الحكمة أصلها و اصولها

الله جل وعلا قال في سورة البقرة (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ …)269 البقرةوالحكمة جاءت في مواضع عديدة من القرآن الكريم ومعناها أو اشتقاقها من الحكم ؛ والحكم هو العلم بالشيء ومنع حدوث ضده. ومنه قول الحق جل وعلا (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) والحكم هنا ليس الحكم بأن يحكم الناس، إنما الحكم هنا العلم والفقه.

فالأنبياء تميزوا بأن الله علمهم من لدنه ؛ هنالك العلم الوهبي، هذا من الله يتنزل به على الأنبياء بالوحي.

وهناك العلم الكسبي الذي نتعلمه جميعا من خلال المعلمين والمشايخ والمدارس والجامعات …. هذا علم مكتسب. أما الأنبياء فإن الله تعالى علمهم علما من لدنه.

فمعنى وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا يعني العلم والفقه في دين الله عز وجل.

ومنه سمي الحاكم حاكما لأنه يمنع الظلم بين الناس بإقامة العدل.

وفي بعض البلاد العربية يسمون الطبيب بالحكيم لأنه بطبه يمنع إنتشار المرض.

أما الحكمة التي نعنيها ههنا فإن معناها الإصابة في القول والفعل.

وفي بعض التعريفات : (أن تعلم ما الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي ) يعني أن لا يكون الإنسان متهورا أو عنده سرعة وعجلة وطيش في الأمور.

الإنسان من طبعه العجلة :

الله جل وعلا وصف الإنسان أنه عجول (…وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا) الإسراء 11، ومعنى عجولا يعني من طبعه العجلة، السرعة، يريد الأمر بمنتهى السرعة. إذا اشتهى أمرا يريده. فديننا يعلمنا أن المسلم يغالب هذا الطبع بالحكمة والتأني والنظر في الأمور حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه.

أنواع الحكمة :

كما قلت أن الحكمة منها ما هو وهبي من الله ومنها ما هو كسبي بالتعلم ، فأما ما هو من الله فهذا أمر ينعم الله به على من شاء كما ذكرت في بعض الآيات عن الأنبياء أن الله تعالى آتاه الحكم (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ …)، (…وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) وآيات كثيرة في هذا المعنى أن الله هو الذي ينعم على الأنبياء بنعمة الحكمة والعلم.

أما نحن كيف نكتسب الحكمة؟

اكتساب الحكمة يأتي بعدة أمور :

أولها : تقوى الله سبحانه وتعالى:

وما علاقة التقوى بالحكمة؟

الحكمة من معانيها أن ترى الأمور ببصيرة، ترى الأمور على حقيقتها دون أن يكون هنالك غشاوة تمنع من الرؤية الحقيقية وحتى ترى الأمور ببصيرة تحتاج إلى أن تكون من أهل الطاعة والتقوى. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ …) عندك بصيرة وانكشاف للأمور. عندك رؤية واضحة، لا غشاوة ولاغبش ولا وقوع في فتنة ولا انشغال ببدعة ولا شيء من هذه الأمراض والحمد لله.

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا …) أي أمرا واضحا ظاهرا تفرقون به بين الحق والباطل.

ثانيها : تجارب الحياة

فحكمة الشيوخ-أقصد كبار السن -غير حكمة الشباب ، فكلما كبر الإنسان كلما ازداد عقله وازدادت خبرته ومعرفته بالحياة ، والأيام والليالي والمواقف والأحداث تعلم الإنسان بما فيه الكفاية.. ..  فلما تستمع لشخص عنده ستين سنة، عنده تجربة في الحياة وحكمة وبصيرة بخلاف ما تستمع لابن العشرين مثلا.

فتجارب الحياة جزء كبير أو معلم كبير للحكمة.

ثالثها / مجالسة أهل الحكمة :

أيضا من أسباب اكتساب الحكمة أن تجالس أهل الحكمة، فمجالسة الصالحين، مجالسة العلماء، مجالسة من ينتقون الكلام، هؤلاء يجعلونك ممن تكتسب الحكمة…. فالطبائع تعدي ومجالسة الناس يجعل في الإنسان تأثرا ، كما قالت العرب قديما: الصاحب ساحب. من يجالس أهل الإيمان يغلب على لسانه هذه الرؤية واللسان الطيب ومن يجالس أهل المعصية يغلب على لسانه اللغو والرفث والكذب …. فالطبائع تعدي يا إخواني.

فمجالسة أهل الحكمة، أهل العلم، أهل الصلاح، أهل الخبرة، هؤلاء يكسبونك من حكمتهم وخبرتهم.

هذه أهم أسباب ثلاثة لاكتساب الحكمة:

تقوى الله فيحقق الله لك البصيرة،

خبرات وتجارب الحياة،

مجالسة الحكماء والعلماء ومن عندهم البصيرة.

مواطن الحكمة :

أولها الحكمة في الدعوة إلى الله عزو جل:

كثيرا ما نرى البعض عنده إخلاص لله وللدعوة لدين الله لكنه ليس عنده حكمة…. عنده تهور، عنده حماسة كبيرة لكنها ليس فيها بصيرة….. عنده حرص على الحق ودعوة للحق ولكن…. ليس عنده بيان أو حكمة في البيان لهذا الحق الذي يعتقده.

الله سبحانه وتعالى علمنا: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ …) تأملوا يا إخواني هذا سبيل الله. وعلى الرغم من هذا، إن دعوته بطيش أو تهور أو حماسة أوما شابه ذلك تؤدي حتما إلى النفور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن منكم منفرين”. فالمنفر هذا لم يقصد أن ينفر الناس ولم يقصد أن يصد الناس عن سبيل الله بل إنه أراد أن يدعو الناس إلى الله لكن بدون حكمة وبدون ترو وتأن في هذا السياق.

تعلم كيف تدعو من أمامك…. تعلم كيف تصيغ الكلمات مع من تكلم ، كما قال الشيخ الشعراوي: النصيحة مرة وثقيلة على النفس ، وكثير من الأنفس لا تتقبل النصيحة لثقلها ومرارتها…. وحينما يكون الدواء مرا، فإنه يوضع في كبسولة، كبسولة جيلاتينية هذه فيها الدواء، فأول ما تبتلعها لا تشعر لها بمذاق وربما يضيفون لها مذاق بطعم السكر حتى تستطيع بلعها لكن الفائدة في الدواء المر الذي بداخلها ؛ فكذلك النصيحة غلفها بالسكر، غلفها بالبسمة ، بالكلمة الطيبة، غلفها بالسياق الذي تستطيع أن تنال أو تسقط النصيحة في وضعها الصحيح فيكون الذي أمامك أسرع وأدعى للقبول.

ويحضرني في هذا حفيدي النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين حينما أبصرا رجلا كبيرا يخطئ في الوضوء. ماذا يفعلان وهما الصبيان الصغيران؟ قال أحدهما: يا عم، هذا اخي يدعي أنه يتوضأ أفضل مني (أخي هذا يدعي أنه يتوضأ أحسن مني)   فهلا توضأنا أمامك فتحكم بيننا من الذي يتوضأ أفضل من الآخر؟ سبحان الله العظيم !

بدءا في الوضوء فانتبه الرجل لخطئه وقال أنتما تحسنان الوضوء وأنا الذي لا أحسن الوضوء.

فهنا ليس من المفضل أن تكون النصيحة في صيغة نصيحة مباشرة… ممكن أن تكون في صيغة سؤال… ما رأيك في شخص يفعل كذا؟ ما رأيك لو أن أحدا فعل كذا وكذا؟ صيغة سؤال كأنك تكتسب خبرته و تكبر به.

تصور أني عرفت هذا اليوم معلومة أول مرة أعرفها! (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا).

أنا سمعت الشيخ في المسجد يقول كذا وكذا وكذا… هذه نصيحة بصورة غير مباشرة .

فإذا أتقنا  النصيحة لله عز وجل تكون بذلك الأنفس أدعى وأقرب للقبول والإستجابة.

ثانيا / الحكمة في الألفاظ والكلمات :

من الحكمة يا إخواني الحكمة في اللفظ… ومن يسعده الله يسعده في لفظه كما قالوا : الملافظ سعد وأيضا فيها التعاسة.

فاختيار وانتقاء الألفاظ مطلوب يا إخواني.

بعض الناس لا يجيدون كيف يتكلم ؟ وكيف يسكت ؟

تكلم فإذا تكلمت تكلم بالخير وإذا سكت سكت للخير. “رحم الله رجلا تكلم فغنم أو سكت فسلم”

وهذا ما قاله لنا رسول الله “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت”.

ممكن واحد يقول كلمة، كلمة لا يلقي لها بالا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فتشعل حرب بين بلدين أو تخرب أسرة أو تخرب شركة أو تضيع مستقبل شخص. …سبحان الله العظيم بكلمة واحدة.

ولذلك توعد النبي هذا الأمر بعقوبة سبعين سنة في النار. ” إِنَّ العبد ليتكلّم بالكلمة -من سَخَط الله- لا يُلْقِي لها بالاً، يهوي بها في النار سبعين خريفا”. فالحكمة في الكلام يا إخواني، كيف تتكلم ومتى تتكلم وخاصة في المواقف الحاسمة، خاصة في أعراض الناس، خاصة في الأمور التي يكون فيها النزاع والشقاق.

وكان عمر بن الخطاب يقول أن من طيبات الدنيا أن تجالس أقواما ينتقون الكلام كما ينتقى أطايب الثمر. نضع طبق الفاكهة فننتقي الفاكهة الطيبة ونأكل منها. قال أن مجلسا فيه انتقاء الكلام أطيب من هذا المجلس الذي تنتقى فيه الفاكهة.

ومن هذه الباب يا إخواني لما سئل العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم أنت أكبر أم النبي؟ قال هو أكبر مني وأنا ولدت قبله.

من أدبه رضي الله عنه يقول هذا الكلام.

وكان عمر بن الخطاب ذات مرة مقبلا على قوم أشعلوا نارا في الليل يستدفئون بها فقال السلام عليكم يا أهل الضوء.

كره أن يقول يا أهل النار.

وقال الخليفة لأحد الصبيان ما جمع سواك قال محاسنك يا أمير المؤمنين.

يعني جمع سواك مساويك فكره أن ينسب السوء إلى الخليفة. سبحان الله!

والعكس بالعكس بعض الناس يعني اعوذ بالله في ألفاظهم لا يجيدون الكلام ولا يعرفون كيف يتكلمون. واحد كان يزور مريضا فقال له مم تشتكي؟ قال عندي كذا وكذا وكذا… قال نفس المرض الذي مات به أبي.

فسبحان الله العظيم يعني بشروا ولا تنفروا.

واحد كان يزور أحد الناس عنده ألم في الركبة وأجرى عملية جراحية، قال سمعت أجدادي يقولون : وداء الركبتين ليس له طبيب. لا إله إلا الله !

فلان تعب من عينه فذهبت لم يعد يبصر بها.

الآن أين تعمل في شركة إيه؟ قال شركة كذا. قال أنا سمعت أنها أفلست أو على وشك الإفلاس.

زوجتك أين ستلد إن شاء الله؟ في المستشفى الفلاني . أنا سمعت أنهم يبدلون الأطفال…. سمعت أنهم يقتلون الأطفال. سمعت أن فيها فيروسات.

المهم أنه ينتقي أخبث الكلام أو أصعب الكلام حتى ينفر من أمامه…. وهذا مزاج سوداوي عجيب تراه في بعض الناس لا يرى إلا السوء، الصورة السيئة السوداء القاتمة التي لا أمل فيها ولا روح أبدا.

وهذا ليس من دأبنا نحن المسلمين يا إخواني.

فالمسلم طيب الطعام وطيب الكلام والقلوب كالقدور والألسنة مغارفها. أنت تأكل طيبا وتخر

وتخرج طيبا وتنتقي أطايب الكلام وأطايب الحديث سبحان الله!

إذن يا إخواني الحكمة أن تنتقي طيب الكلام.

ثالثا / استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان:

وهذا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله… كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها. (مش كل شيء في حياتك يكون معلن…. مش كل شيء في حياتك يكون الكل عارفه….. مش كل الأسرار تكون مشاعة على جميع الناس).

وأخص بهذا نساءنا الكريمات حينما تتكلم مع أختها وجارتها وأمها وخالتها أسرار البيت كلها تكون بالخارج.

هنالك أمور تروى وهنالك أمور تطوى.

هنالك أمور تحكى وهنالك أمور تبقى هكذا سرا للبيت.

فلا يعقل أنه كل واحد يحدث الله له نعمة أو يحدث له أمر يشيعه بين الناس ويتكلم ويقول ويروي… “فاستعينوا في قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود” وهذا حديث سنده ضعيف لكن معناه صحيح.

ونبي الله يعقوب عليه السلام حينما قص عليه ابنه يوسف الرؤيا قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا… فعلمه الحكمة رغم أنها رؤيا مبشرة وتبين أن يوسف سيكون ذو شأن وسيكون يعني له مكانة كبيرة إلا أنه خاف على ابنه من كيد إخوته وحسدهم.

من هذا القبيل ما ابتلينا به حاليا على الفيسبوك وغيره تجد الأخ ذهب إلى رحلة فيصور الرحلة وسعادته مع زوجته وأبنائه ووصف الرحلة وواقع الرحلة ونحن في كذا وفي مكان كذا….

ذكرت لكم من قبل أن الشرطة سألت اللص كيف عرفت أن الأسرة تركت البيت ؟ قال : من الفيسبوك…. حرامي مودرن سبحان الله. فتتبع الفيسبوك وعرف أن الأسرة مسافرة.

الآن سنسافر إلى أجازة في المكان الفلاني…

الآن نحن نركب الطائرة…

الآن نزلنا من الطائرة…

الآن ركبنا السيارة…

هذه سيارتي الجديدة…

هذا هاتفي الجديد…

هذا البيت الذي اشتريته … وهذا هذا هذا…

يعني لمن تفعل هذه الأمور؟

أي نعم هنالك من يفرح لك لكن هنالك من يحسد، وهنالك من يحقد وهنالك من يصيبك بالعين… سبحان الله العظيم !

شاهد أيضاً

عبد المجيد الزنداني.. حياة حافلة بالعلم والعمل والجهاد

ودع اليمنيون والأمة العربية والإسلامية يوم الإثنين 13 من شوال 1445 للهجرة، الموافق 22 أبريل 2024م علما من أعلام هذه الأمة، وكوكبا من كواكبها، وهاديا من هداتها، ورائدا من روادها، هو الشيخ عبد المجيد بن عزيز الزنداني، العالم العامل، والمجاهد والمربي، والقدوة المعلم، القرآني المحمدي الرباني، صاحب العطاءات الدعوية، والإمدادات التربوية، والجهود التعليمية، والأطوار الجهادية،