رمضان آخر.. بخلوف فم غزي!


ياسر عبدالعزيز

بينما يزين هلال سماء الليل إيذانا بقدوم شهر رمضان المبارك، يجد المغترب المنفي نفسه يشرع في رحلة ذكرى وشوق لأولئك الذين فرقت بينه وبينهم المسافات والموانع، فرمضان ليس مجرد التزام ديني، بل هو حياة وطاقة وذكريات وتقاليد متجذرة بعمق في الأسرة والصحبة والمجتمع، يزداد رسوخا في مجتمع غني بالثقافة والحميمية كالمجتمع المصري.

رمضان.. أصوات المقرئين المنطلقة من الراديوهات والتلفزيونات وقبيل الإفطار الممزوج بضحكات الشباب وصرخات لعب الأطفال وضجيج فرقعات الألعاب النارية، والأنوار التي تزين الشوارع

رمضان هو وقت الحنين الحلو والمر، رمضان هو رحلة عبر الزمن إلى ذكريات الطفولة، فعلى الرغم من أن شعائر رمضان في المنفى ظاهرة بجلاء لا سيما في وقت الإفطار وقبيل أذان المغرب، نفس الازدحام الذي يملأ الشوارع، ونفس اللهفة في انتظار الأذان، ونفس منظر الصفوف المتراصة على أفران الخبز، وكثيرا من مشهد المطاعم المملوءة بالزبائن منتظري الإفطار، ونفس الأضواء المتلألئة التي لا تمثل أي أضواء، وإن كانت هي هي، إلا أن الزمن يعطيها روح غير تلك التي كانت عليه قبل رمضان، مع هذه الأجواء تنجرف الأفكار عائدة إلى شوارع مدينتي الصاخبة المفعمة بروح رمضان، روح لم يلمسها، ويعايشها غريب إلا فتن بها.

أصوات المقرئين المنطلقة من الراديوهات والتلفزيونات وقبيل الإفطار الممزوج بضحكات الشباب وصرخات لعب الأطفال وضجيج فرقعات الألعاب النارية، والأنوار التي تزين الشوارع، حيث يتبارى شباب وأطفال كل شارع في تزيين شارعهم في مسابقة غير معلنة للفوز برضا رب العالمين، وكأنها عبادة يتقرب بها الشباب والأطفال في هذا الشهر، وربما تكون كذلك، يمتزج كل ذلك مع روائح الأكلات الرمضانية، ففي رمضان لا يوجد بيت فقير، ولا يوجد أحد غريب، ولا يوجد صائم لن يفطر، إذ تمتد موائد الرحمن لإفطار المارة وفقراء الحي في أغلب شوارع مصر، وفي جوامعها، فالتكافل على أشده والصدقات تتضاعف والأغلب يؤخر إخراج زكاته ليخرجها في رمضان لكي يأخذ الثواب مضاعفا، ويدخل الفرحة على قلب كل الصائمين من الفقراء والمحرومين.

في رمضان أجواء النابضة بالحياة للتجمعات العائلية، فوقت الإفطار هو الوقت الوحيد في العام الذي لا يتخلف فيه فرد من أفراد الأسرة عن مائدتها، وخلال الشهر، لا تخلف داع في العائلة عن تلبية دعوة داع من العائلة للإفطار، وفي بعض العائلات يتكفل أثرياؤها بدعوة أسر كثيرة من نفس العائلة، لتصبح الليلة، وكأنها ليلة عرس يتقابل أفراد العائلة التي قد تبعدهم المسافات في هذه الليلة ليعيدوا توثيق رباط الرحم، فيلعب الأطفال، وينالهم من العطايا من أقاربهم ما يجعلهم أكثر تمسكا بهذه الليالي، وينتظرونها من العام للعام، وكما تنبض جدران بيت العائلة بالدفء والحيوية والمحبة، تنبض شوارع مصر بالحياة مع صخب المارة من النساء والأطفال التي تنخفض كلما مروا على مسجد من المساجد المملوءة بالمصلين بصلاة التراويح بعد الإفطار.

رمضان في غزة هذا العام لا فيه سحور، ولا فطور، لأن الاحتلال منع عن أهلها الطعام، وعجز إخوانهم أن يدخلوا آلاف الأطنان من الغذاء والدواء العالقة خلف سور لا تفصلها عن أهل غزة إلا الإرادة، فتدخل ويطعم من جاع

هذه الروح التي نفتقدها في منفانا، وتعتصر لها قلوبنا، ضاعف همنا، وزاد حزننا هذا العام ما يشهده أهلنا في غزة، فقد انطفأت أنوار غزة، كما انطفأت فرحة أطفالها وشبابها، وانطفأت معهم بهجة هذا الشهر الكريم في قلوبنا، وإن كان النبي أمرنا أن نفرح في الأعياد، ورمضان عيد للمؤمن فيه فرحتان، كما وعدنا النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أننا بشر يؤثر فينا ما يعتري إخواننا، ولقد بكى صلى الله عليه وسلم عندما دخل على سعد بن عبادة في مرضه، ووجده في غاشية أهله، فسأل صلى الله عليه وسلم: (قد قضى؟) قالوا: لا، يا رسول الله، فبكى صلى الله عليه وسلم فلما رأى القوم بكاء النبي بكوا.

رمضان في غزة هذا العام لا فيه سحور، ولا فطور، لأن الاحتلال منع عن أهلها الطعام، وعجز إخوانهم أن يدخلوا آلاف الأطنان من الغذاء والدواء العالقة خلف سور لا تفصلها عن أهل غزة إلا الإرادة، فتدخل ويطعم من جاع، وينقذ من شارف من الجوع على الموت، رمضان هذا العام في غزة للأيتام الذين فقدوا آباءهم وللأرامل اللاتي فقدن أزواجهم وللبتر الذين فقدوا عائلاتهم بالكامل ولم يبق لهم أحد، رمضان هذا العام بروائح المسك الفواح على أهل الصيام من أجساد الشهداء، والمسك الفواح من خلوف أفواههم الجائعة منذ أشهر.

رمضان في غزة هذا العام بلا صلاة تراويح، فقد دمر العدو كل جوامع غزة، وكأنه انتقام من تلك المدارس التي أخرجت هذا الجيل الذي يكافح بالسلاح و يناضل بالصبر من أجل قضيته وأرضه وعرضه، وزود عن شرف هذه الأمة التي صارت كغثاء السيل رغم أمهم يومئذ كثير، رمضان هذا العام في غزة بغير حلق القرآن ومسابقاته التي تعقد بين أطفالها وشبابها وفتياتها، رمضان غزة هذا العام من غير زيف، رمضان غزة هذا العام هو الأصدق، هو الشاهد، وهو المشهود وهو علينا شهيد، رمضان غزة هذا العام هو للمخلَصين والمخلِصين، لا يضرهم من خذلهم، فهم، بإذن الله، الطائفة التي بشر بها النبي من أمته.. على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين.

ياسر عبدالعزيز

حاصل على ماجستير القانون العام ودبلوم الإدارة والتخطيط الإستراتيجي، مدير مركز دعم اتخاذ القرار في حزب الوسط المصري سابقا، له العديد من المقالات والأبحاث المنشورة.

شاهد أيضاً

استقالة رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية بعد الفشل في 7 أكتوبر

صرح الجيش الإسرائيلي في بيان اليوم الإثنين، إن رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية ميجر جنرال أهارون هاليفا، استقال، وإنه سيترك المنصب بمجرد تعيين خلف له.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *