اسلامياتمجتمع

إله على المقاس..

لماذا وقع زلزال تركيا، وغيره من الكوارث الطبيعية والبشرية؟
لماذا أناس آمنون في بيوتهم نائمون، تهوي بهم تلك البيوت دون سابق علمهم، أو دون ذنب؟
لماذا لا يتدخل الرب ليعيش العالم في سعادة وأمان؟
هل هناك إلهان، إله يقدر الشر، وإله يقدر الخير؟

هذه أسئلة قد ترد عند حدوث مثل هذه الكوارث خاصة عند المصاب بها مباشرة، في جرح أو فقد..
مفاد هذه الأسئلة هو قضية الإيمان بهذا الإله، هل أومن به أم لا؟

قبل الإجابة على هذا السؤال لابد أن نرجع إلى عقد هذا الإيمان وبنوده التي تهم وتخص هذه الأسئلة:

الأول- الإيمان بهذا الإله هو أمر اختياري من حيث الأصل، وليس إجباريا، (فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر) وكل إنسان يتحمل مسؤولية اختياره، كالطالب الذي يريد أن يجتاز سنة دراسية، فله الاختيار في برنامج تلك السنة ومدى استعداده وعدمه لاختبارات تلك السنة، سواء الاختبارات الموعودة، أو الاختبارات المفاجئة، ودرجة السيرة والسلوك، والمشاركة في القسم أو الفصل..فهو في كل ذلك مختار..
فهو دعاك إلى الإيمان، عن طريق النظر والتفكر، وأرسل لك رسلا ناقشوا وحاوروا ودعوا وبينوا، وأنت تختار وترجح وتتحمل مسؤولية ذلك الاختيار أو الترجيح..

ثانيا- لما دعانا هذا الإله إلى الإيمان به، لم يقل لنا بأنه من آمن، لن يمرض أو لن يموت، أو لن يفشل، أو لن يبتلى، -والبلاء مصاب غير مفهوم العواقب- أو سيحقق له كل ما يريد، بل قال (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا، وهم لا يفتنون) إذن فليس هناك وعد مضمون مسبق بهذه الأمور..

ثالثا- الإيمان مبني على عدم إدراك كل شيء، فهذا الإله لما دعاك إلى الإيمان، لم يقل لك في عقد الإيمان، سأقول لك كل شيء، سأفهمك كل شيء، ستطلع على كل شيء، فلو قال لنا هذا عندها حق لنا أن نعترض.. ولكن هذا الإله، أول ما أمرنا أن نؤمن به، هو الإيمان بالغيب، ذلك الغيب الذي يخبرنا به هو، والذي يمكن أن ندركه لاحقا، ويمكن ألا ندركه، يمكن أن نتوصل إلى علله، ويمكن ألا نتوصل إلى علله، هذه هي عقدة الإيمان التي أخبرنا بها ووضحها لنا، وهذا ليس بغريب ولا عجيب، فأنت في وظيفتك قبلت بها وتعمل فيها وكثير من الأمور والملفات تمر عليك، ولا تفهمها ولا تدركها، وليس من واجب مديرك أو صاحب العمل أن يفهمك كل شيء، وكل التفاصيل، وكذا الأمر في علاقة الأب مع ابنه، وفي علاقة الأستاذ مع التلميذ..فإذا التزم الإنسان منذ أن يستيقظ ألا يتحرك حتى يفهم كل شيء من حركاته أو حركات غيره لما تحرك أصلا ولجمدت الحياة..

رابعا- الإيمان في الأصل كلي وليس جزئيا تفصيليا، فأنت تنطلق من المشاهدات ومن الأدلة لتكون قناعة ويقينا وثقة، وبعدها يكون الاستمرار وفق ذلك اليقين الأصلي الذي يزيد وينقص في فروعه ولا ينعدم وينقرض، فكلما كان التفكر وتقليب النظر وفق بنود عقد الإيمان زاد ذلك اليقين كما وكيفا..

خامسا- الإيمان مبني عن منطق الله ومفهومه، وليس على منطق البشر، فالله عزوجل لما دعاك إلى الإيمان، دعاك وفق منطقه هو، وليس منطقك أنت، لذلك إن اخترت أن تؤمن به، فلابد أن تفهم عنه وتتعلم منه معالم ومفاهيم ذلك الإيمان، لما يتحدث عن الشر أو الخير أو الحياة الطيبة أو الحياة التعيسة أو الدنيا أو الآخرة أو الموت، كل ذلك ينبغي أن تفهم منطقه فيه، وهذا المنطق يمكن أن تفهم كل أجزائه أحيانا، أو أغلبها أو بعضها أو أقلها، وأحيانا يمكن ألا تفهم شيئا منها، فهو لم يعدك بأنه سيفهمك كل شيء، لذلك لابد من احترام هذا المنطق إن اخترت الإيمان..

سادسا- حقيقة الموت، لم يعدنا هذا الإله، بأن وفاة كل منا ستكون في عمر كذا، بل أخبرنا بأن موعد الموت غيبي ومختلف، وأغلبه بعد تقدم السن، وهذا هو الواقع، كما أنه لم يخبرنا عن سبب الموت أو طريقته، (إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) فقد يكون سببا سهلا في الظاهر صعبا في الغيب، سهلا في الظاهر والغيب، صعبا في الظاهر والغيب، صعبا في الظاهر سهلا في الغيب..

لأن نظرنا نحن قاصر على ألم ذلك الجسد كسرا أو حرقا أو هدما أو غرقا أو سلامة، إلا أن الإنسان ليس بجسد فقط، فهو جسد وروح، وما يجعل إحساس ذلك الجسد هو تلك الروح، وبالتالي فحال تلك الروح ألما أو سلامة لا يمكن أن ندركه بالعين المجردة، إذ قد تتألم الروح والجسد سليم..

ولاشك بأن الموت مصيبة، ولكن للمصيبة هنا معنيان: معنى بشري وهو لوعة الفراق والفقد والتأثر، قد أثبت هذا الإله هذا المعنى فسمى الموت مصيبة، وهناك معنى آخر لمصيبة الموت، وهو مفهوم إله، قد لا نشعر به حسا، وهو حينما يفقد الإنسان حياته وهو في كفر أو معصية أو ظلم، وإن كانت طريقة موته عادية دون ألم..لذلك كما سبقت الإشارة إليه لابد من الإيمان وفق منطق هذا الإله.

ومن هنا نفهم وندرك بأن الإيمان بهذا الإله ليس وفق ما يطلبه المشاهدون، أومن بك، ولكن إن فعلت بي كذا وكذا فإنني أسحب إيماني، والآخر يقول: لن أومن لك حتى تفعل كذا، والآخر يقول: لن اومن بك حتى تطلعني على كل شيء، أو حتى تستأذنني فيما تفعل..

ولنفرض أن الإيمان كان بهذه المنهجية، والبشر ملايين وملايير الآراء والأمزجة والقرارات، كيف سيكون حال هذا العالم، !!!

والله عزوجل يقرر هذا المعنى في قوله من سورة الإسراء:
{وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا* أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرأه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً* وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً* قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكًا رَّسُولاً* قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} (90ـ96).

وهنا نستذكر قصة موسى والخضر في مشهد السفينة والغلام، إذ يمثل فعل الخضر هنا، فعل القدر، فخرق السفينة مصيبة وشر ظاهري، ولكن المصاب أدرك خيره بعد حين..

وقتل الغلام شر ظاهري وظلم وإجهاض للطفولة وحرمان للأم من الأمومة، وللأب من الأبوة، وتدمير للآمال الطموحات والأحلام، ولكن المصاب بهذه المصيبة، سواء الأبوان أو الطفل الذي مات لم يدرك حقيقة هذا المصاب وتفسيره نهائيا، فقد مات الأبوان دون إجابة على هذا السؤال: لماذا قتل ابني؟!

لذلك كلما حل مصاب أو كارثة فردية أو جماعية، لنعد إلى قصة موسى والخضر لنفهم منطق هذا الإله في قضية القدر..
فقضية القدر عبارة عن خيوط متشابكة تشابكا معقدا من حيث السببية ومن حيث المآلية، ومن حيث التأثر والتأثير الماضي والحالي والمستقبلي..

لذلك أمرنا أن نؤمن بالقدر خيره وشره، مع محاولة فهمه مع استصحاب منطق صانعه ومقدره، ونحن مكلفون بفعل الخير والحرص على الخير والعمل بالخير، القطعي منه والراجح، والانصراف عن الشر القطعي منه والراجح، حسب فهمنا واجتهادنا مستنيرين بمنهج الله ومنطقه..

ومن الظلم أن نترك كل تلك المشاهد والوقائع والحقائق الدالة على اللطف والرحمة والكرم، وأن نقف عند بعض الصور التي
لم نفهم كنهها وحقيقتها (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن آخرة هم غافلون) ومن الحيف والظلم أن نخلط بين فعل الله وقدره، وفعل البشر واختياره (قل هو من عند أنفسكم)
فربنا وإلهنا ليس إلها على المقاس!!!

وهنا أدعو القارئ الكريم إلى قراءة مقال سابق لي سميته إياك ألا تذكر إلا ألم الالتواء..

الحمد لله رب العالمين

سفيان أبوزيد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى