اسلاميات

زمان غير هدا الزمان

أحمد عبدالمنصف

كثيرًا ما كنتُ أتمنى أن أُولد في زمان غير هذا، وفي مكانٍ غير هذا، أتمنى لو أنني اخترتُ مسارًا غير ذاك، ويعلو هذا الصوت بداخلي أكثر في أوقات الشدة والضغوطات خاصّة.
.
فأعود لأتذكّر قصّة عظيمة رواها لنا سيدنا جبير بن نفير، يقول:
جلسنا إلى المقداد بن الأسود يومًا (أحد أصحاب سيدنا رسول الله ﷺ)، فمرّ به رجل، فقال: طوبى لهاتين العينين اللَّتين رأتا رسول الله ﷺ، والله لوددنا أنَّا رأينا ما رأيتَ، وشهدنا ما شهدتَ.
.
فاستغضب!
فجعلتُ أعجب؛ ما قال إلا خيرا!
ثم أقبل إليه (أي سيدنا المقداد) فقال:
[ما يحمل الرجل على أن يتمنى مُحضرًا غيَّبه اللهُ عنه، لا يدري لو شَهِده كيف كان يكون فيه؟
والله، لقد حضر رسول الله ﷺ أقوامٌ كبَّهم اللهُ على مناخرهم في جهنم لم يجيبوه، ولم يصدقوه، أولا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم، مُصدقين لما جاء به نبيكم، قد كُفيتم البلاء بغيركم، والله لقد بُعث النبي ﷺ على أشد حالٍ بُعث عليها نبيٌّ قط، في فترة وجاهلية، ما يرون أن دينا أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرَّق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده حتى إن كان الرجل ليرى والده وولده أو أخاه كافرا، -وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان-، يعلم أنه إن هلك دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار، وأنها للتي قال الله عز وجل: ﴿وَالَّذينَ يَقولونَ رَبَّنا هَب لَنا مِن أَزواجِنا وَذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعيُنٍ﴾].
==
أقول: وذاك هو الفخّ الذي ينُبّهنا إليه صاحب رسول الله ﷺ
من أين تضمن أنك لو انتقلت أو وُلدت في زمن رسول الله ﷺ كنت في صفّ المؤمنين لا الكفار الهالكين؟

إنما هو الوهم!
وهم أنك لو انتقلت إلى زمان غير هذا ومكان غير هذا واخترت مسارًا غير ذاك = لكان حالك أفضل! أو كان شقاؤك أهون!
.
وهمٌ قد وصفه أجدادنا في المثل الشعبي لما قالوا: (البعيد سرّه باتع)، فكل ما هو بعيد عن أيدينا، عن أعيننا، عن زماننا ومكاننا وألمنا وشقائنا الحاضر= له بريقه وسحره الخاص على نفوسنا، فنُلبسه ثوب المثالية والكمال والقداسة! ثم نهرب من واقعنا الأليم إلى خيالاته التي تُداعب قلوبنا المتألمة لعلنا نجد فيها سلوتنا، ثم هي لا تزيدنا إلا شقاء وبؤسًا!
.
وهمُ يفتح عليك باب جحيم خاص مكتوب عليه: (ماذا لو؟)
وقد حذّرنا سيدنا رسول الله ﷺ من هذا الباب الملعون، إذ قال:
[إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان] .
ومن هُنا نهل سيدنا المقداد رضي الله عنه من المعين الصافي، سيد الخلق ﷺ هذا المبدأ الحياتي العظيم:
عش يومك… عش في الـ هُنا والآن..
وارض بما فات فإنّه من قدر الله المكتوب عليك أزلًا من قبل أن تُخلق،
وتدبّر في حكمة ما أقامك الله فيه، وسله أن يفتح علينا وعليك فلعلك تفهم وتُفهّم!
ولا تتمنّ ما ليس لك به علم، وسلّم لتقدير الحكيم سبحانه لحياتك بلطفه وعلمه، فإنه يعلم ولا نعلم، ويقدر ولا نقدر، وإنه لا حول لنا ولا قوة إلا به.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى