ابن تيمية وابن خلدون وقانون التشبه بغير المسلمين (2)

معتز الخطيب

(الجزيرة)

صنف بعض الباحثين كتاب “اقتضاء الصراط المستقيم” ضمن موضوع “ذم البدع”، وممن فعل ذلك علي العمران الذي حقق ونشر مختصر كتاب ابن تيمية “اقتضاء الصراط المستقيم” الذي صنفه بدر الدين البعلي (778هـ)، وماريبل فييرو (Maribel Fierro) التي كتبت عن “كتب البدع”. ولكن من يقرأ نص ابن تيمية يجده يصرح -في أثناء الكتاب- أن غرضه الأصلي منه مناقشة تشبّه المسلمين بغيرهم في أعيادهم، وأنه إنما ساق جميع مسائل الكتاب لخدمة ذلك الغرض. يقول “وسنذكر -إن شاء الله- أن مشابهتهم في أعيادهم من الأمور المحرمة؛ فإنه هو المسألة المقصودة بعينها، وسائر المسائل إنما [تم] جَلْبها [لـ]تقرير القاعدة الكلية العظيمة المنفعة”، أي قاعدة تحريم مطلق التشبه، سواء كان في المسائل العادية أم الديانية، وهي القاعدة التي حوّلها ابن تيمية إلى خطاب بعد أن كانت مسألة جزئية متناثرة في كتب الفقه.

وصف ابن تيمية بعض الممارسات الاجتماعية التي شاعت في زمنه بأنها تنتمي إلى “نوع جاهلية”، أي كأنها تجاوز لعقيدة الإسلام؛ إذ الجاهلية هنا فكرة ومنهج لا مرحلة زمنية

تحديد موضوع الكتاب ومقصد مؤلفه يُعين على فهمٍ أدق لخطابه؛ فموضوع الكتاب التشبّه، ومقصد مؤلفه تحريم التشبه بأهل الذمة في أعيادهم، وبقية المسائل والتفصيلات إنما هي خادمة لهذه المسألة الأصل. وهذا يقطع الطريق على قراءة أخرى محتملة لخطاب ابن تيمية (728هـ) يمكن أن تضعه في سياق قانون ابن خلدون (808هـ) الذي يقرر فيه أن “المغلوب مولع -أبدًا- بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”. ويمكن أن نميز هنا بين مقاربتين مختلفتين لمسألة التشبه:

مقاربة ابن تيمية التي يمكن أن نسميها مقاربة عقدية-أخلاقية.
ومقاربة ابن خلدون التي يمكن أن نسميها مقاربة نفسية-اجتماعية.
فمقاربة ابن تيمية جارية على طرائق الفقهاء في الاستدلال والتأويل وإن خالفت التقليد المذهبي في الانتقال بالتحريم من علة تعظيم الذمي أو معتقده إلى علة مجرد التشبه به، كما أوضحت في المقال السابق؛ رغم أنه ليس كل مشاركة في الفعل أو الهيئة تقتضي التعظيم، وأن التشبه (تقويمي) غير التشابه (وصفي). وبالإضافة إلى موضوع الكتاب والمقصد الأصلي منه، فإن ثمة 3 مسائل تؤكد أن مقاربة ابن تيمية مقاربة عقدية-أخلاقية:

المسألة الأولى: تأكيد ابن تيمية على السمة الدينية العقدية للمسألة، ويظهر هذا من خلال أمور منها:

وصف ابن تيمية بعض الممارسات الاجتماعية التي شاعت في زمنه بأنها تنتمي إلى “نوع جاهلية”، أي كأنها تجاوز لعقيدة الإسلام؛ إذ الجاهلية هنا فكرة ومنهج لا مرحلة زمنية، ولهذا سعى ابن تيمية إلى تغيير تلك الممارسات التي من شأنها أن تذيب الفوارق بين المسلمين وغيرهم، أي أنه شعر بوجود تهديد عقدي رأى من الواجب مقاومته أو سد الذرائع إليه.
تأكيده أن مخالفة أهل الذمة في الهدي الظاهر توجب المباينة والمفارقة والانقطاع عن “أسباب الغضب والضلال”، أي أن المسألة أبعد من مجرد اعتبارات ثقافية أو حضارية؛ فهي متصلة بمنظور عقدي يتأسس على منظور سلبي لأهل الذمة وعقائدهم من حيث إنها لا تخلو من أن تكون إما منسوخة وإما مبتدعة وإما -في أحسن أحوالها- ناقصة لا تلبي مطالب الكمال العقدي المؤدي إلى النجاة في الآخرة.
تأكيده أن من تمام حياة القلب وكمال المعرفة بالإسلام، إحساسَ المسلم بمفارقة اليهود والنصارى باطنا وظاهرا، أي أن المسألة لصيقة الصلة بنقاء الإيمان وبالتمايز بين المؤمنين وغيرهم في الباطن والظاهر معًا، ومن هنا حرص على الفصل بين سبيل المؤمنين و”سبيل المغضوب عليهم والضالين”.
المسألة الثانية: المنحى الأخلاقي الذي بدا من خلال حرصه على صيانة القدوة أو الأسوة، أو النموذج الذي يُحتَذى (فالسنة هي ما رُسم ليُحتَذى)، وهذا لا يكون إلا للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، فكيف يقع التشبه بأهل الذمة مع ما وُصفوا به من الغضب والضلال؟! ومن هنا صنف ابن تيمية أفعال الذمة إلى 3 أصناف:

ما كان من أصل دينهم ثم نسخ.
أو ما بقي ولكنه متصف بالنقص من حيث إنه طرأ عليه التعديل أو يقبل التعديل.
وما كان من ابتداعهم.
أي أنهم لا يُتصور فيهم الكمال حتى يستحقوا صفة من يُقتَدى به أو يُحتذى فعله، بل حتى “ما هم عليه من إتقان بعض أمور دنياهم، قد يكون مُضِرًّا بأمر الآخرة، أو بما هو أهم منه من أمر الدنيا”. فابن تيمية بدا هنا شديد الحرص على تفنيد أي إعجاب قد يكون للذمة وأفعالهم وعاداتهم، ونقض فكرة إمكان التأسي بهم على أي وجه كان (عاديًّا أو ديانيًّا)؛ لأنه مُخلٌّ بشرعية النموذج الذي يُحتذى وهو السنة النبوية وعمل الصحابة، وهذا لصيق الصلة بمفهوم البدعة لديه، حيث توسع في البناء على “التروك النبوية” على خلاف الأصوليين الذين لا يرون في مجرد عدم فعل النبي صلى الله عليه وسلم لشيء دليلاً لإثبات حكم.

واضطر هذا الاستدلال ابن تيمية إلى الاستعانة بفكرة العادة لدى فلاسفة الأخلاق حين ربط بين الأفعال الظاهرة وأخلاق النفس، حيث يرى فلاسفة الأخلاق في التعود وسيلة لتغيير صفات النفس وأخلاقها؛ وعلى هذه الفكرة تأسست فكرة اكتساب الفضائل. وبناء على أصل هذه الفكرة، بنى ابن تيمية فكرة أن التشبه بالهدي الظاهر يورث مناسبة ومشاكلة بين المتشابهَين، وهذه المشاكلة تسري -بالتدريج- إلى أخلاق الفاعل وصفاته فيتغير طبعه بالتعود، أي أن التشبه بالأفعال يسري إلى صفات وأخلاق النفس، ومن ثم تقود إلى تغيير على مستوى الاعتقادات، وهو الأمر المحذور، وبهذا عاد البعد الأخلاقي (أي المسألة الثانية) إلى البعد العقدي (أي المسألة الأولى)، ومبناه على سد الذرائع، ولكنه استعان فيه بفكرة من الفلسفة الخلقية.

المسألة الثالثة: ربط ابن تيمية مسألة التشبه بأمرين؛ الأول: حالتا الضعف والقوة من جهة درء التعارض بين الأحاديث النبوية وأحاديث تفيد بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه موافقة أهل الكتاب في ما لم يؤمر فيه بشيء، وبين أحاديث النهي عن التشبه. والثاني: معيار المصلحة والمفسدة من جهة التمييز بين التشبه في دار الإسلام وخارجها وتسويغ الفرق بين الحالين.

فمن جهة الضعف والقوة، يختلف تصوره عن تصور ابن خلدون حول التقليد الواقع بين المغلوب والغالب؛ من حيث إن ثنائية الضعف والقوة واردة على شخص المسلم حصرًا في الحالين ووفق منظوره للوضع، بينما ثنائية المغلوب والغالب واردة على وصف الغلبة بغض النظر عمن اتصف به. فابن تيمية يرى أن مخالفة الذمة “لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصَّغَار”، أي في دار الإسلام التي يُحكَم من فيها بالإسلام ولدى المسلم فيها قوة تمكّنه من إخضاع الذمي وإلزامه بالصغار. أما تسامح ابن تيمية في مسألة تشبه المسلم بغيره في غير دار الإسلام، فلأنه في دار لا تحكم بالإسلام وهو فيها في موقع ضعف، أي في بيئة ليس هو من يحدد فيها النموذج الذي يُحتذى. ومن هنا رأى أنه لما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم تُشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا شُرع لهم ذلك.

ومن جهة المصلحة والمفسدة، فإن تميز المسلم على الذمي في دار الإسلام استعلاءٌ بالإيمان وفرض للنموذج الذي يُحتذى، ولكن تميزه في غير دار الإسلام قد يهدد وجوده ويجعله هدفًا للآخرين، ولذلك شرع التشبه بغير المسلم في غير دار الإسلام لدفع الضرر المتوقع، أو لتحصيل مصلحة للإسلام (بدعوة غير المسلمين إلى الإسلام وتذويب الفوارق التي تسهل قبول الدعوة)، أو لجلب مصلحة للمسلمين في دار الإسلام (بدفع ضرر عنهم أو التجسس على عدوهم لصالحهم).

وبهذا اختلف منظور ابن تيمية عن منظور ابن خلدون الذي علق الأمر بمجرد الغالبية والمغلوبية؛ بقطع النظر عمن هو الغالب أو المغلوب، وبغض النظر عن دين كلٍّ وتقويماته الأخلاقية، أي أن ابن خلدون كان يقرر سنة اجتماعية إنسانية عامة (وصفية)، بينما كان ابن تيمية يقرر مسألة شرعية (معيارية).

أما مقاربة ابن خلدون فمدارها على الهزيمة الحضارية حيث التشبه بالغالب يشمل التشبه “بشعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”، أي أننا أمام تحول جذري لا مجرد توافق مع المخالف الديني في بعض الأفعال أو العادات، وهذا التحول إنما يحدث على أساس علاقة الغلبة وكيفية تفسير المغلوب لأسباب الهزيمة والنصر، وهنا يقدم ابن خلدون 3 أسباب لهذه الهزيمة النفسية والتراجع الحضاري:

تعظيم الغالب والخضوع له؛ اعتقادًا من المغلوب بأن الغالب قد بلغ درجة الكمال بغلبته (ومن هنا اقتصر الفقهاء على تحريم الأفعال التي تقع بعلة تعظيم الذمي أو معتقده).
تسويغ علاقة الخضوع للغالب؛ بحجة أن المغلوب إنما انقاد للغالب لأجل أنه متصف بالكمال لا لأسباب طبيعية تتصل بقوانين القوة، فإذا تحولت هذه المغالطة إلى اعتقاد بكمال الغالب، صار الغالب في محل القدوة فانتحل المغلوب “جميع مذاهب الغالب وتشبّه به”.
اعتقاد أن الغالب إنما غلب “بما انتحله من العوائد والمذاهب”، ومن ثم يقع تعظيمه والانقياد له، وهذا راجع إلى السبب الأوّل عند ابن خلدون.
وواضح أن ابن خلدون إنما يتحدث عن التأسي والاقتداء الناتج عن اعتقاد يتمحور حول تفسير أسباب الغلبة وكيفية إدارة العلاقة مع الغالب، وكلها ترجع إلى أسباب نفسية وثقافية ترجع إلى الإيمان بالقوة وتعظيم الغالب أو اعتقاد الكمال فيه، ومن هنا مثّل ابن خلدون لهذا القانون بتشبه الأبناء بالآباء، وتشبه الناس بملوكهم حيث مدار هذه العلاقات على الكمال، والقوة، ووقوع الاقتداء.

فالدفاع عن نقاء العقيدة وصيانة مرجعية النموذج الذي يمثله النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته دفع كل ذلك ابن تيمية إلى التوسع في قاعدة التشبه وطردها لتشمل المسائل العادية؛ لأنها تقود إلى التشبه بالمسائل الديانية، ومن ثم أراد أن يحافظ على مرجعية السنة/النموذج (Moral Model)، بينما كان ابن خلدون معنيًّا بتشخيص الهزيمة الحضارية وكيفية حصولها من منظور نفسي اجتماعي.

ولا بد من التذكير بأنني نقدت منظور ابن تيمية في المقالات السابقة مستندًا إلى التقليد المذهبي الفقهي، ومدققًا في أداوته ومنهجه الذي استعمله لتحريم التهنئة ومجرد التشبه بالذمة من دون تمييز بين العادي والدياني، وبين الفعل الظاهر وبين مقاصد الفاعلين التي تتنوع، ومن ثم فإن النقاش احتمل تأويلات متعددة ووفق منظور أخلاقي أيضًا لا يخل بفكرة الأسوة أو النموذج، ما دمنا نتحدث عن موافقة أو مشاركة في مسائل طبيعية أو اجتماعية أو جزئية محكومة بالأعراف وأخلاقيات المعاملة، ولا تتناول الجانب الدياني (العقيدة والعبادات) الذي يُطلب فيه الوضوح والتمايز.

وفي مشابهة الذمة في الميلاد والخميس والنيروز، ميز الإمام الحافظ الذهبي (748هـ) صاحب ابن تيمية بين 3 مقاصد للناس؛ رغم أنه اعتبر الفعل نفسه “بدعة وحشة”، وهذه المقاصد هي:

التدين: “فإن فَعلها المسلم تديُّنا فجاهل يُزجر ويُعَلَّم”.
الحب والمودة: “وإن فعلها حُبّا [لأهل الذِّمة] وابتهاجًا بأعيادهم فمذموم أيضًا”.
العادة والترويح: “وإنْ فعلها عادةً ولعبًا وإرضاءً لعياله وجبرًا لأطفاله، فهذا محل نظر، وإنما الأعمال بالنيَّات، والجاهل يُعذر ويبيَّن له برفق، والله أعلم”.
ويبدو أن كلام الذهبي هنا تفصيلٌ لمجمل كلامه في الرسالة التي نقد فيها ابن تيمية وسماها “النصيحة الذهبية لابن تيمية”، حيث اشتد في نصحه وانتقد مبالغته في مسألة التشبه بيوم الخميس؛ رغم أن الذهبي نفسه له رسالة عن يوم الخميس يسلك فيها نحوًا من مسلك ابن تيمية ولكن بطريقة وعظية، فكأن له موقفين لا أدري أيهما أسبق زمانًا، أو أن كلامه وارد على غرضين مختلفين: علمي يحرر المسألة، ووعظي يريد حمل الناس على تغيير سلوكهم.

وثمة فارقٌ مهم بين سياق كلام الذهبي السابق في التمييز بين مقاصد الفاعلين، وسياق كلام ابن تيمية في تحريم مجرد التشبه، فكلام الذهبي جاء في سياق الحديث عن البدع، أما كلام ابن تيمية فجاء في سياق الحديث عن التشبه. فالذهبي كان يرى أن البدعة هي “ما لا يأمر الله به ولا رسوله، ولم يأذن فيه ولا في أصله”، بينما توسع ابن تيمية في مسألة التروك النبوية التي هي وثيقة الصلة بمفهوم الأسوة أو النموذج الذي يُحتذى، ومن ثم توسع في مسألة التشبه. وقد أوضح الذهبي أن النزاع في البدعة إنما نشأ “من جهة قوم ظَنُّوا أن البدعة هي ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون، أو لم يقولوه”، أي أنه يريد أن يفرق بين ما لم يؤمر به أو لم يؤذن به أو بأصله الذي يستوعب جنس الفعل لا الفعل المعين فقط، وبين الترك أي غياب الفعل أو غياب القول المتصل بالفعل أو جنسه. فالثاني لا يستلزم إثبات حكم، ويدخل فيه جنس العاديات التي قد يشترك فيها البشر مع تطور الزمن وتقارب المسافات والأعراف.

لا شك -إذن- أن مقاربة ابن تيمية والذهبي وبقية الفقهاء تختلف عن مقاربة ابن خلدون كما هو واضح، فمقاربتهم تتناول تقويم الأفعال وتنوع مقاصد المكلفين، بل وتنوع أفعالهم، وهي لا تجري على طريقة ابن خلدون الذي كان يتحدث عن تحول جذري وشامل في المجتمعات، وبدوافع هزيمة نفسية وحضارية قوامها علاقة القوة والغلبة بين الأمم أو الحضارات، بل إن التتار الذين وصلوا إلى دمشق ووقف ابن تيمية في وجه قائدهم قازان سنة 699هـ وقال له كلامًا شديدًا، تقلبوا في أحوالهم الدينية، فقد كانوا في الأصل قومًا وثنيين ثم ادّعوا الإسلام فيما بعد، ما يعني أن قانون ابن خلدون ليس مطردًا، فإن من الغالبين مَن تحول إلى الإسلام أو -على الأقل- تظاهر به ليتمكن، ومن هنا يبدو أن ابن تيمية الذي أصدر بعض الفتاوى التي تتناول التتار لم يكن مقتنعًا بصدق إسلامهم كما أوضحت في مقال قديم، والله أعلم.

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".