الإسلام الآسيوي والإسلام العربي .. فروقات غربية

أحمد الفقي

“الأتراك ينتحرون”، مقولة نسبت إلى مؤسس المملكة الأردنية الهاشمية عبدالله بن الحسين بن علي، قالها عام 1924 معقبا على حل الخلافة العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية العلمانية بزعامة مصطفى كمال أتاتورك، وكان ذلك حدثا فارقا في تاريخ العالم الإسلامي، ومثَّلَ بداية لمعركة متواصلة حتى يومنا هذا على “روح الإسلام”، فقد انتصر الغرب في تلك المعركة على النظام السياسي الوحيد، الذي كان يمثل المسلمين؛ لكنه بدأ لتوه في معركة استهدفت الأمة الإسلامية بروحها العقائدية.

استنادا إلى ما نسب إليه واندفاعا نحو دعم ومساندة أبيه في تأسيس مملكة عربية كبرى خالية من الحكم العثماني، كان زعماء الحركة نحو التحول الى الخلافة العربية، يرون أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان عربيا، والقرآن عربي، والأماكن المقدسة للمسلمين عند العرب؛ لذلك يجب أن يكون الخليفة عربيا، تلك الطموحات كان تغذت من وعود كاذبة من الإنجليز أظهرتها مراسلات (حسين مكماهون)، لكنها كانت البداية لمعركة على ما يمكن أن نصفه بـ”روح الإسلام” وظاهرة سياسية أمنية ثقافية أسسها المستعمر الغربي في بلاد المسلمين، تنوعت في حجمها وقوتها بين الدولة الأوتوقراطية العلمانية، التي أسسها الحبيب بورقيبة في تونس أو حتى جمعية الثقافة والفكر الحر التي تدعم برامج دمج الشبان والفتيات في غزة، ولا نستثني بذلك السيل الجارف من المنظمات المسلحة، التي مارست دورً إجراميا في العشرية السوداء في الجزائر، والتي تلونت بألوان دينية إسلامية تبين لاحقا أنها جزء من اللعبة المخابراتية الفرنسية، وتنظيم “داعش” الذي يعيث فسادا في نيجيريا ودول الساحل والصحراء.

ينخرط العالم الإسلامي في نزاع على السلطة من أجل النفوذ والهيمنة الجيوسياسية وما يميز هذا النزاع أنه مرادف لخصومة سياسية لا تتعلق بأصل عقيدة المسلمين، التي ارتبطت بمنهج أهل السنة والجماعة؛ بل ظاهرة سياسية ينقسم فيها المتنازعون إلى كتلة تمثل ما يعرف بالإسلام “المعتدل”، ويتصدر لذلك من يدفعون بالعالم الإسلامي إلى هوية صوفية يمثلها علي الجفري وعلي جمعة وسلسلة طويلة من هذا المحور، الذي عرف بــ”مجلس حكماء المسلمين”، وهم أكثر تصالحا مع اليهود والمسيحيين من تصالحهم مع السلفية، وطرف آخر تجسد فيما يعرف بالسلفية المدخلية التي نسبت إلى مؤسسها ربيع المدخلي، وهو رجل دين سعودي كان له النشاط الأبرز في تنشيط هذه الظاهرة، التي خرجت في حرب الخليج الثانية، وأصبحت أحد أبرز التيارات السلفية القريبة من كل حاكم عربي حتى أنها في ليبيا شكلت كتائب عسكرية؛ لدعم انقلاب خليفة حفتر على الحكومة الشرعية المعترف بها من الأمم المتحدة.

أما التيار الأبرز، والذي يعد هدفا ثابتا للسلفية المدخلية و الإسلام الصوفي “المعتدل”، فهو جماعة الإخوان المسلمين بصفتها في نظر النظام السياسي العربي والغربي حقل التفريخ لأغلب الجماعات الإسلامية؛ سواء بلونها السلفي الجهادي أو مايعرف بــ”السلفية السرورية” أو حتى حركات الإسلام السياسي، التي أصبحت جزءا من الصراع على السلطة بعد “الربيع العربي”، وهنا يجب أن نؤكد أن التيارات المختلفة بقدر ما يمكن الإشارة إلى هويتها الدينية؛ إلا أنها الآن أصبحت تتموضع سياسيا في إطار تحالفات إقليمية تدعمها دول وتكتلات سياسية، فتركيا تعد الحاضن الأبرز لجماعة الإخوان المسلمين في نظر إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، بينما تعد الإمارات الداعم الأبرز للإسلام الصوفي “المعتدل”، وتدعم المملكة العربية السعودية “السلفية المدخلية”، وهناك مجموعة معايير يمكن الارتكاز إليها في تحليل هذه الظاهرة، التي تحولت من مجرد تنازع بين أطياف مختلفة من تيارات الإسلام السياسي إلى صراع إقليمي يجسد تضارب المصالح وحربا على النفوذ والتوسع في المنطقة.

جماعة الإخوان المسلمين التي رأت في الثورة الإيرانية عام 1979 حالة إلهام لطموحاتها في إحياء الخلافة الإسلامية مرة أخرى، وجدت ضالتها في التجربة التي بدأها حزب العدالة والتنمية التركي بزعامة رجب طيب أردوغان منذ فوزه عام 2002 بإحياء الإرث التاريخي لتركيا العثمانية بهويتها وروحها الإسلامية، وعززها الرئيس التركي بسياسات أكدت توجهاته؛ مثل إعطاء دائرة الشؤون الدينية الحكومية صلاحيات خارجية، وإنشاء قاعدة عسكرية تركية في الصومال ودعم الحكومة الليبية ومساندة الأيغور في تركستان الشرقية ودعم الروهينغا، والوقوف إلى جانب الفلسطينيين واحتضان أغلب جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي، التي هرب الكثير من عناصرها من بلادهم عقب الربيع العربي، ورغم أن البعض قد يرى أن تركيا قد وضعت بذلك نفسها في صراع مع النظام السياسي العربي؛ لاحتضانها معارضين وتبنيها سياسيات داعمة لهم، إلا أن الأمر أشد خطورة من ذلك، فقد أضحت تركيا في محور يتبنى مجموعة مفاهيم تتمرد على الهوية الاستعمارية، التي صنعتها اتفاقية (سايكس بيكو)، وتحطم الحدود القومية التي زرعتها تلك الاتفاقية، وتنادي بفكرة ترفض الوصاية الغربية في المنطقة؛ لذلك تعرض النظام السياسي التركي عام 2016 لهزة عنيفة إثر محاولة الانقلاب على الرئيس أردوغان، وتعرضت تركيا لضغط كبير من الولايات المتحدة إثر إخراجها من برنامج لتصنيع طائرات “إف-35” (F-35)، لذلك وجدنا حربا ضروسا من فرنسا على الهوية الإسلامية جسدتها مؤخرا بمشروع القانون الذي صادقت عليه الجمعية الوطنية الفرنسية المعروف باسم “الانعزالية”.

أما بالنسبة للتيار الصوفي، والذي يمثل “الإسلام المعتدل”، فهو يحارب بالدرجة الأولى السلفية الجهادية؛ لذلك وجدنا استضافة روسية لمؤتمر “الشيشان”، وقد رحبت بهذا التكتل رموز دينية يهودية ومسيحية، وعقدت لقاءات متنوعة في هذا السياق لمحاولة تضخيم هذا التيار؛ لكونه يحفز التسامح مع جميع الأديان، ويرفض المنهج السلفي باعتباره القاعدة الأكثر تمثيلا لأصالة الإسلام بعقائده وشعائره، وميزة هذا التيار بالنسبة للمنظومة الغربية أنه -كما أشرنا سلفا- يعادي الفكر الجهادي بكافة تياراته، ولا يمانع من التصالح مع اليهود، وهذا الأمر عبر عنه اليمني علي الجفري بتأكيده على حبه لليهود في مقاطع مرئية على “يوتيوب”، ولا شك أن ذلك يعود إلى الكثير من الخلافات بين السلفية والصوفية، تتعلق بالعقائد والعبادات مثل زيارة القبور والتبرك بالموتى وغيرها من القضايا. أما “السلفية المدخلية”، فأينما ولينا وجهنا في عالمنا الإسلامي سنجدها عبارة عن بطانة دينية لأي نظام سياسي، وهي ظاهرة سياسية أكثر من كونها ظاهرة دينية يمكن التعويل عليها في الصراع بين تيارات الإسلام السياسي المختلفة في العالم الإسلامي.

بقدر ما أثرت تيارات الإسلام السياسي في الصراعات الإقليمية في المنطقة، وأضحت أداوت في تلك الصراعات؛ إلا أنها فشلت فشلا ذريعا في الحفاظ على بنيتها الداخلية وهيكلتها التنظيمية، وهذا الأمر أظهره أداؤها في المغرب وتونس ومصر وليبيا والسودان والأردن وغيرها من بلدان العالم الإسلامي، وقد يبرره انغلاق تلك الجماعات على أنظمتها الداخلية وفقدانها الثقة بالمجتمع الخارجي رغم قدرته الكبيرة على التأثير فيها، وكذلك فقدانها لأنظمة قضائية فاعلة واعتمادها هرمية التنظيم بدون وجود آلية شفافة لتوزيع ديمقراطي للسلطة بين أعضائها، وضعف براعتها السياسية في خوض معارك دينية ناعمة تحشد لها الدول محاور عالمية.

في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي حارب الأميركيون السوفييت بما عرف بظاهرة ” المجاهدين”، وفي عام 2011 مهدت واشنطن الطريق لتدخلها في سوريا بالجهاديين، وخسرت في هذه المعركة حركة حماس الفلسطينية تحالفها مع النظام السوري وإيران، وفي العراق استغلت إيران اسم “داعش” لتهجير مدن كاملة لسنة العراق، وتغيير التركيبة الديموغرافية في الأنبار، وللسبب نفسه تدخلت روسيا في سوريا.

المعركة على روح الإسلام لا يمكن تجسيدها بدولة أو محور هنا وهناك بقدر ما يمكن اعتبار تلك المحاور الإقليمية بيادق في المعركة الكبرى، التي تستهدف الأمة الإسلامية بأصولها العقائدية؛ لكن هناك من اتخذ خيارات خاطئة، وجعل نفسه رصاصة في بندقية عدوه، فإصرار الرئيس الأميركي جو بايدن على تكرار اسم “لجين الهذلول” في تصريحاته الإعلامية لا يمكن اعتباره انحيازا أميركيا للحريات، بقدر ما يمكن اعتباره عنوانا لمعركة تخوضها واشنطن لتجريد المملكة العربية السعودية من أي رمزية دينية. فلم يخرج بايدن لسانه حينما أصدر الرئيس السابق دونالد ترامب قبل أسابيع فقط من تنصيب بايدن، عفوا عن 4 مجرمين من “بلاك ووتر” أدينوا بقتل 14 مدنيا عراقيا في عام2007.

خلاصة لما أردت توضيحه هو أن هناك دولا تدعم جماعة الإخوان المسلمين وأخرى تحاربها، وقد يكون تفسير البعض لذلك في سياق ميكافيلي يتعلق باستخدام الدين أداة قوية في يد النظام السياسي، على اعتبار أن ما ذكره الاقتصادي الشيوعي، كارل ماركس، “الدين أفيون الشعوب” صحيحا؛ لكن أيضا هناك وجهة نظر أخرى لما يجري، تتعلق باحتضان المنظومة الغربية التي تعتقد أن صراعها مع الإسلام صراع حضاري بشقيها الشرقي والغربي، فكرة تتعلق بالتفريق بين الإسلام العربي المتشدد و الإسلام الآسيوي الأكثر سماحة وتجسده إندونيسيا وماليزيا، فهو في نظر تلك المنظومة أقل تصديرا للراديكالية، ويسحب البساط من تحت أقدام النماذج السياسية التي تتصارع نظريا على آليات تطبيق قيم ومفاهيم الإسلام “المعتدل”، وعمليا على النفوذ والتوسع الجيوسياسي

شاهد أيضاً

قتيل إسرائيلي في كريات شمونة بعد قصفها بعشرات الصواريخ من لبنان

قال حزب الله اللبناني إنه أطلق عشرات الصواريخ على مستوطنة كريات شمونة، ردا على غارات إسرائيلية على مركز إسعاف أدت إلى مقتل 7 متطوعين، بينما أعلنت الطوارئ الإسرائيلية مقتل شخص جراء القصف على كريات شمونة.