الديمقراطية على الطريقة العراقية

ياسر عبد العزيز

بين التوقعات والتمنيات دارت أحاديث المحللين “السياسيين” بمفهوم إعلام آخر الزمان، وبين هؤلاء وهؤلاء هوى متبع وأيديولوجية مطاعة يبتعد بهم عن عمد عن أسس التحليل السياسي وقواعده، وهذه لعمري أهم آفة من آفات أمرضت عراق ما بعد 2003.

كما توقع العقلاء أن حرباً أهلية لن تقع حتى مع استخدام الأسلحة الخفيفة والمتوسطة بين المتصارعين على المناصب في العراق بعد أزمة اختيار السوداني رئيساً للوزراء إثر سقطة سياسية وقع فيها الصدر واستغلها الإطار التنسيقي.

تعريف لا بد منه

بدأت الأزمة وكأنها أزمة ديمقراطية تتصارع فيها قوى من المفترض أنها سياسية دخلت انتخابات بحسب الدستور المكتوب من قبل المحتل الأمريكي عام 2003، ولأن الأرضية والخلفية والحقائق تذهب بالمتنافسين إلى ما هو أبعد من الصراع الديمقراطي الحزبي، كخيار ارتضاه العالم، للمنافسة على خدمة الوطن، فإن ما آلت إليه الأمور في العراق نتاج طبيعي لكل “العك” الذي على أساسه تأسست العملية السياسية، بداية من الدستور المفخخ، مروراً بالفتوى القضائية، ومبدأ الكتلة الأكبر، قبل أن ترفض الكتل المسيطرة فكرة المحاصصة رغم العمل بها وهي مرفوضة، كحل ومخرج للكتل حتى لا تتصارع، ما يذهب بالجميع إلى الترضية، التي لم يرتضيها الصدر في آخر استحقاق، وصولا إلى السلاح الحاضر بيد الجميع، إلا الساسة السنة الدائرون في فلك المصلحة.

الحكاية بدأت بعد أن حصل التيار الصدري وكتلته البرلمانية على 74 مقعداً مع تراجع حصة الفصائل المدعومة من إيران إلى 17 من 48 سابقا، ما جعلها، بعد أن فشلت في إلغاء نتائج الانتخابات، تحاول إحباط جهود الصدر لتشكيل حكومة تضم حلفاءه من الأكراد والسنة ورغم أن عدد نواب ممثلي إيران في البرلمان، والتي يمثلها عدو الصدر اللدود، نوري المالكي (بحاجة لإعادة صياغة)، إلا أنه استطاع تشكيل تحالف سمي فيما بعد بالإطار التنسيقي، ورغم أنهم مختلفون في التوجه، إلا أنهم مجتمعون على هدف إزاحة الصدر عن المشهد، لتأتي السقطة الكبرى والخطأ الاستراتيجي للصدر، بإصداره الأوامر لنوابه في البرلمان بالاستقالة، سعياً منه لإفشال تحالف المالكي، وهو ما استغله المالكي، متقمصاً دور الرئيس السادات، حين تحالف عليه رجال عبد الناصر وقدموا استقالتهم لإسقاطه، فرد عليهم بقبول الاستقالة ومحاكمتهم، وقال قولته الشهيرة، “لو كان في القانون جريمة الغباء السياسي لحاكمتهم بها”.

استصدر المالكي حكما من المحكمة الاتحادية بتصعيد النواب الأكثر أصواتاً بعد الذين استقالوا، فأصبحت كتلته الأغلبية، وبدأت إجراءات اختيار محمد شياع السوداني رئيساً للوزراء، وهو ما أثار غضب الصدر، وبدأ باستخدام أدواته الأكثر نجاعة في بلاد الرافدين، القوة سواء السلمية بإنزال المتظاهرين واحتلال المقرات الدستورية والحكومية، أو الخشنة، بإنزال ميليشيا سرايا السلام ذراعه العسكري، كما فعل مؤخرا.

الصدر رائد المدرسة التناقضية وتلاميذه في الإطار

حتى تلك اللحظة وقبيل نزول ميليشيا سرايا السلام إلى الشارع، كان الصدر ومعتصموه في المنطقة الخضراء وداخل البرلمان وفي القصر الرئاسي يرفعون راية محاربة الفساد، لكن حديث الصدر عن محاربة الفساد يحتاج وقفة في ظل ريادته للمدرسة التناقضية في بلاد الرافدين، وقد يكون في المنطقة العربية بأكملها، فالصدر الذي يريد أن يحارب الفساد كان نوابه ووزراؤه جزءا من هذا الكيان الفاسد الذي أضاع العراق وثرواته وأفقر العراقيين، وألقى بهم إلى حدود بلاروسيا ليقتلوا على يد حراس الحدود في تلك البلاد رغبة في العيش الكريم، مقتدى الصدر الذي يريد محاربة الفساد، تحالف مع الجميع في تفاوت عجيب بين المبدأ والواقع، في برجماتية عجز عن وصفها ميكافيللي في كتابه الأمير، فبعد أن حارب الأمريكيين انضوى تحت دستورهم ودخل العملية السياسية، وبعد أن انخرط في المقاومة مع القوى السنية الوطنية، حاربهم وأعمل فيهم الذبح، وبعد أن تحالف مع المالكي ودخل معه العملية السياسية، قاتله فيما سمي بثورة الفرسان، وبعد أن أعلن عدم قبوله محاولات القوى الإقليمية، ويقصد السعودية، في قيادة المنطقة، جلس مع ولي العهد الحالي للمملكة، ورغم ولائه الشديد لإيران، إلا أنه يقدم نفسه رافضا لوصايتها على العراق.

لكن الصدر وإن كان الأشهر في تناقضاته وتحولاته اللحظية، إلا أن قادة الإطار التنسيقي ليسوا بأبعد منذ تناقضات رائد تلك المدرسة في بلد حدائق بابل المعلقة، إحدى عجائب الدنيا السبع، فمن عجائب بلاد الرافدين أن قادة المشهد السياسي في العراق ورؤساء وزعماء أحزابها التي تحكم يعلنون ليل نهار ولاءهم للجارة إيران، (هم لا يعلنون غالبا ولكن سلوكهم يكشف ذلك) كاشفين عن أولوياتهم، فالمرجع قبل الوطن، وقم أهم من النجف، وطهران أحق بخيرات العراق من بغداد، ومن هؤلاء القادة من يفتخر بالقتال ضد بلاده في حقبة ما قبل الاحتلال، ومنهم من يفتخر بأنه كان حصان طروادة في فتح الأمريكيين لبغداد، وإسقاط حزب البعث “السني”.

تلعب أمريكا على تناقضات الصدر الذي يحلم بتنمية إرث والده الذي قد يكون المرجع الشيعي العربي الوحيد، الذي له شعبية كبيرة ورثها ابنه مقتدى، وفكرة الوالد والابن بوجوب أن تكون للعراق مرجعية شيعية عربية بعد أن سيطر المراجع العجم، رغم نطقهم العربية، على مرجعية الشيعة في العراق

وهنا مغالطة كبيرة يريدون بها تهييج نوازع المذهب وتغليبها على نوازع الوطنية، ليبرروا قتالهم لوطنهم والتسبب في مقتل مئات الآلاف وتهجير الملايين من بني وطنهم، فالبعث بالأساس لم يكن مذهبياً ولا طائفياً، والحديث في ذلك طويل، ويكفي الإشارة إلى أن طارق عزيز نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية كان مسيحياً، رئيس وزراء العراق محمد حمزة الزبيدي كان شيعياً، ووزير الخارجية ثم الإعلام محمد سعيد الصحاف كان شيعياً، ووزير الصحة أوميد مدحت كان كردياً، حتى شاعر حزب البعث عبد الزراق واحد كان صابئياً، لكن إشارة قادة العراق اليوم ما هي إلا محاولة لإخفاء وصمة يعرفون أنها لن تمحى، وكل في ذلك سواء.

الخضراء والاتفاق النووي الإيراني

لا يستبعد بأي حال من الأحوال أن يكون ما يحدث في العراق اليوم، وما رآه البعض بأنه احتراب شيعي ـ شيعي هو تداعيات أزمة الاتفاق النووي الإيراني والخلافات التي لم تحل بين أمريكا ومن خلفها حلفاؤها في الرياض وتل أبيب وتخوفهم المستمر من تداعيات الاتفاق النووي وانخراط إيران من جديد في المجتمع الدولي، وهو ما ترغب فيه إيران، بعد الحصار الذي أفقدها الكثير من قوتها، بعد مكاسب كبيرة حققتها خلال فترة حكم أوباما، وهي تخوفات مشروعة بالنسبة للرياض والخليج التي تعاني من تلك الحقبة، والتي ترجمت في حصار الخليج بميليشيات موالية في كل من لبنان والعراق واليمن وظهير شعبي شرس في البحرين وتمدد سريع وقوي في المنطقة وأفريقيا ومناطق النفوذ والثروات أو الأسواق المحتملة، لا سيما وأن بايدن هو الفترة الرئاسية الثالثة لأوباما، ما يعني أن الضغط من الآن سينتج أزمات في المستقبل ويكفي العرب لدغة واحدة من جحر أوباما وثعبانه في طهران.

تلعب أمريكا على تناقضات الصدر الذي يحلم بتنمية إرث والده الذي قد يكون المرجع الشيعي العربي الوحيد، الذي له شعبية كبيرة ورثها ابنه مقتدى، وفكرة الوالد والابن بوجوب أن تكون للعراق مرجعية شيعية عربية بعد أن سيطر المراجع العجم، رغم نطقهم العربية، على مرجعية الشيعة في العراق، حتى السيستاني المرجع الأعلى في العراق هو إيراني من إقليم سيستان جنوبي شرق إيران على حدود باكستان وأفغانستان، لذا فإن الصدر، ترى فيه السعودية وفي خطابه أقرب إلى القومية مع الاحتفاظ بمكانة الطائفة في ذلك الوطن، ومناوئا لقادة العملية السياسية الممثلين لإيران، ملمحاً غير مصرح بمرجعيتهم، لذا تلعب أمريكا وجوار العراق في الخليج على ورقته كحصان أسود يمكن أن يحدث التغيير. ولأن مقتدى لم يبلغ درجة العلمية التي تؤهله لأن يكون مرجعاً، يعد المرجع الشيعي كاظم الحائري مرجعاً للتيار الصدري، وإن حاول البعض إنكار ذلك.

كاظم الحائري لعب دور حصان طروادة في إنهاء التطورات المتسارعة في المنطقة الخضراء ومحيطها، بعد سقوط قتلى من الجانبين المتناحرين من ميليشيات الصدر والإطار، فوجئت الأوساط العراقية، فجر الإثنين، ببيان منسوب إلى الحائري تحدث فيه عن اعتزاله العمل الديني، وغلق كل المؤسسات التابعة له، فيما وجّه أتباعه بتقليد المرشد الإيراني علي خامنئي، في خطوة رآها المراقبون ضربة قوية للصدر الابن، ما جعل الأخير يرد سريعاً بالتشكيك في بيان الحائري وصدوره بمحض إرادته، بل أنه تحرك إيراني لعزل التيار الصدري الذي رآه مقتدى يحقق نجاحات في سبيل إنهاء “الفساد” وتخليص البلاد من التبعية.

الصدر راكب أمواج تشرين

خطاب الصدر الذي لا ينقطع عن محاربة الفساد جعله يركب كل الأمواج، فتارة يركب موجة الغضب الشعبي تجاه الغلاء، وتارة تجاه البطالة وعدم توفير فرص العمل، ولما تشكلت نواة تشرين وبدا أن لها كيانا، ركب الرجل الموجة وأنزل أنصاره ذوو القبعات الزرقاء، للتمييز، بين صفوف ثوار تشرين للمطالبة بحقوق الشعب في الثروة والعمل والعيش الكريم، لكنه ابتعد عنهم خطوة بعد أن تحولت المطالب إلى إلغاء الدستور ونقض العملية السياسية وبناء عراق جديد مبني على عقد اجتماعي يكتبه الجميع ولا يستثني أحدا، حتى إذا ما كانت حادثة مقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، قائد الحرس الثوري وقائد مليشيا الحشد، كان الارتداد إلى مربع إيران، وقد يكون لهذا الارتداد مبرراته، حتى لا يحسب على الأمريكيين، وهي التهمة الملصقة به الآن، بعد حراكه بالاعتصام في المنطقة الخضراء والسيطرة على البرلمان.

لقد ذاق ثوار تشرين من الصدر، نفس ما ذاقوه من ميليشيا الحشد الشعبي، ولعل القمع الذي نال ثوار تشرين كان من الفظاعة بمكان لأن يفكروا كثيرا، فـــ560 قتيلا وعشرة أضعاف ذلك العدد من المصابين فأكثر من 700 قتيل، وقرابة 30 ألف جريح كان كافياً لأن تخفت أصواتهم وإن لم تسكت، كما أن الاختراقات التي أحدثتها الأحزاب وميليشياتها في صفوف الثوار وإقناع بعضهم للانخراط في العملية السياسية، لهو أدعى لأن يقف ثوار تشرين ملياً قبل إعادة الحراك بتنظيم صفوفهم وإيجاد قيادة وطنية حقيقية في الداخل والخارج يكمل بعضها بعضاً، تنفض عنها رموز الإعلام والسوشيال ميديا الذين تربحوا من دماء ثوار تشرين، وتضع لنفسها رؤية حقيقية متجردة، تقود الحراك وتبني لما بعد الثورة، واضعين نصب أعينهم أن الحراك المنفرد من دون تشبيك مع ثوار الربيع العربي هو عبث، فالثورة موجات يدفع بعضها بعضاً والأمة كلها مأزومة ومعنية بانتصار ثوراتها.

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".