
هو الحاج محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن العباس بن محمد السرغيني الفطناسي مولدا، المراكشي الباب بيلاني منشأ..
شجرة وسلسلة من الصالحين والعلماء وأهل القرآن والإيمان..
ومن جهة أمه السيدة الصالحة المباركة أم زهور غزالة رحمها الله من قبيلة أيت غزالة السرغينية، التي كانت معروفة بالمشيخة القبلية والحكم..
عاش عيشة بسيطة كباقي أقرانه، بدأ حفظ القرآن عند جدي الفقيه سي محمد السرغيني رحمه الله إلى أن وصل إلى سورة طه، وبعد أن رحلوا إلى مراكش التحق بالمدرسة، وتدرج فيها إلى المرحلة الثانوية، عندها خرج إلى ميدان الحياة، إلى أن تزوج وتوظف في شركة باهية بلاستيك، فترقى فيها إلى أن اعتلى كرسي إدارتها، بقي كذلك إلى أن أحيل إلى التقاعد، إلا أن في ثنايا تلك الحياة على بساطتها دروسا لا يؤبه لها، شكلت شخصية وكيان هذا الأب المدرسة، نهلت أنا وإخوتي شيئا من دروسها ومقرراتها ومعانيها وقواعدها ومبادئها، فأكرمنا بذلك غاية الإكرام، وإن كنت لم أوفيها حقها ومستحقها من التطبيق والإعمال، نسأل الله التوفيق والسداد والإمداد..
وهذا نزر يسير ألهمت إلى كتابته في هذه الكلمات، لعلها تكون شهادة حق، وكتابة صدق، وبصمة بر واعتراف أمام ذلك الأب العظيم، واغتراف من معينه الكريم..
وأنا هنا لا أكتب مادحا فقط، وحق لي أن أمدح أبي، فمدح الوالدين من أبر البر، ولكن زيادة على ذلك أريد أن أؤصل العلوم والمعاني التي تعلمتها في مدرسة أبي، لعل الله ينفع بها غيري، وكل منا يمكن أن يدون علوما ومعاني تعلمها من مدرسة والديه إن أخلص واعترف وتأمل وتدبر..
أما مدرسة أمي فسأخصص لها مقالا لائقا رائقا إن شاء الله تعالى..
أول ما استوقفني في تلكم الشخصية، هو أنه أستذكر أنني سمعت منه ورأيت منه معاني ودروسا وتوجيهات وإرشادات، تدرس اليوم، في الدورات التربوية والبرامج التأهيلية، وتكوينات الذات، رغم أنه لم يدرس ذلك لا في مدارس، ولا في جامعات، ولا في معاهد، ولا أخذ في ذلك دورات، وإنما هو الصدق والتعلم الفطري الممارس، مع يقظة ونباهة، واستثمار للتجارب، وهنا أذكر مقالا كنت كتبته قبل سنوات بعنوان ” صحابة القرن العشرين ” وكنت أعني بذلك جيل الآباء والأمهات، الذين ربوا وضحوا وعلموا ووجهوا وأدبوا منطلقين من لا شيء، مع ضعف الإمكانات والإسهامات..
فسبحان من يلهم عبده رغم انعدام وانقطاع سبل ووسائل التعلم..
إلا أن الدرس المستفاد من هذه الوقفة، هو أن إمكانية التعلم وتقويم الذات، وتحقيق الأهداف، لا يقتصر على قاعة الدرس، والمدرس والسبورة ووسائل التعليم المعروفة، وإنما يمكن ذلك بشتى الطرق، من الكبير والصغير، والقريب والبعيد، والجار والأستاذ والعابر، والأسرة والقرين والأخ ومن التجارب والمحاولات والفشل والإخفاقات والنجاحات، وكل من يمكن أن تكتسب منه خبرة أو علما أو فائدة، أو فكرة أو نصيحة أو إرشادا، ولكن هذا يستلزم من الشخص عزما وحزما ويقظة وتنبها، وبحثا وإرادة قوية وإصرارا..
هذا كله كنت أستشعره في أبي وفي غيره من صحابة القرن العشرين، الذين بذلوا وضحوا ووقعوا على بياض، فاستطاعوا أن ينتجوا جيلا من القامات العلمية والعملية مع ضعف الإمكانات..
ومما علمني أبي الوفاء..
الوفاء لكل وعد أو واجب أو التزام..
رأيت الوفاء في زوجيته، فقد مضى منها ما يزيد على الخمسين سنة، فما حل ولا ارتحل إلا وأمي بجانبه، سواء كان سفرا داخليا أو خارجيا، فما حج إلا والوالدة معه، وما اعتمر إلا والوالدة معه.. بل لا يطيب له سفر ولا عمرة إلا بالوالدة بجانبه.. وهذا وفاء وأي وفاء..
رأيت الوفاء في أبوته، منذ أن عقلت، وأنا أشعر بأبوته، وأراه يمارس أبوته بكل وفاء، ما تخلى عنها قيد أنملة، وإلى لحظتي هذه مع جميع أبنائه، ترى فيه الأب الحامي الحاني المكرم الحريص المتابع الناصح الحامل للهم المتفاني في ممارسة أبوته وإن صرنا آباء..بل أبوته تفيض على أحفاده إكراما وتلطفا..
رأيت الوفاء في بنوته، بقي وفيا لأبيه احتراما وإكراما حتى وافته المنية، ورأيته وفيا لأمه مكرما لها منفقا عليها، حتى وافتها المنية في بيته..
رأيت الوفاء مع أسرته، فلا يطيب له خروج إلا مع أسرته، وتنزه ولا استجمام إلا مع أسرته، ولا سفر إلا مع أسرته، ولا مبيت إلا في بيته..
رأيت الوفاء في دينه، حريص على تطبيق السنة، والدعوة إليها، وتعظيمها ومحبة علماء السنة قاطبة، مصل داع، لا يفوته قيام ليل..
رأيت الوفاء في عمله، ما رأيت مجدا مجتهدا محبا لعمله مثله، ما رأيته تأخر أو تخلف يوما إلا لعذر أو طارئ، يعطيه كل فكره وطاقته وإمكاناته..
رأيت الوفاء في علاقاته مع أصدقائه وأقاربه لا يخلف وعدا، ولا يخلي مكانا يجب أن يكون فيه، منفقا مساعدا معينا مضيافا مكرما..
رأيت الوفاء في مواعيده، ما رأيته قط تخلف عن موعد، بل كان يعلمنا كيفية ضبط المواعيد والحفاظ عليها، واحترام الموعود معه، والخروج قبل حين الموعد بالوقت الكافي الذي يوصلك إلى مكان الموعد في الوقت المتفق عليه، مع اعتبار أي طارئ يمكن أن يحدث..
إلى غير ذلك مظاهر الوفاء التي رأيتها وخبرتها من تصرفاته..
ومما علمني أبي الصدق والإخلاص
الصدق ثمرة الإخلاص، فلنبدأ بالبذرة أولا..
رأيت الإخلاص في علاقته مع ربه في عطاءاته وصدقاته لا تعلم يساره ما انفقت يمينه..
رأيت الإخلاص في عمله، لا يدخر جهدا، ولا يبخل بكل ما يمكن ان يكون في صالح ذلك العمل ماديا ومعنويا..
رأيت الإخلاص علاقته مع الغير، يبذل الغالي والنفيس لصالح تلك العلاقة وبقائها، وغض الطرف عن تعسفها..فيكرم ويصلح ويسأل ويصل..
رأيت الصدق في كلامه، فما رأيت منه كذبة قط..
رأيت الصدق في فعله، إذا فعل أمرا فعله بصدق وتفان..
رأيت الصدق في علاقته فلا خداع ولا مكر ولا تحايل ولا تضليل..
ومما علمني أبي الشجاعة والشهامة
رأيت الشهامة في إقدامه لنصرة مظلوم، أو نجدة مستنجد، فلا يتأخر مهما كانت العواقب، مرة صحبنا أنا وتوأمتي، ونحن صغار لم نتجاوز الثامنة تقريبا، صحبنا إلى سوق الجملة (القاعة) وعودنا حفظه الله أن يشتري لنا من المحلبة شيئا نأكله- وكنا ننتظر تلك الخرجة من أجل ذلك المشترى- مرة ونحن في المحلبة، دخل مدمن سكير يتسول، لم يعطه أحد شيئا وكان في المكان رجل وزوجته، فطلب ذلك السكير من ذلك الرجل صدقة فامتنع عن إعطائه، فأخذ يسبه ويشتمه أمام زوجته، فتدخل الوالد حفظه الله وحماه من كل سوء بكل شجاعة وشهامة، فدفعه إلى خارج المحل فانهال عليه ضربا لولا تدخل المارة..والمواقف على هذا كثيرة..
رأيت فيه الشجاعة، في الحق وفي تطبيق الحق، وفي النصح، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي التذكير..
ومما علمني أبي النزاهة والعزة..
رأيت النزاهة من خلال أخبار مسؤوليته وعمله، فقد كان مدير شركة لعقدين من الزمن ويزيد، قد مرت في صفاء ووضوح ونزاهة وكفاءة وحكمة وحسن تدبير، وهذا مشهود له به من كل من كان موظفا أو عاملا فترة إدارته، ومن طرف كل زبائن الشركة وعملائها، مؤخرا كنا في مناسبة، فالتقى مع أحد أولئك العملاء، فأخذ يثني ويمدح ويتحسر على انقضاء تلك الفترة..
رأيت العزة في نفسه تجاه أي إغواء مادي أو معنوي، فلا تستعبده المادة، ولا يستهويه المنصب، فقد فر فرارا من مسؤوليته، رغم حرص أصحاب الشركة على بقائه واستمراره، ولكنه آثر الراحة والقناعة، والإقبال على ما يصلح وينفعه في هذه الفترة، قضى إدارته في كفاف وعفاف، دون تطلع ولا استجماع متمثلا مستحضرا معاني قوله تعالى(قل بفضل الله وبرحمته، فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)
عزة عن الذل، عزة عن الحرام، عزة عن الاستهواء..
مما علمني أبي.. الكرم والأناقة
رأيت الكرم في يده، فلا يخلو الببت من وافد أو مقيم أو مار أو ضيف أو نزيل..دون منِّ أو تفضل أو رجاء مصلحة، يكرم بما وجد وما لم يجد، المهم أن يأنس ضيفه ونزيله ويرتاح ويفرح..
رأيت الكرم في نفسه وخلقه، يعفو ويصلح ويبادر ويغض الطرف، ويؤدب بذلك، لا يربي على انتقام ولا على حقد، ولا على بغض، ولا على قطيعة..
رأيت الأناقة في ملبسه، في تقليديه وعصرييه، أناقة منقطعة النظير، في الزمان والمكان والحال، فلكل زمان لباسه، ولكل مكان لباسه، ولكل حال لباسها، مع تنسيق وإبداع ترى من خلاله جمالا وبهاء..
رأيت الأناقة في منطقه، ما سمعت منه بذاءة قط، ولا لفظا سوقيا، ولا تعبيرا رديئا، علمنا اختيار الكلمة، والاشمئزاز من البذاءة، وإعطاء كل ذي حق حقه، فالكبير له اسلوبه، والقرين له أسلوبه، والقريب له أسلوبه، والبعيد له أسلوبه، علمنا منهجية (قل ولا تقل)..
مما علمني أبي.. الاستقامة
رأيت الاستقامة في كل أحواله، ما رأيت منه موقفا خادشا منذ أن عقلت..
كان يمارس أبوته بكل مسؤولية، فلا سهر ولا تأخر ولا كذب ولا خداع ولا إخلاف.. بنى أسرته على الوضوح، والاعتدال، والثقة، فلا تقتير، ولا تبذير، ولا إسراف، ولا تضجر ولا تكلف ولا تكليف..
هذا نزر يسير مما رأيته في مدرسة أبي، إلى مقال آخر أذكر فيه باقي دروس وعبر ومعاني تلك المدرسة الرائعة..
حفظك الله أبي وسدد خطاك، وجعل ما بذلته وتبذله في ميزان الحسنات، وزيادة في الصحة والعافية والبركات..
سفيان أبوزيد