كانوا قوماً يتسوّلون !

بقلم : أدهم الشرقاوي

وقفَ شاعرٌ مُعْوَجُّ الفم أمامَ أحدِ الولاة ليمدَحَه، ولكنَّ الوالي لم يُعطِه شيئاً، وإنَّما سَأله: ما بالُ فمِكَ مُعْوَجّاً؟

فقالَ الشّاعرُ: من كثرةِ الثّناءِ على النّاسِ بالباطل!

اشتغلَ العربُ منذ القِدَمِ بالتَّجارةِ، وكانتْ قوافلهُم تمخرُ عباب الرِّمالِ صيفاً نحو الشّام، وتُبحرُ برّاً بسُفنِ الصَّحراء شتاءً نحو اليمن، كانوا يبيعُون ما لديهِم ويشترُون ما ينقصُهم، إلا أنّ أشهرَ أسواقهم كان سوق عكاظ وكانوا يبيعون فيه الكلام !

كان الشِّعرُ بالإضافةِ لقيمتِه التَّعبيرية والجماليّة وسيلةَ الإعلامِ الوحيدة وقتذاك، وكان الولاةُ يحتاجون للدِّعاية والشُّعراءُ يحتاجون للمال، فنشأتْ أقبحُ ظاهرةٍ عرفها الشِّعرُ العربيّ، ألا وهي ظاهرة التَّكسب، التَّسول بالشِّعر!

صحيحٌ أن التّكسبَ، التّسولَ لا يُنقصُ من قيمةِ الشعر ولكنه يُنقصُ من قيمةِ الشَّاعر! فقصائدُ المديحِ مدفوع الأجرِ كانتْ رهيبةً بمستواها الفنيِّ وإن غاب عنها عنصر الصدق! ولأهمية الصدق في الشعر يذكرُ الجاحظُ في «البيان والتبيين» أنَّ أعرابياً سُئل: ما بالُ المراثي أجودُ أشعارِكم؟ فقال: لأننا نقولها وأكبادُنا تحترق!

كان النابغةُ الذبيانيّ يحكمُ في عكاظٍ بين الشعراءِ، وعندما قضَى بأنَّ الخنساءَ أشعر العرب وانفضَّ السوقُ، ذهب ليبيعَ النعمان قصيدة!

وكانَ الثالوثُ الأمويّ الجميل «جرير والأخطل والفرزدق»، بالإضافة لشعرهم الرائعِ في النقائضِ يتكسَّبون، يتسوّلون بقصائدهم من بلاطٍ إلى بلاط!

وكانَ أبو نواس يبيعُ الرشيدَ شعراً، فهي الوسيلة الوحيدة لتأمين مالٍ طائل يخوّله دخول الحانة «لتمسّه سرّاء» فيثمل ويتغزل بالغلمان !

وكان المتنبي سيدُ الشعر العربيّ متكسباً متسولاً كبيراً، فالأحبة الذين تقف البيداء دونهم هو سيفُ الدولة الذي اشترى بسخاءٍ قصائده، ولكن المتنبي باعه لأجل ولايةٍ يُصيبها، ولأجل ولايةٍ يُصبحُ «قواصدُ كافورٍ تواركُ غيره.. من أرادَ البحرَ استقلَّ السواقيا»، ولأنَّ البحر حنثَ بوعدِ ولايةٍ كان قد وعدَه إياها يصبحُ «العبيدُ أنجاسٌ مناكيدُ» و«تنامُ نواطيرُ مصر عن ثعالبها»، ويسرح ويمرحُ «الخِصيةُ السودُ» !

إن كان التكسبُ صفقة بين الولاة والشعراء، فإن الرابح من هذه الصفقة كان الولاةُ وليسَ الشعراء، فقد ربح الشعراءُ الحاضر وقتذاك، ولكن الولاة تخلدوا فربحوا المستقبل، التاريخ، وسيفُ الدولةِ وكافور لو عاشا ألف مرة أخرى لم نكن لنسمع بهم لولا المتنبي !

إن كان المتسولون بشعرهم كُثرا فالذين لم يبيعوا قصائدهم كثر أيضاً، فالخنساءُ مدحت صخراً ودفعت أعصابها ودموعها، والصعاليكُ لم تكن تعنيهم القبيلةُ كلها فضلاً أن يعنيهم سيّدها، وابنُ أبي ربيعة الذي عرفناه متهتكاً بشعرِه، أرسل إليه عبدُ الملكِ بن مروان ليمدحه، فقالَ له: عمرُ لا يمدحُ إلا النِّساء !

شاهد أيضاً

عبد المجيد الزنداني.. حياة حافلة بالعلم والعمل والجهاد

ودع اليمنيون والأمة العربية والإسلامية يوم الإثنين 13 من شوال 1445 للهجرة، الموافق 22 أبريل 2024م علما من أعلام هذه الأمة، وكوكبا من كواكبها، وهاديا من هداتها، ورائدا من روادها، هو الشيخ عبد المجيد بن عزيز الزنداني، العالم العامل، والمجاهد والمربي، والقدوة المعلم، القرآني المحمدي الرباني، صاحب العطاءات الدعوية، والإمدادات التربوية، والجهود التعليمية، والأطوار الجهادية،