ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين..

بقلم الشيخ سفيان ابو زيد 

ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين..
وحاجة العالم إليه..

اوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم حبيبته وبضعته السيدة البتول فاطمة الزهراء عليها السلام، عندما كانت محمومة، وأوصاها بها أن تقولها في الصباح والمساء..

إذن فهي تقال في الأحوال العادية، في بداية اليوم قبل القيام بأي حركة أو عمل، او مشروع أو تخطيط، تقال مع وجود الاسباب والإمكانات والصحة والعافية والغنى، تقال في البدايات، رغم التأكد من النتائج والنجاحات، تقال في جميع الأحوال وقبل الأحوال واثناء الأحوال في نهاية الأحوال، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين..

كذلك تقال في الأحوال الاستثنائية، في ظروف الحرج والضرر والحاجة والفاقة والنجدة، تقال حين يعجز السبب، وتقف الإمكانات، وتعوز حلول المشكلات، تقال عند القلة والضعف والهوان والتيه والضلال والتردد والشك، تقال عند الاستسلام والإذعان والإذلال، تقال عند القمع ومواجهة الاستبداد، وكتم الأنفاس، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين..

هذه الكلمة جاءت بعد نداءات وتضرعات، هما:
يا حي يا قيوم
برحمتك استغيث
أصلح لي شأني كله
فهي ثلاثة نداءات وإن ظهر انها نداء واحد مفاده أصلح لي شأني كله..

كيف ذلك؟

(يا حي) نداء لله بصفة الحياة، التي هي حياة ليست كباقي الحياة، حياة لا اول لها ولا آخر، حياة ازلية أبدية سرمدية باقية، حياة قوية لا تحتاج إلى محيي، أو نفس يغذيها، أو غذاء او شراب أو مال، فهي حياة عدل، وفضل، ونظام، وصلاح وإصلاح وخير، حياة فريدة من نوعها، ندعوك يا الله بحياتك أن تحيينا حياة أشبه بها، عدلا ونظاما وفضلا وخيرا وصلاحا وإصلاحا وأن يكون الختام دخولا إلى جنان الخلد..

(يا حي) أدعوك صفتك هذه لأنني بحاجة إلى حياتك، وإلى وجودك، وإلى استجابتك وتجاوبك وقربك ونجدتك..

(يا قيوم) نداء لله بقيوميته، المناسبة لتلك الحياة الفريدة الإلهية والتي هي أزلية واستمرار تدبيره وإقامته وقيامه وتقويمه وتقييمه لكل ذرة وجزء من هذا الكون الفسيح،الذي هو تحت إمرته وطاعته وإذنه، لا حركة ولا سكنة ولا فعل ولا كف إلا به وبأمره سبحانه وتعالى.

(يا قيوم) لأنك الأقدر والأجدر على قيومية هذا الكون وهذه الأرض وتلك المخلوقات كبيرها وصغيرها، أرضيها وفضائيها، قيومية دائمة مستمرة لا تقف ولا تكل ولاتسهو ولا تلهو ولا تغفل ولاتمل لا تأخذها سنة ولا نوم، قيومية كونية قدرية مهيمنة عادلة متفضلة، وقيومية شرعية صالحة مصلحة، لا يمكن لخليفتك على هذه الأرض أن تستقر حياته وتنتظم شؤونه ويستمر وجوده إلا بها وفيها وعليها وعنها…فلما استنكف عنها واستدبرها أصابه ما أصابه…

فانت الحي حقيقة، ومن حياتك تستمد الحياة..
وأنت القيوم حقيقة، وبقيوميتك تستمر الحياة..

فهناك استمداد واستمرار، ولا يكون ذلك ولا يتم إلا بحياتك وقيوميتك..

(برحمتك أستغيث) هذه الحياة وهذه القيومية الدالة على الرهبة والهيبة، تنبعث منها شآبيب الرحمة وموجباتها، التي لا يستغنى عنها، فلم يأت النداء هنا بيا النداء وصفة الرحمة، فلم يقل (يا رحمن) أو (يا رحيم) وإنما جاء بباء الاستعانة جارة لمصدر الرحمة وليس لمشتقاتها، فأنت مصدر الرحمة، ورحمتك هي الرحمة الحقيقية التي نحن بحاجة ماسة لها، وفيه اعتراف صريح واضح عن الفقر والعجز، واحتمال السقوط والاستسلام والخطإ والغفلة والجهل، ففي أجواء حياتك وقيوميتك الدقيقة والدائمة، أنا بحاجة إلى رحمتك بلا انقطاع ولا استغناء، في جميع الاحواء رخاءها وشدتها، سراءها وضراءها، برحمتك استغيث، فاطلب غوثا يغيثني من رحمتك، ونجدة تنجدني من رحمتك، فلا رحمة يمكن أن تغيثني وتصلح وتكفي لغوثي، إلا رحمتك، وإني وإن كنت واجدا فبدون رحمتك معدم..

أصلح لي شأني كله

فبحياتك أستمد وأحيى، والحياة بدونك موت، وإن كان فيها نبض، فلا صلاح للحياة إلا بحياة الله تعالى، أن يكون حيا حاضرا في شؤوننا وعقولنا وجوارحنا وسلوكنا، فلما غفلنا عن حياة الله، وابتعدنا عنها، وظننا أننا في غنى عنها، ماتت حياتنا..فروح حياتنا هي حياة الله تعالى

وبقيوميتك أستمر، وأنجز وأْسدَّد وأْحفَظ، وأنضبط في أغلب شأني، وتنتظم حياتي، وتتفعل أخلاقي، وأسير وفق منهج القيوم، فأنال مصالحي وأجتنب مفاسدي، وأعيش التوازن الذي به تستمر حياتي، وبترك قيومية الله، واستدبارها وتجاهلها والغفلة عنها، يشيع الاستبداد والظلم والفوضى والجشع، والخلط، فضابط الحياة قيومية الله تعالى..

وبرحمتك آمْلْ، ولا أعجز وأمل، لأنني ضعيف محدود القدرات وقاصر الفهم، مع رغبة في التطلع والاستزادة، فقد أقع في الظلم والعدوان، او الضعف أو الجهل، أو العجز، فأنا بحاجة ملحة إلى رحمتك، لأقف مرة أخرى واستفيد وأستمر عاقدا الأمل في رحمتك، ولا شيء إلا رحمتك، فلما استهنا برحمة الله، أو ادعينا الرغبة في رحمة الله، عم العجز والكسل، وقصر الأمل، والتمني والاستعجال والإحباط والانحطاط..

فأنا بحاجة:
إلى حياتك حتى تصلح حياتي
وإلى قيوميتك حتى يصلح مشواري
وإلى رحمتك حتى تصلح إرادتي

وهذا في شأني كله صغيره وكبيره ماضيه وحاضره ومستقبله، دنيويه وأخرويه..

ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين..
هذا يدل على مسيس حاجة الإنسان إلى الله عزوجل، فهو بحاجته في كل صغيرة وكبيرة وفي كل زمان ومكان، لا يستغني عنه طرفة عين..
لماذا وقد يعيش الإنسان غير معترف بالله حياة رغدة حتى يموت؟ فأين هذه الحاجة..؟

هذه الحاجة ستظهر لو أن الله أوقف قيوميته لطرفة عين عن هذا الكون..
ستظهر هذه الحاجة لو أن الله منع رحمته بكل أنواعها وصنوفها عن هذا العالم طرفة عين..
فيا ترى كيف سيكون حال هذا العالم؟
ولكن الله عزوجل من رحمته وفضله وقيوميته، أن لم يعدمنا حياتنا، ولم يوقف قيوميته لنا، ولم يقطع رحمته عنا، وإن أنكرناه، واعترفنا بغيره، وادعينا قيومينا، واستقلال حياتنا، واستغناءنا عن رحمته، فهو الرحمن الرحيم الحي القيوم
وتظهر الحاجة إلى تلك الحياة وتلك القيومية وتلك الرحمة من خلال تعطيلنا لحياته سبحانه في حياتنا، او قطعنا لشريان الحياة المستمد منه، وبجهلنا وغفلتنا والتفاتنا عن قيوميته الكونية والشرعية، وتصنيمنا لقيومية غيره، وقطع موجبات رحمته سبحانه التي تغدقنا برحمته وفضله وتوبته..
وما هذه الاختلالات التي يعيشها العالم اليوم من ظلم واستبداد وعنصرية واحتلال وإمعية واستغلال وانهزام إلا من فصل حياتنا عن حياته، وقرارنا عن قيوميته، وإرادتنا عن رحمته..

لذلك جاء هذا الدعاء المضمن للاعتراف، ولا تكلني، أي لا تتركني ولا تدعني حتى لأحب الأشياء إلي وهي نفسي ورأيي وذاتي وكياني، فلا تجعل نفسي وكيلة عني وزعيمة لي، لأنها أضعف من أن توصلني إلى بر الأمان، وشاطئ الاستقرار وقمم الانتصار، فلا أرضى بتوكيلها، ولا اريد زعامتها، وإن رغبت في ذلك وتوهمت صوابه، وسرت وراءه، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين..

وكما سبق فهو دعاء واعتراف، فالانسان فردا وجماعة وأمة وعالما، لا يستطيع أن يوكل إلى نفسه ورأيه واجتهاده وتقديره وظنه طرفة عين ولا اقل من ذلك..

فلو أن العالم اتخذ هذا الدعاء قانونا وشعارا ومنطلقا ومرجعا في الأزمات، لما تعست الحياة، ولما حاقها هذا الدمار والخراب..

شاهد أيضاً

قتيل إسرائيلي في كريات شمونة بعد قصفها بعشرات الصواريخ من لبنان

قال حزب الله اللبناني إنه أطلق عشرات الصواريخ على مستوطنة كريات شمونة، ردا على غارات إسرائيلية على مركز إسعاف أدت إلى مقتل 7 متطوعين، بينما أعلنت الطوارئ الإسرائيلية مقتل شخص جراء القصف على كريات شمونة.