تأملات في ديناميكا التفاعل الحضاري

أحمد محمود
تتميز مرحلة التماس الحضاري الأولى أنها استكشافية صادمة، بمعنى أن الحضارتين المتماستين تقفان كل واحدة منهما على حقيقة وعمق الثقافة المنتجة لهذه الحضارة
درج الكثيرون على مقاربة التاريخ من جهته السياسية، الحولية منه وغير الحولية، وهي على أهميتها أكثر المقاربات تعلقا بالصراع والحروب ولا تتيح للمرء أن يرى بوضوح ملامح التفاعل الحضاري في التاريخ الإنساني.
للتاريخ وجهة أخرى مرتبطة بالتداول الحضاري بين الأمم تتناول في معظمها مسار المعرفة في نشأتها وانتقالها وإبداعها والإضافة إليها بين الدول المختلفة، وقليل منها يتناول مسار المنتجات غير المعرفية لأمم الأرض. أود هنا أن أضيف لهذه القراءة الحضارية للتاريخ (باختصار أرجو ألا يكون مخلا)، ملمحا مهما في فهم مسار الحضارة وأدوار الأمم فيها، وهو يتعلق بالتفاعل الحضاري أو ما يمكن تسميته بالديناميكا الحضارية.
من خلال هذا المنظور التفاعلي تعتبر مرحلة التماس الحضاري أولى مراحله، وفيها تلتقي حضارتان على أرضيات شتى ما بين استكشاف أو تعاون أو احتلال أو غيرها، يكون ظاهر هذا التماس تبعا لأرضية اللقاء (تبادلا تجاريا أو حربا ضروسا مثلا) أما باطنه فهو بداية توتر حضاري لا يهدأ حتى يبلغ حالة اتزانه، يجافي هذا النسق التفاعلي (تماس فتوتر فاتزان) ما طرحه البعض في إطار صدام الحضارات حيث يؤول التفاعل فيه إلى صراع صفري لا أحسبه دقيقا أو صحيحا.
تجافي هذه القراءة أيضا الطرح المثالي الداعي إلى أن الحضارات يكمل بعضها بعضا في إطار هادئ وكأنهم فريق في مسابقة عدو يسلم أعضاءه الراية لبعضهم البعض سعيا لفوز جماعي، دعونا إذا نلقي بعض الضوء على هذه الديناميكية المقترحة لفهم بعض أوجه هذا التفاعل الحضاري.
تتميز مرحلة التماس الحضاري الأولى أنها استكشافية صادمة، بمعنى أن الحضارتين المتماستين تقفان كل واحدة منهما على حقيقة وعمق الثقافة المنتجة لهذه الحضارة فيتبين ما يمكن أن يوصف بالفراغات المعرفية والفنية والقيمية لدى كل منهما، وبحسب هذه الفراغات كما وكيفا تكون الصدمة المبنية على الهوة الحضارية.
ثالث مراحل الديناميكا الحضارية والتي يصل فيها هذا التوتر بعد طول جهد ومحاولات نفوذ ومقاومة ومدافعة من الطرفين إلى حالة من التوازن الوقتي بين هاتين الحضارتين حتى تدور دورة تفاعلية أخرى. هذا التوازن يأخذ أشكال مختلفة ومددا زمنية متفاوتة اعتمادا على عوامل ثقافية وزمانية ومكانية عدة
يتبع هذا التماس ونتائجه توتر ناشئ عن محاولة كل حضارة النفوذ إلى هذه الفراغات من خلال منتجاتها وتعتمد هذه النفاذية على عدة أمور، منها قوة المنتج النافذ وحجم الفراغ الذي يُراد ملؤه وكذلك مقاومة الحضارة المستقبلة من خلال تفعيل ثقافتها لتستوعب هذا النفوذ. يجدر بالذكر هنا أن هذا التوتر كثيرا ما يكون ناتجا عن محاولات نفاذية في الاتجاهين (من وإلى كل من الحضارتين المتماستين)، فلا يتصور حضارة مصمتة بلغت من الرقي ألا تحتوي على أي فراغ حضاري ممكن ملؤه من وعاء حضاري آخر.
هذه الملاحظة تقودنا إلى ثالث مراحل الديناميكا الحضارية التي يصل فيها هذا التوتر بعد طول جهد ومحاولات نفوذ ومقاومة ومدافعة من الطرفين إلى حالة من التوازن الوقتي بين هاتين الحضارتين حتى تدور دورة تفاعلية أخرى.
هذا التوازن يأخذ أشكال مختلفة ومددا زمنية متفاوتة اعتمادا على عوامل ثقافية وزمانية ومكانية عدة. ولا ينبغي أن يقودنا تسمية هذه الحالة بالتوازن الحضاري أن نظن أن العلاقة المتزنة هنا متكافئة، فقد تكون كذلك إذا كانت الحضارتان ذواتي منتجات حضارية تستطيع فرض نفسها عند خصومها، ولكن كثيرا ما يكون هذا التوازن في إطار من سيطرة واحدة على الأخرى أو على شكل استلاب حضاري يدفع نحو استهلاك في اتجاه واحد.
وكذلك لا ينبغي أن نظن أن التوازن الحضاري يستدعي تكافؤا كميا في عدد النفوذ الحضاري للفراغات سابقة الذكر وكأننا نرى كفتي ميزان، بل التوازن مبني على التأثير الحقيقي لهذه المنتجات وفاعليتها القادرة على القضاء على توتر المقاومة من خلال الاستيعاب أو الانسجام.
أحد الأمثلة لهذه الديناميكية الحضارية هو المشهد الكلي المختصر لتماس المغول مع الحضارة الإسلامية الذي كان ظاهره دمويا عنيفا كما هو معلوم، ولكن الفرق الحضاري لصالح الأخيرة مكنها من استكشاف العديد من الفراغات داخل نسق المغول الثقافي فاندفعت تملؤها معرفيا وفنيا وقيميا، والأخرى تدافعها بسلطان القوة ولكن أنى لسلطان السيف أن يصمد أمام طغيان الحضارة، وبعد حوالي 3 قرون كان الاتزان حاصل في مشهد تاريخي نادر حيث استلب المغلوب الغالب حضاريا ودارت رحى الحضارة دورتها من جديد.
بل نجد ملمحا من هذا النموذج في قصة النبي سليمان وملكة سبأ (بلقيس) التي قص علينا القرآن بداية هذا التماس على يد الهدهد الجوال وكيف نشأ توتر القوى بين المملكتين الذي حسم بلا منازعة لصالح أعظم ملوك الأرض قاطبة، في مشهد مهيب لنواحي القوة والعلم التي نفذت إلى فراغات سبأ فأتت مسلمة بملكتها لرب سليمان عليه السلام، وليكون هذا التسليم من أروع مظاهر الاتزان الحضاري إن شئنا أن نستخدم هذا المصطلح في هذا السياق.
مشهد آخر من التماس السلمي الذي أدى إلى توازن حضاري مزدهر بدأ باستكشافات تجارية لجموع من التجار المسلمين من جنوب جزيرة العرب إلى أراض الشرق الأفريقي الساحلية، وأدى التوتر الناتج عن التميز القيمي والفني والمعرفي لثقافة الوافدين إلى رغبة أهل الشرق الأفريقي الساحلي في تسهيل النفاذ الحضاري لأهل اليمن وعُمان، ليحصل التوازن الهادي والمتكامل بعض الشيء في شكل دول وسلطنات ارتقت بالأمتين ومازجت بينهما، كما هو الحال في مملكة إيفات وسلطنات باتي وجزر القمر على سبيل المثال.
أنا أزعم أن هناك فراغات عدة في الحضارة المادية القائمة الآن في أبعادها المعرفية والفنية والقيمية، فتحتاج الإنسانية إلى استكشاف هذه الفراغات وليتسابق أهل الحضارات في التماس مع ما هو قائم بمنتجات حضارية منطلقة من ثقافة مغايرة لهذه السائدة الآن، ولتسعد البشرية بما سينتج من توترات إيجابية لملء هذه الفراغات
الديناميكية المقترحة تأخذ شكلا أكثر عمقا وتعقيدا حين نحاول استقراءه في تماس حضارتين متقاربتين في قوة الثقافة المنتجة لهما وكذا منتجاتهما، مثل الحالة في الصراع بين شمال وجنوب المتوسط باختلاف اللاعبين الحضاريين، وكذلك في التماس المستمر في الشرق الآسيوي بين حضارات اليابان والصين المتعاقبة.
في هذه الحالات تأخذ المراحل الثلاث أحوالا مختلفة بداية من شكل التماس المراوح بين السلم والحرب وكذا التوتر على أصعدة متباينة في ميادين الفكر والفن والقيم، لاختلاف أشكال وقوة منتجات هذه الثقافات، وأخيرا التوازن المؤقت الذي تتبادله الأطراف ويتشكل في أطر من السيطرة والتبادل والتكامل في أحيان كثيرة.
لا أريد أن أغرق في التمثيل الهندسي لهذه الديناميكية (والعلوم يستأنس بعضها ببعض) ولكنها قريبة في معناها العام من نظرية الأواني المستطرقة، حيث تماثل حالة التوازن الحضاري النهائية بعد النفاذ إلى فراغات الثقافة المختلفة كما وكيفا بين الحضارات حالة السوائل التي تنفذ إلى أواني مختلفة أيضا حجما لتصل إلى حالة من التوازن أو الاستطراق، وكما أن العامل المؤثر في عملية الاستطراق ليس حجم الآنية بل ارتفاع السائل كذلك فإن النفاذية إلى فراغات الثقافة ليست بكم ولا حجم المنتجات الحضارية، بل بقوة تأثيرها وقدرتها على استيعاب الزمان والمكان.
ختاما، أنا أزعم أن هناك فراغات عدة في الحضارة المادية القائمة الآن في أبعادها المعرفية والفنية والقيمية، فتحتاج الإنسانية إلى استكشاف هذه الفراغات وليتسابق أهل الحضارات في التماس مع ما هو قائم بمنتجات حضارية منطلقة من ثقافة مغايرة لهذه السائدة الآن، ولتسعد البشرية بما سينتج من توترات إيجابية لملء هذه الفراغات، بل وسحب بساط القيادة الحضارية حال الوصول إلى الاتزان الحضاري الذي ننتظره من تلك الديناميكية.
الفراغ موجود، التماس حاصل والقانون لا يتبدل ولكن أين المنتجات الحضارية النافذة؟
أحمد محمود
أستاذ بجامعة كاليفورنيا وباحث في ملف الحضارة