هل كان العرب سببا في سقوط الخلافة العثمانية؟

بقلم : موسى الصفدي باحث في التاريخ

بادئ ذي بدئ نتفق أن مصطلح الخلافة انتهى عملياً بانقضاء ثلاثين سنة من وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، القائل: الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً. وقال عليه الصلاة والسلام: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبريا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت”. (صححه الألباني).

أي أن معاوية رضي الله عنه هو أول الملوك في مرحلة الملك العاض، وهي مرحلة استمرت حتى سقوط عبد الحميد الثاني سنة 1909م. كان فيها ملوك صالحون خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وملوك ظلمة فجرة. ولكن إجمالا كان قرار المسلمين مستقلاً، فلا سلطة لأعداء الأمة عليها، وكان الجهاد قائماً، والحاكم وإن كان ظالما لم يكن عميلا للغرب، فهناك نوع من الندية في التعامل مع أعداء الأمة. هذا الحال استمر أكثر من ألف عام طيلة فترات التاريخ الإسلامي، حتى بدأت الدولة العثمانية تضعف نهاية القرن الثامن عشر، حيث بدأت الدول الأوروبية تتدخل بشكل مباشر في سياسات الدولة، وأصبح سفراؤها وقناصلها يؤثرون على قرارات الدولة، والحجة كانت دائماً حماية الأقليات والمصالح التجارية للدول الأوروبية، فكانت الدولة العثمانية رجل أوروبا المريض، حيث تسابق الأوروبيون والروس بقص أطراف الدولة وضمها إلى دولهم، والتدخل المباشر في قرارات السلطان وولاته، حتى أن السلطان عبد الحميد الثاني وجد نفسه مجبراً أن يعترف بشرعية الاحتلال البريطاني لمصر، واعتبار أحمد عرابي عاصياً، لأنه قاوم ذلك الاحتلال.


انتصر الأتراك في معظم المعارك في الحرب العالمية الأولى، ولكن القادة العسكريين الأتراك التابعين للاتحاد والترقي (معظمهم من يهود الدونمة) كانوا يسيطرون على خطوط الإمداد وفجأة انقطع الطعام والسلاح عن جبهات القتال

ونستطيع أن نقول أن القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين يمثل مرحلة انتقالية بين الملك العاض والملك الجبري، الذي بدأ فعليا سنة 1909م عندما سقط السلطان عبد الحميد الثاني بدأت مرحلة الملك الجبري، وهي من أسوأ مراحل التاريخ الإسلامي، ولا نزال نعيشها، إن الدولة العثمانية كغيرها من الدول فيها فترات قوة وفترات ضعف، ولدت ضعيفة فقويت ثم هرمت وماتت حالها كحال كل الدول في التاريخ (حسب نظرية ابن خلدون). ندخل الآن في صلب موضوعنا.. هل خان العرب الأتراك؟ وهل كانوا سببا في سقوط الدولة العثمانية؟ إليكم هذه الحقائق:

1- هناك مبالغة من جميع الجهات بحجم الثورة التي قادها الشريف الحسين، فهي لا تعدو أن تكون حركة تمرد مسلحة مدعومة من قوات الحلفاء؛ فقد كان عدد قوات الشريف أربعة آلاف مقاتل جلهم غير مدربين، مسلحين بأسلحة بدائية، مقاتل بأحسن الأحوال معه بندقية وجـمل، في المقابل هناك دولة تركية واسعة جيشها بمئات الآلاف منهم ثلاثمائة ألف مقاتل عربي. هؤلاء المقاتلون العرب تم أخذهم إما تطوعا عن طريق تحالفات شيوخ القبائل مع الدولة العثمانية مثل تحالف إمارة حائل (جبل شمر) مع العثمانيين، وهي إمارة يحكمها آل رشيد، كانت واسعة وقوية وتضم كثيرا من مناطق وسط شبه الجزيرة العربية. وكذلك تحالف قبائل العراق (السنية) تحت قيادة عجمي باشا السعدون مع الدولة العثمانية وتحالف سلطان دارفور علي بن دينار مع العثمانيين، والسنوسي في ليبيا كذلك، هؤلاء قاتلوا تطوعا مع الدولة، وهناك من تم أخذه جبراً، فيما يعرف بـ (سفربرلك) وجلهم من بلاد الشام.

وهناك من حافظ على الحياد، فكانت تربطه علاقات طيبة مع العثمانيين، مع الحرص على إبقاء قنوات اتصال مع البريطانيين، كحال أمير قطر الذي حرص على إبعاد إمارته عن أحداث الحرب الدائرة. إن المتتبع لمعارك الحرب العالمية الأولى يرى وجودا عربيا قويا في ساحات المعارك وخاصة في كوت العمارة في العراق (1916م)، ومعركة جاليبولي (جناق قلعة) في إستانبول (1916م)، فقد مات ربع مليون جندي عثماني في تلك المعركة منهم سبعين ألف عربي، لا تزال شواهد قبورهم موجودة. إذا مات سبعون ألف عربي دفاعا عن إستانبول، وهناك جيش عثماني قوامه مائة ألف معظمهم من العرب كانت مهمته الدفاع عن فلسطين، فجأة انهار ذلك الجيش بسبب قطع الإمدادات عنه. فانسحبت كتائب منه، ووقعت كتائب كاملة منه في أسر الجيش البريطاني (الذي يضم مائة ألف جندي مصري) وتلك الكتائب المأسورة اختفت، لم يرجع منها أحد، والمرجح أنهم قتلوا جميعاً. إذا أربعة آلاف مقاتل بدوي لا

واحة التاريخ والحضارة:
خبرة لهم بالقتال (مع الشريف)، مقابل مئات الآلاف من الجنود العثمانيين (بينهم ثلاثمائة ألف عربي).

2- كيف هُزم الأتراك؟.. لقد انتصر الأتراك في معظم المعارك في

الحرب العالمية الأولى، ولكن القادة العسكريين الأتراك التابعين للاتحاد والترقي (معظمهم من يهود الدونمة) كانوا يسيطرون على خطوط الإمداد (إمدادات الطعام والسلاح) وفجأة انقطع الطعام والسلاح عن جبهات القتال فانهار الجيش وتوالت الهزائم، إذا هزيمة الجيش كانت بأيدي ضباط أتراك (قوميين ويهود) فلا علاقة للعرب بما حل بالجيش العثماني.

3- ما هي شرعية الثورة على الحكم العثماني؟ الدولة العثمانية كانت ساقطة منذ سنة 1909م، واليهود هم يسيطرون على كل شيء، والسلطان كان دمية بأيديهم.. فكان لا بد من تحرك الشعوب المسلمة وإسقاط حكم تلك الدولة التي ظاهرة دولة عثمانية وحقيقتها دولة قومية يهودية. فلا بد من تحرك الشعوب وحمل السلاح على جميع الأطراف، وإقامة دولة إسلامية جديدة على أنقاض الدولة العثمانية (المنتهية فعلياً)، تقوم على أساس ديني وليس عرقي أو قومي، وأما ما يسمى بالثورة العربية الكبرى، فهي تمرد مسلح محدود الأثر بدأ بأربعة آلاف مقاتل وعندما مالت الكفة لصالح الحلفاء وصل عدد المقاتلين ثلاثين ألف مقاتل، تميزت حروبهم مع العثمانيين بحرب عصابات (الغارات الليلية والهجوم على الكتائب المنسحبة، وتدمير سكة الحديد..).

فهي من حيث الفكرة صحيحة بل واجبة، ولكن أين الخطأ؟ الخطأ يتمثل في جعلها قومية عربية هدفها إقامة دولة عربية في العراق وبلاد الشام وشبه الجزيرة العربية، فالجانب القومي يطغى على الإسلامي. وكذلك من أكبر الأخطاء التعاون مع الإنجليز والفرنسيين، وحسن الظن بهم.. وهذا خطأ اعترف به الشريف الحسين وندم عليه (ولات حين مندم)، فمن الخطأ اعتبار كل من شارك في الثورة أنه خائن، هذا خطأ فادح. فمعظم المقاتلين قاتلوا من أجل المال، ولكن كان فيهم من رأى أنه من الواجب إنهاء حكم الأتراك وخاصة بعد سيطرة القوميين واليهود على الحكم، ولقد سبقت الثورة العربية ثورات كثيرة كلها فشلت، فكان كثير من العرب ينظرون إلى الثورة أنها منقذة لهم من ظلم وتعسف لا يطاق.

4- الأتراك هم من أسقط الدولة العثمانية.. سقطت الدولة بشكل فعلي سنة 1909م بسقوط عبد الحميد الثاني، على يد الضباط الأتراك القوميين (معظمهم يهود)، وهؤلاء الضباط هم سبب هزيمة الجيش العثماني، ثم جاء مصطفى كمال وسمى نفسه أبو الأتراك (أتاتورك) وقضى بشكل رسمي على الدولة العثمانية بالتعاون مع ضباط الجيش التركي، وكان الشعب التركي واقفا يتفرج ما بين مؤيد لأتاتورك، وساخط لا حول له ولا قوة. أما العرب المساكين فتم تحميلهم مسؤولية سقوط الدولة العثمانية مع أنهم قدموا مئات الآلاف من القتلى طيلة قرون دفاعا عن الدولة العثمانية (سبعون ألفاً في معركة جناق قلعة وحدها)، ومن يبحث في أسماء قتلى الجيش العثماني في تلك المعركة يجب أسماء عربية كثيرة مع ذكر المدن العربية التي تنتمي إليها تلك الأسماء.

وختاماً فإن العرب وقفوا مع الأتراك قرونا طويلة في معاركهم مع الغرب، ولكن أطرافاً كثيرة تحاول أن تطمس تاريخ ذلك التعاون، وتعمق الشرخ بين العرب والأتراك، متهمين العرب بأنهم سبب سقوط الدولة العثمانية، مع أن الحقيقة التاريخية الراسخة تؤكد أن الدولة العثمانية كبُرت وهرمت، شأنها شأن كل الدول في التاريخ، فكانت رجل أوروبا المريض، وطيلة قرن من الزمان حاول سلاطينها منذ السلطان محمود الثاني (بداية القرن التاسع عشر) وحتى السلطان عبد الحميد الثاني، إعادة بناء الدولة وإنعاشها، ولكن المرض كان مزمناً، فكان لا بد من إعلان وفاتها وقيام دولة إسلامية جديدة، وهذا هو حال التاريخ الإسلامي، فما أن تضعف دولة مسلمة وتسقط رايتها، حتى تنهض دولة مسلمة قوية وشابة، ترفع الراية، ولكن هذا ما لم يحدث، فما أن أعلن عن وفاة الدولة العثمانية حتى وجد المسلمون أنفسهم في عشرات الدول، تحت احتلال مباشر من أعداء الأمة، وهذا ما لم يحدث طيلة فترات التاريخ الإسلامي.

شاهد أيضاً

غزة بين “عقيدة بايدن” وخطة نتنياهو

بعيدًا عن تداعيات قرار مجلس الأمن الذي صدر أخيرًا، مطالبًا بوقف فوري لإطلاق النار في غزة، والشرخ الذي أظهره في العلاقة بين الإدارة الأميركية، وحكومة بنيامين نتنياهو في إسرائيل، يحسن بنا أن نعود خطوتَين إلى الوراء لمحاولة فهم طبيعة ذلك الخلاف.