إنما الفعل بالتفعل … وواقعية الإسلام

ملحوظة: كل كلمة (تفعل) في هذا النص فهذا تشكيلها (تَفَعّل)

من قرأ هذا العنوان تبادر إلى ذهنه الحديث النبوي المشهور
وهو ما رواه الخطيب في تاريخ بغداد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ»

وهو بالفعل الذي استوقفني لاستنطق وزنه الصرفي، وأقعده وأعممه على كثير من الأفعال، وأخلص به إلى مظهر واضح من مظاهر واقعية الإسلام..

كثير من الأحاديث النبوية الجامعة المانعة، نقف عند حرفها وحوضها وضفتها وسطحها، ولا نسبر أغوار معانيها ومراميها ودلالاتها، مما يجعل فوائدها وتأثيرها محدودا ولازما محله..

ورجوعا إلى هذا الحديث (إنما العلم بالتعلم، وإنما العلم بالتحلم)
لندع مادة العلم والحلم حاليا ونقف مع الفعل والتفعل ماليا خالعين لجبة العلم والحلم:
فالتَّفَعّل في اللغة له ثلاث دلالات:

التكلف والصيرورة والإظهار

فلنقف مع كل معنى على حدة:

فالتكلف: من الكلفة وهي المشقة، وهو يطلق على الفعل الذي يحتاج إلى دربة وممارسة ومحاولة ومزاولة ومناورة و مدافعة ومنافحة ومكافحة ومجاهدة ومداهمة ومقاومة..
فهو لا يحصل بيسر، وسهولة وبمعجزة وبخرق وكرامة مبدئية وعطاء او هبة او منحة، بل لابد من دراسة وتسليك وتسلك، وقيام وسقوط واستفادة وإفادة، وحرص وصبر ومصابرة وتصبر، واستنفاد للجهد، واستفراغ للوسع، واستقصاء للسبب، ووقوف على المفاتيح، ومعرفة لكيفية الفتح وإتقان لطرق الاستمرار..

فهو تكلف وكأنك لست من اهله، ولا علاقة لك به، إلا أنك تعمل المستحيل لتتطبع به، وتقتحم اسواره، وتصل إلى كنهه وحقيقته..
هذا هو التكلف

الصيرورة:
أما الصيرورة فهي نتيجة التكلف يقال تفقه الرجل أي صار فقيها، وهنا الحديث عن مآل تلك المصابرة وتلك التضحية، وذلك الجهد المبذول، وذلك الاستقصاء للاسباب، وتلك المحاولات المضنية، وذلك النفس الطويل في سبيل الوصول، دون انتظار لمعجزة، وركون إلى كرامة، وأمل في مخلص منقذ، بل هو انتقال وترق وتطور وتقدم مبني على عمل ودراسة وتخطيط واجتهاد وإن تخلل ذلك إحباط او سقوط او تثبيط أو إعاقة أو علاقة…

وفيه إشارة إلى تحقق الوصول ووقوع التحول والتغيير المنشود، وإن كانت بوادر الصلاحية وإشارات النجاح وآمال الفلاح شبه منعدمة، فقد تكلف من ليس من أهل الشأن حتى صار !!!

وبعد الصيرورة يأتي:

الإظهار وهو التتويج والفوز والنصر والنجاح والفلاح والإنجاز وإتيان الأكل، والتفعيل والإنتاج والسبق والتقديم والتمييز والاستاذية والخبرة وقطف الثمار وجني الفوائد..

هذا الإظهار والبروز والعلو والتربع على العرش، يكون بالاستحقاق والاختصاص وليس بالوساطة او المختارية أو التفضيل العرقي أو النسبي أو الانتمائي، فهو إظهار ذاتي منطلق من العمق، ومن الاساس المتين، اصلها ثابت وفرعها في السماء توتي أكلها كل حين بإذن ربها..

وحتى يكون للفعل بركته وربانيته وثمرته الدنيوية والأخروية يجب ان يكون في إطار التوكل، والتضرع والاستعانة والاعتراف والانكسار والتبرؤ من اوهام الحول والقوة، والالتجاء والالتزام بالحول والقوة الحقيقية والمطلقة..

بهذا يتم الفعل ويصلح ويصل ويبارك وينفع في الدنيا والأخرى..

لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (إنما العلم بالتعلم) ليؤسس لنا لقاعدة التِّفَعُّل، وأنه لا فعل إلا بتَفَعُّل، ومن أراد فعلا فعليه ان يتَفَعَّله، كائنا من كان، إلا أنه إن تَفَعَّله بربانية أوتي قوة ونفعا وسدادا وإمدادا وصلاحا وبركة وفضلا في الدنيا والآخرة..

وفيه إشارة إلى أنه لا مستحيل مع التَّفَعُّل، كن من شئت إن تَفَعَّلت فعلت ووصلت، وكن من شئت إن لم تَتَفَعَّل لن تفعل ولا ولن تصل.. هذه سنة كونية إلهية لا مفر منها ولا مهرب منها…

وفيه أمل لكل متَفَعِّل، أنك ستصير يوما ما، مادمت متَفَعِّلا، وأنه سيفتح لك الباب ما دمت مصرا..

وفيه تبشير لكل متَفَعِّل بأن تفعلك لن يضيع سدى بل ستصل وتنجز وتنتصر وتتجاوز كل الصعاب والعقاب..

ولا شك بأن هذه العلاقة والطريق بين الفعل والتَّفَعُّل، مفتوحة سواء في جانب الإيجابي أو الجانب السلبي، فمن تفَعَّل فعلا سلبيا وصل إليه، ومن تفعل فعلا إيجابيا وصل إليه..

وهذا ما دلت عليه خاتمة الحديث(وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ)
فمن يتفَعَّل الخير يصل إليه، ومن يتفعل الشر يصل إليه، ومن يتفعل وقاية الشر يوقه..

إلا أن هنالك ثلاث مراتب:

فمن تفَعَّل فعلا سلبيا كان مآله إلى مفاسد ذلك الفعل وإن ظهرت في صورة المصالح، في الدنيا والأخرى..
ومن تفعل فعلا إيجابيا بعيدا عن إطار الربانية اختيارا نال مصالحه الدنيوية وحرم التوفيق والسداد الرباني وحرم من مصالحه الأخروية..
ومن تفعل فعلا إيجابيا في إطار الربانية اختيارا نال مصالحه الدنيوية مع التوفيق والسداد والإمداد الرباني والفلاح في الآخرة..

والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم خص العلم والحلم بالذكر دون غيرهما من الافعال الصالحة، لما يحتاجانه من مكابدة ومواكبة ومجاهدة وتسليك وطول نفس واعتبار وتأمل وتفكر ومحاولة، ولفتح باب الأمل عند كل من يظن بأنه قد فاته قطار العلم أو الحلم أو ليست لديه إمكاناته المادية والمعنوية فإن باب ذلك متاح لمن تفعلهما، ولإبعاد ومحو وإزالة كل أوهام المخلص والمنقذ، والتواكل وانتظار المعجزة والكرامة، بل لابد من تعميق عقيدة السببية والتسبب والتسبيب والأسباب، للوصول إلى المرمى والغاية وإزالة كل الصعاب..

والإسلام لا يربي اهله على الاوهام والخيالات وانتظار المخلصين والمنقذين، والاعتماد على المعجزات والكرامات، واستجابة المرصع من الدعوات، والتميز بالانتماء او العرق او النسب دون تفعل للأفعال وقيام بالأسباب، فمن تفعل فعل، ومن تكلف صار ومن صار ظهر.. هذا قانون الإسلام وهذه سنة خالق الأكوان..

سفيان أبوزيد

شاهد أيضاً

عبد المجيد الزنداني.. حياة حافلة بالعلم والعمل والجهاد

ودع اليمنيون والأمة العربية والإسلامية يوم الإثنين 13 من شوال 1445 للهجرة، الموافق 22 أبريل 2024م علما من أعلام هذه الأمة، وكوكبا من كواكبها، وهاديا من هداتها، ورائدا من روادها، هو الشيخ عبد المجيد بن عزيز الزنداني، العالم العامل، والمجاهد والمربي، والقدوة المعلم، القرآني المحمدي الرباني، صاحب العطاءات الدعوية، والإمدادات التربوية، والجهود التعليمية، والأطوار الجهادية،