، والعلاقات والوشائج تقطع، ونيران المشاكل تؤجج، والخصومات تثار، والدموع تزرف، والأنفاس تحبس، والأيمان المُغلظة تطلق، والحُرمات تنتهك، والأعراف تداس، وآلام القهر تنسى، والعبادات تهمل، والشعائر يتم تجاهلها، كل ذلك من أجل مباراة من مباريات كرة القدم.

وما يزيد الطين بلة أن هذا الهوس بـ (الساحرة المستديرة معشوقة الجماهير) قد انتقل من الشباب والرجال إلى النساء فأصبحنا نرى من يُسمونهم (الفاتنات) يتصدرن المشهد في المدرجات وهن يطلقن صرخات هيستيرية وكأن طبول الحرب المقدسة قد دقت، وأصبحنا نرى فرقاً لكرة القدم النسائية، ولا نستبعد أن نرى قريباً فريقاً من الرجال ينافس فريقاً من السيدات!!

عندما تحدث المدرب الألماني (يورغن كلوب) عن مدى أهمية كرة القدم بالنسبة للناس، قال: “كرة القدم ليست مُهمة جدًا، نحن لا ننقذ أرواح الناس، فقط وظيفتنا جعل الناس ينسون مشاكلهم لمدة 90 دقيقة”.

وما يجدر بنا ذكره والتأكيد عليه أن ﻛﺮﺓ ﺍﻟﻘﺪﻡ هي أحد الأسلحة الصهيونية ﻹﻟﻬﺎﺀ ﺍﻟﺸﻌﻮﺏ، ويدل على ذلك ما جاء في ﺑﺮﻭﺗﻮﻛﻮﻻﺕ ﺻﻬﻴﻮﻥ: “ﺳﻨﻠﻬﻲ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺃﻳﻀًﺎ ﺑﺄﻧﻮﺍﻉ ﺷﺘﻰ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻼﻫﻲ ﻭﺍﻷﻟﻌﺎﺏ ﻭﺍﻟﺮﻳﺎﺿﺎﺕ ﻭﻣﺰﺟﻴﺎﺕ ﻟﻠﻔﺮﺍﻍ ﻭﺍﻟﻤﺠﺎﻣﻊ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﻭﻫﻠﻢ ﺟﺮﺍ”.

أولاً: كرة القدم أفيون الشعوب

إن الهدف من أي لعبة رياضية أسمى وأكبر مما يحدث الآن من حشد الجماهير لتغييب وعيهم ولإيهامهم بانتصارات مُزيفة، الهدف منها التغطية على إخفاقات الأنظمة وصرف أنظار الجماهير عن الجرائم التي ترتكب في حق الوطن!

إن الأنظمة المستبدة تدرك تماماً أن عبارة ماركس التي تقول (الدين أفيون الشعوب) قد تراجعت كثيراً، بل لم يعد لها محل من الإعراب في ظل ما نراه من هوس يصل لدرجة الجنون بكرة القدم.

يقول الكاتب الفرنسي (إتيان دولا بواسيه) فى كتاب “العبودية الاختيارية”: “أما في كرة القدم فيجد “المواطن المستقر” تعويضًا له عن أشياء حُرم منها في حياته اليومية، إن كرة القدم تنسيه همومه وتحقق له العدالة التي فقدها، فخلال 90 دقيقة تخضع هذه اللعبة لقواعد واضحة عادلة تطبق على الجميع” اهـ.

• إن الهوس بلغ بالجماهير أنهم يشعرون بتمام رضا الله عن الوطن بكامله لمجرد فوز فريق بلدهم في مباراة كرة قدم، وأن الانتماء الحقيقي للوطن أصبح يُقاس بحرارة تشجيع المنتخب القومي، ومن يقول غير ذلك فهو آبق مارق لا يستحق أن يعيش على تراب الوطن!

• والهوس بلغ بالجماهير أن أحدهم قد ينتحر لهزيمة فريقه الذي يُشجعه أو يُصاب بالسكتة القلبية من فرط الفرح لفوز فريقه.

• والهوس بلغ بالجماهير أنهم يقتنعون بأن فريقهم ما هُزم إلا بفعل مُؤامرة ضده وأن الفريق المنافس ما فاز إلا بعد تحايل ومكر وتدليس.

• والهوس بلغ بالجماهير أنها تكيل السباب واللعنات وأفظع الشتائم لمدرب الفريق بعد هزيمة أو تعادل، وما هي إلا أيام ونرى نفس الجماهير ترفع نفس المدرب إلى عنان السماء وتنسج له آيات الثناء لأنه فاز في مباراة أخرى بعد أيام قليلة!!

• والهوس بلغ بالجماهير حد التعالي والنرجسية أمام توافه الأمور والتخنث والتدجين والميوعة أمام القضايا المصيرية.

• والهوس بلغ بالجماهير أنها تتأثر بشدة لإصابة لاعب أو لحصوله على بطاقة حمراء ويُصيبها التبلد وهي ترى بأم عينها دماء تُراق وبيوت تُهدَّم وحقوق تُسلب وكرامة تُهدر وحرية تُصادر!!

• والهوس بلغ بالجماهير للحد الذي ترى فيه الشوارع خالية من المواطنين ودور العبادة خالية من المُصلين وكأن هناك حظر تجوال، وفي نفس الوقت تجد الساحات والمقاهي مُكتظة بالجماهير ولا مكان فيها لموضع قدم.

• والهوس بلغ بالجماهير أنها تقدم لاعب كرة القدم وتجعله يتصدر المشهد ويعتلي أبرز المنصات الإعلامية وفي نفس الوقت تحرم الكوادر البارزة في باقي المجالات من كل ذلك!!

• والهوس بلغ بالجماهير أنها تطلق شعارات جوفاء وتدافع عنها وتنافح وكأنها نصوص مُقدسة لا يجوز التعقيب عليها ولا مناقشتها.

• والهوس بلغ بالجماهير أنك ترى الفرد في المدرجات يُشجِّع بحرارة بالغة، وتراه مترهل الجسم لا يفكر في ممارسة أي نوع من أنواع الرياضة تحسِّن صحته وتزيد حيويته.

• والهوس بلغ بالجماهير أن هناك من يقطع على نفسه نذراً مُعيناً إذا فاز فريقه بنتيجة مباراة ما أو بطولة ما.

• وما يندى له الجبين أن الهوس بلغ بالجماهير أنها تكترث لأفكار قبلية على حساب مبادئ إسلامية أو قومية، فلا مانع أن نواجه فريق قوات الاحتلال ونطبِّع معه رياضياً ونتنصل من كل المبادئ والأعراف والقيم من أجل الفوز ببطولة أو خشية أن يُقال أننا نرسِّخ للعداء ولا نقبل التعايش مع الآخر.

إن ما سبق هو الوهم الذي لا يخرج إلا من عقول مُغيَّبة، وأناس يتخبطون في غيهم كالسكران الثمِل الذي لا يُريد أن يفيق من سَكْرَته ويلعن من يحاول إفاقته قبل موعد الجرعة القادمة.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو، ما الفائدة أن يفوز المنتخب الوطني والمواطن الذي حبس أنفاسه تشجيعاً تنقطع أنفاسه لهثاً من أجل أن يحصل على أبسط حقوقه الآدمية!!”.

ثانياً: كرة القدم ذراع الأنظمة المستبدة لسلب العقول

إن الأنظمة المستبدة توقن أن جماهير كرة القدم تتعصب في المدرجات والشوارع والساحات لتُخرج ما بداخلها من كبت واضطهاد حتى إذا وضعت على المحك الأساسي لرفض الظلم والاضطهاد تصاب هذه الجماهير بالخرس وتصمت صمت القبور.

إن الأنظمة المستبدة تنفق على مجال كرة القدم ما لا تنفقه على مجال البحث العلمي، وهذا ما جعل مجال كرة القدم سوقاً تجارياً رائجاً، ومنظومة اقتصادية كبيرة تستفيد منها الأندية، والشركات الرياضية، ووكالات الأنباء، واللاعيبين، والرعاة، والوكلاء، حتى أصحاب الكافيهات في المناطق الشعبية يعتبرون بطولات كرة القدم موسماً للربح المريح.

ولكي نبرهن على أن كرة القدم هي ذراع الأنظمة المستبدة لسلب عقول شعوبها، نستعرض هذه المواقف، على سبيل المثال لا الحصر.

1- عندما قامت إيطاليا باستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم عام 1934م قال الزعيم الإيطالي الفاشي (موسوليني): “لم أتصور أن ولاء الإيطاليين لهذه اللعبة يفوق ولاءهم لإيطاليا وأحزابها الوطنية، سنفعل ما بوسعنا لاستضافة البطولة القادمة”، وبالفعل استضافت إيطاليا البطولة التالية عام 1938م، وكان موسوليني يُطلق على لاعبي المنتخب الإيطالي “جنود القضية الوطنية”.

2- بعد فوز انجلترا بكأس العالم لكرة القدم عام 1966م كتب وزير الاقتصاد (روبرت كروسمان): “هذا النصر سيخفف الضغوط على الجنيه الاسترليني ويحد من عمليات المتاجرة ضده”.

3 – عندما قام العسكر في الأرجنتين بانقلاب عسكري، بذلوا قصارى جهدهم لضمان استضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم عام 1978م بغرض التغطية على ما ارتكبوه من جرائم في حق الشعب.

3- أثناء انشغال العالم بتصفيات بطولة كأس العالم لكرة القدم في أسبانيا عام 1982م استغل العدو الصهيوني الفرصة وقام بتنفيذ مجزرته بحق الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا.

4- ولا ننسى ما حدث بين المنتخب المصري لكرة القدم ونظيره الجزائري عام 2009م في أم درمان بالسودان أثناء التصفيات المؤهلة لمونديال جنوب أفريقيا حيث كادت تندلع حرب بين الجزائر ومصر بسبب ما حدث في المباراة، ليكتشف الجميع لاحقاً أن النظامين رئيسي الدولتين آنذاك كانا وراء حملة الحشد والأحقاد والضغينة، فنظام مبارك كان يفتعل أزمة ليتمكَّن في ظلها من إتمام عملية توريث الحكم، ونظام بوتفليقة كان يريد كسب مزيد من الشعبية التي تجعله يستمر في السلطة على خلاف نص دستور البلاد.

5- وفي عام 2019م حرص النظام الانقلابي في مصر على تنظيم بطولة إفريقيا لكرة القدم، كما حرص على استضافة بطولة العالم لكرة اليد في يناير 2020م، كل ذلك لتحقيق شرعية زائفة وإنجازات وهمية فارغة ولتحسين صورته القبيحة أمام العالم.

ثالثاً: جوانب رياضية مضيئة لا يجب إنكارها

قد يقول قائل: ألا يوجد في مجال كرة القدم ما يستحق الإشادة به وتسليط الضوء عليه، وهنا نجيب ونقول..

إن مجال كرة القدم به مزايا لا يُمكن لا تجاهلها وأنه لو تم تعظيم هذه المزايا والبناء عليها لاستطعنا أن نغيِّر الصورة الذهنية عن هذه اللعبة، ومن بين هذه المزايا:-

1- إن الرياضة بصفة عامة وكرة القدم بصفة خاصة تعد قاعدة مشتركة لتوحيد الشعوب حول العالم فهي لغة واسعة الانتشار لا تحتاج إلى مُترجمين، وقوانينها واضحة المعالم للجميع، وهذا كفيل لغرس لغة الحب والتفاهم والتقارب بين الشعوب بدلاً من العداوة والشحناء.

2- إن الرياضة لعبت دوراً هاماً في مساندة ثورات الشعوب، وتعريف العالم بمعاناة الأقليات، وتوصيل نبض الجماهير من خلال روابط الألتراس ومن خلال الصيحات واللافتات وغير ذلك من الوسائل التي نراها في المدرجات وداخل المستطيلات الخضراء.

3- إن الرياضة كانت سبباً في دخول أعداد ليست بالقليلة في الإسلام لما لمسه هؤلاء المسلمون الجُدد من أخلاق طيبة وتعاملات سمحة من اللاعبين المسلمين داخل المستطيل الأخضر وخارجه.

4- إن الرياضة كان لها دوراً بارزاً في فضح دولة الاحتلال، وفي مساندة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وذلك من خلال ممارسات اللاعبين أو من خلال ممارسات الجماهير، والفعاليات في هذا الجانب كثيرة ولا مجال لسردها.

5- إن الرياضة من الممكن أن تكون وسيلة من وسائل الترابط الأسري والاجتماعي لو التف الجميع حولها في جو يسوده الحب والتقاهم والتسامح بعيداً عن الهراء والسفاهات.

6- إن الرياضة وسيلة من وسائل تنمية العمل الخيري والحث عليه، وتخريج قدوات يمارسون هذا الدور حتى بعد اعتزالهم.

أخيراً أقول

• نتفق أن الرياضة بصفة عامة ليست شراً مَحضاً بل إنها من الضروريات التي لا غنى عنها ومن الأمور التي وصَّى بها الشرع، ولكن الذي نراه الآن أنه تم تحويل الرياضة من وسيلة ترفيه ووسيلة لتقوية البدن إلى تنافس محموم، واستنزاف الأموال والأوقات، وكسب الخصوم.

• ونتفق أن التوازن مطلوب فلا يُعقل أن يكون حجم الإنفاق على الرياضة بصفة عامة وكرة القدم بصفة خاصة يفوق حجم الإنفاق على البحث العلمي وغيره من المجالات المفصلية.

• ونتفق على أن تحويل الوسيلة إلى غاية سفه لابد من الاحتراز منه لأن الانزلاق في هذا المستنقع يجعل الإنسان أسيراً لا حق له في تقرير مصيره.

• ونتفق أن الدول المتقدمة ما تقدمت بأرجل لاعبيها ولكن بعقول مُبدعيها.

• ونتفق أن كرة القدم لها انتشار سرطاني جارف في شتى بقاع العالم ولو تم استغلالها الاستغلال الأمثل لتحقق التعايش الذي تصدِّعنا به النخب وتسعى في نفس الوقت لتقويضه.

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".