الاستخبارات الصينية.. كيف تحول شعبا بأكمله إلى جواسيس؟

بقلم : محمد السعيد

“إذا كان الشاطئ هدفا للتجسس، فإن الروس سيرسلون غواصات وضفادع بشرية في ظلام الليل وبسرية كبيرة سيقومون بجمع دلاء من الرمال وإعادتها إلى موسكو، أما الأميركيون فسيستهدفون الشاطئ بالأقمار الصناعية وينتجون رقاقات من البيانات، فيما سيرسل الصينيون ألف سائح مهمة كل منهم جمع حبة رمل واحدة، وعندما يعودون سيطلب منهم تسليمها وسينتهي بهم الأمر لمعرفة المزيد عن الرمال أكثر من أي جهة أخرى”

لم يكن بإمكان أحد أن يرصد أي أمر مثير للريبة بشأن “تشي ماك” الذي يحمل جميع العلامات المميزة التقليدية للأميركيين من ذوي الأصول الصينية، مع قامة قصيرة نسبيا ووجه آسيوي الملامح، وفرط في النشاط لا يتلاءم مع عمره الذي جاوز الستين، ووظيفة تقليدية نسبيا في “باور باراغون”، إحدى شركات الدفاع متوسطة المستوى التي تقوم بتطوير أنظمة الطاقة لصالح البحرية الأميركية، في “أنهايم” بولاية كاليفورنيا على الساحل الغربي للولايات المتحدة.

هاجر “ماك” إلى أميركا قادما من “هونغ كونغ” في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وكان موظفا نموذجيا في “باور باراغون” منذ عام 1988، وكثيرا ما كان موظفو الشركة يلجأون إليه لحل المشاكل التي تواجههم، أما خارج العمل فقد اكتفى “ماك” وزوجته “ريبيكا” بحياة هادئة لم يكونا فيها اجتماعيين بشكل كبير، فرغم مكوثهما قرابة عقدين ونصف على الأراضي الأميركية، كانت “ريبيكا” تتحدث بإنجليزية ضعيفة، ولم تكن تذهب لأي مكان دون زوجها باستثناء ربما جولات تقليدية حول الحي في الصباح.

كانت المصادفة، والمصادفة وحدها، هي التي جعلت من ماك وأسرته هدفا ثمينا وسريا لمكتب التحقيقات الفيدرالي “FBI”، من شرع وقتها في التحقيق في سجلات التجسس الصيني على الأراضي الأميركية عام 2001، وهو ما جعل الكثير من الأميركيين من ذوي الأصول الصينية، ممن يشغلون مناصب بارزة في القطاعات الصناعية الحيوية مثل التكنولوجيا والدفاع، جعلهم هدفا للملاحقات السرية، وكان العجوز ذو الأصول الصينية “تشي ماك” أحد أهداف تلك التحقيقات التي بدأت بوضعه تحت المراقبة المستمرة والمكثفة، حيث قام المحققون بتركيب كاميرا خفية خارج منزله في مقاطعة داوني بكاليفورنيا لمتابعة تحركاته وقوائم زائريه، كما قاموا بزرع أجهزة تنصت للاستماع إلى أحاديثه الخاصة ومكالماته الهاتفية.
لم تكشف التسجيلات والمحادثات الهاتفية عن الكثير مما يثير شهية المحققين، باستثناء افتتان ماك وزوجته بالقيادي الشيوعي الصيني “ماو تسي تونغ” الذي رأى الزوجان أنه أُسيء فهمه وتقديره من قبل التاريخ، مثله مثل ستالين على حد وصفهما، وهو ما دفع المحققين لتوجيه بحثهم نحو مرحلة جديدة، واستغلوا عطلة قضاها ماك وزوجته في ألاسكا من أجل تنفيذ اقتحام سري لمنزله عبر فرقة فحص متخصصة تمتلك القدرة على إخفاء آثار التفتيش الدقيق أيضا.

ورغم الأضواء الخافتة، لم يجد المحققون صعوبة تُذكر في رؤية أكوام الوثائق المنتشرة في كل مكان بإهمال، خلف الأبواب وفوق المكتب وحتى على مائدة العشاء، وسرعان ما بدأ الفريق في تصوير الوثائق مع الحرص على إعادتها لوضعها الطبيعي تماما، وثائق شملت تفاصيل أنظمة الطاقة لسفن البحرية الأميركية، ومعلومات عن التقنيات الجديدة قيد التطوير، ورسوم ومعلومات عن غواصات فيرجينيا الجديدة شديدة التطور وتقنيات تسليحها، إضافة إلى إقرارات ضريبية ووثائق سفر وقوائم أسماء للعديد من المهندسين الآخرين من أصل صيني يعيشون في كاليفورنيا.

بالتزامن مع ذلك، وكما روى “يوديجي باتاتشارجي” -الكاتب ذائع الصيت في مجال التجسس والجريمة السيبرانية- في قطعته المطولة بمجلة نيويوركر، كان المكتب الفيدرالي يقوم أيضا بمراقبة “تاي ماك”، الشقيق الأصغر لتشي ماك، وعمل “تاي” مهندسا للبث في قناة فضائية مقرها في هونغ كونغ ومملوكة جزئيا للحكومة الصينية، وكان يعيش في “ألهامبرا” على بُعد 12 ميلا من داوني بصحبة زوجته “فوك لي” ونجليهما المراهقين، وكانت العائلتان تجتمعان كل بضعة أسابيع في المطعم الصيني في ألهامبرا، حيث يوجد عادة العديد من الأميركيين من أصل صيني بشكل معتاد.

كانت المراقبة شاملة ومكثفة ودقيقة، لدرجة أن الوكلاء الفيدراليين كانوا يقومون بفحص نفايات كلتا العائلتين بعد وضعها في صناديق القمامة لعدة أشهر متتالية دون الوصول إلى أي دليل، حتى مطلع فبراير/شباط عام 2005، وبعد عام كامل من بدء المراقبة تقريبا، حين عثرت المحققة جيسي موراي على بقايا ورقة ممزقة مكتوبة باللغة الصينية في قمامة تشي وريبيكا قامت بجمعها وحملها إلى المكتب حيث قامت بتجميعها وإعادة تركيبها لتشكل في النهاية وثيقتين تامتين، كُتبت إحداهما بخط اليد بينما طُبعت الأخرى على الآلة، وكانت الورقة المكتوبة بخط اليد تحوي أسماء غواصات وقطع بحرية أميركية مثل المدمرة “دي دي إكس” إضافة إلى مجموعة من التقنيات والبرامج البحرية، أما الورقة المطبوعة فقد احتوت على تعليمات للذهاب إلى مؤتمرات وأحداث بعينها لجمع المعلومات، وهنا فقط أصبح المحققون الأميركيون على يقين من أن الوثيقتين هما قوائم مهام مقدمة من الاستخبارات الصينية.

لاحقا في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، قام محققو المكتب الفيدرالي بتنفيذ اقتحام سري آخر لمنزل تشي ماك وقاموا بتركيب كاميرا خفية فوق طاولة غرفة الطعام، وفي أحد الأيام التالية تم تصوير مقطع فيديو لماك وهو جالس على الطاولة ويقوم بإدخال مجموعة من الأقراص المدمجة في جهاز كمبيوتر محمول بينما يتحدث مع ريبيكا عن المعلومات التي كان ينسخها، وكان كل شيء متعلق بالتقنيات البحرية، بما في ذلك وثيقة عن محرك أقل ضجيجا وأصعب في رصده للغواصات كان لا يزال قيد التطوير، وهو مشروع كان ماك مسؤولا عنه في “باور باراجون”.

خلال المحادثات اللاحقة، علم المحققون أن تاي وفوك كانا يخططان لمغادرة كاليفورنيا إلى الصين، وفي الوقت الذي همّا فيه بمغادرة الأراضي الأميركية، قامت السلطات باعتقال تاي وفوك من مطار لوس أنجلوس بعد أن عثر معهما على قرص مشفر يحتوي على الملفات التي نسخها تشي ماك، وفي الليلة نفسها تم القبض على تشي وريبيكا ماك، ومع تقدم التحقيقات كانت الحقائق(4) تتكشف شيئا فشيئا، فلم يكن “ماك” مجرد موظف من أصول صينية تم تجنيده بواسطة بلاده، وإنما كان جاسوسا مدربا تم زرعه بعناية من قِبل الاستخبارات الصينية لجمع المعلومات حول أحد أكثر القطاعات الصناعية حيوية في الغرب، حيث بدأ ماك عمله مع الاستخبارات الصينية منذ سنوات عمله في هونغ كونغ، حيث كانت مهمته هي مراقبة تحركات سفن البحرية الأميركية الداخلة والخارجة من ميناء هونغ كونغ خلال حرب فيتنام، وهي مهمة كان ماك يؤديها باجتهاد أثناء عمله في محل خياطة تمتلكه أخته في ذلك التوقيت.
في نهاية المطاف، تمت إدانة ماك وريبيكا وتاي وفوك بالتآمر لتصدير التكنولوجيا العسكرية الأميركية إلى الصين، حيث حُكِم على الأول بالسجن لمدة أربعة وعشرين عاما فيما تلقى الآخر حُكما بعشر سنوات، بينما تم ترحيل فوك إلى الصين ولحقت بها ريبيكا بعد ثلاث سنوات، ورغم إغلاق القضية بشكل نظري، فإنها أحدثت صدى كبيرا في المجتمع الاستخباراتي الأميركي، وسلطت الضوء ليس فقط على الجولات المستمرة من الصراع الاستخباراتي المكتوم بين الصين والولايات المتحدة، والذي لا تزال فصوله ممتدة إلى اليوم، ولكن أيضا على التقاليد والتكتيكات غير المألوفة لأجهزة الاستخبارات الصينية، إحدى أكثر أجهزة المخابرات في العالم كفاءة وتعقيدا، وأقلها شهرة وصيتا على ما يبدو أيضا.

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *