الرسوم الكاريكاتيرية والنبي صلى الله عليه وسلم ومحبته للنساء

معتز الخطيب

دفعت الرسوم الكاريكاتيرية السيئة التي تشير إلى شخص النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض المسلمين إلى استشكال أحاديث نبوية تتحدث عن العلاقات الخاصة بالنبي، صلى الله عليه وسلم، وعن استمتاعه بنسائه.
فكأن هذا الاستشكال يريد القول إن كانت الصحيفة الفرنسية “شارلي إيبدو” قد أساءت إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقد سبقها إلى الإساءة رواة الحديث النبوي حين صوّروا النبي، صلى الله عليه وسلم، على أنه كثير النساء كثير الجماع. ينطوي هذا الاستشكال على تبرير لفعل الصحيفة الفرنسية والإيحاء بأنها إنما تطبق ما ورد في المصادر الإسلامية، وهي تحمل المسؤولية لرواة الأحاديث، ومن ثم يراد نقل المعركة من معركة مع صحيفة فرنسية إلى معركة داخل مدونات الحديث النبوي؛ لأنها فرصة جيدة لشتم البخاري والمحدثين مجددا.

من المهم التذكير بأن حب النساء (الجنس) والسيف (العنف) مقولتان تقليديتان أولع بهما المبشرون النصارى جزءا من الحملة الصليبية، وقد سيطرت هاتان المسألتان على الجدالات اللاهوتية المسيحية ضد الإسلام في العصور الوسطى وحتى العصر الحديث، ومن الطريف أن بعض ذلك وقع في الأندلس مع صعود النفوذ المسيحي فيها. من ذلك أن نصرانيا أندلسيا في القرن السابع الهجري كتب كتابا طعن فيه بنبوة النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد احتج بأحاديث عشرة النبي واستمتاعه بنسائه (ومنها حديث أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يطوف على نسائه في يوم واحد) لينفي عن نبي الإسلام صفة الطهارة المشترطة في صدق النبي، ومن ثم إبطال صحة دعوته؛ وذلك أن النبي محمدا -بزعمه- كان مولعا بحاسة النكاح، وقد نقل هذا النصراني عن موسى بن ميمون الفيلسوف اليهودي أن من علامات النبي الصادق اطراح اللذات البدنية والتهاون بها، وأن حاسة النكاح عار، وقد عزا هذه الفكرة الأخيرة إلى أرسطو الفيلسوف اليوناني.

وبعيدا عن تأريخ استشكال هذا النوع من الأحاديث واستثماره لاهوتيا في السجالات الدينية، فإن علاقة النبي، صلى الله عليه وسلم، بنسائه (وتسمى “أحاديث عشرة النبي”) تتصل بحقول تخصصية عدة هي: علم الكلام والجدالات الدينية، والفقه، والحديث، والشمائل المحمدية وأخلاق النبي وفضائله، وجميع هذه النقاشات يمكن ردها إلى أمرين مركزيين نعالجهما اليوم ضمن علم الأخلاق، وهما: أخلاق الفضيلة (فضائل الشخص) والأخلاق المعيارية (الأفعال وتقويماتها).

كمالات النبي لا تُخرجه من بشريته، ولا تغير من طبيعة خصائصها الطبيعية (كشهوات الأكل والشرب والنكاح والتمتع بالطيبات)، ولذلك تعكس كتب الخصائص والفضائل وأخلاق النبي تلك البشرية وكمالاتها الجسدية والنفسية والخلقية من خلال نموذج النبي، صلى الله عليه وسلم، وفي هذا السياق ترد أحاديث عشرة النبي في تلك الكتب المتنوعة، وليس في كتب الحديث فقط.

ومن مباحث علم الكلام: صفات النبوة، والشروط الواجب توفرها في شخص النبي عامة، وما يليق بالنبوة وما لا يليق بها؛ أي الحديث عن الفضائل والخصائص التي يتحلى بها شخص النبي عامة، وقد انشغلت كتب السيرة النبوية والخصائص النبوية والشمائل المحمدية بتفاصيل هذا بالنسبة للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وهي تعكس الطابع الإنساني لشخصيته؛ لأن إحدى المقولات الكلامية التأسيسية في القرآن أن النبي بشرٌ يأكل ويمشي في الأسواق، وأنه مثلكم ولكن الفارق الوحيد بينكم وبينه هو أنه يوحى إليه (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي)، وكمالات النبي لا تُخرجه من بشريته، ولا تغير من طبيعة خصائصها الطبيعية (كشهوات الأكل والشرب والنكاح والتمتع بالطيبات)، ولذلك تعكس كتب الخصائص والفضائل وأخلاق النبي تلك البشرية وكمالاتها الجسدية والنفسية والخلقية من خلال نموذج النبي، صلى الله عليه وسلم، وفي هذا السياق ترد أحاديث عشرة النبي في تلك الكتب المتنوعة، وليس في كتب الحديث فقط.

على سبيل المثال، نجد أبا الشيخ الأصبهاني (369 للهجرة) يُفرد في كتابه “أخلاق النبي وآدابه” عدة أبواب للحديث عن هذا الجانب، كباب ذكر قوله، صلى الله عليه وسلم، “حُبِّب إلي النساء والطيب”، وباب ذكر قوله صلى الله عليه وسلم “أُعطيت الكَفِيت، يعني الجماع”، وباب “ذكر طوافه على نسائه في ليلة واحدة أو يوم واحد صلى الله عليه وسلم”، وباب “صفته عند غشيانه أهله من تستره وغض بصره صلى الله عليه وسلم”. ويتكرر الأمر في كتب السيرة والحديث والشمائل، فالإمام أبو محمد البغوي الشافعي (516 للهجرة) -مثلا- قد خصص بابا في كتابه “الأنوار في شمائل النبي المختار” للحديث عن “نكاحه صلى الله عليه وسلم ومباشرته وحبه للنساء”.

وبالعودة إلى المصادر المتنوعة حديثية كانت أم غيرها، نجد أننا أمام مقاربتين لأحاديث عشرة النساء:

المقاربة الأولى: لاهوتية مسيحية تحاول أن تسقط تصورات الرهبانية على شخص النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، لنفي صفة النبوة عنه؛ لمجرد أنها لا تتوافق مع التصورات العقدية المسيحية عن صفات النبوة، وسنجد تأثيرات ذلك التصور اللاهوتي القديم مع فيلسوف أخلاقي مسيحي في القرن الرابع الهجري هو يحيى بن عدي، حيث يقرر أن من فضائل أهل الدين الزهد في النساء وترك النكاح، في حين أن معاصره الفيلسوف الأخلاقي مسكويه (421 للهجرة) يكتفي بالحديث عن الاعتدال في شهوة النساء؛ تبعا لأرسطو، ويذكر في فضيلة العفة أنها تتوسط بين الشره -وهو الانهماك في اللذات- والسكون والقعود عن الشهوة.

المقاربة الثانية: تتمثل في مقاربة أخلاقية إسلامية، وهي تقدم مفهوما جديدا للكمال البشري، الذي يتعاطى اللذات، ويتسم بالخصائص البشرية الطبيعية، وينقلها إلى مستوى آخر بأن يضفي عليها معان جديدة، ولذلك لم يتحرج المسلمون عبر التاريخ، وعلى اختلاف تخصصاتهم من محدثين وفقهاء ومتكلمين ومتصوفة وأخباريين من أحاديث عشرة النساء ومضامينها؛ بل على العكس قد اعتبروها من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه. فهذا القاضي عياض المالكي (544 للهجرة) الذي كان من أشد الناس تحريا لحقوق المصطفى، صلى الله عليه وسلم، ومن المُشددين في عقوبة ساب الرسول، يفرد فصلا للحديث عن “ما يتفق التمدح بكثرته والفخر بوفوره كالنكاح والجاه”، وأن “النكاح دليل الكمال وصحة الذكورية، ولم يزل التفاخر بكثرته عادة معروفة، والتمادح به سيرة ماضية”؛ أي إنه ثقافة وقيمة قارة في الثقافة العربية والإسلامية،م ما يعني أن ما هو نقيصة في نظر النصراني الأندلسي؛،وفق تصوراته اللاهوتية هو فضيلة في نظر العالم المسلم أيا كان تخصصه، وهو بذلك يتكئ على تقليد ثقافي وأخلاقي مستقر ومستمر.

ولكن ما وجه كون كثرة النكاح فضيلة في المنظومة القيمية للأزمنة الكلاسيكية؟ يرجع ذلك إلى أمرين:

الأول: أن العرب كانت تعتبر الفحولة من الفضائل الجسمانية للرجل، ومن صفات الكمال؛ لأن عدم القدرة عليه نقص، ولا سيما أن الأدب العربي قد انشغل بالخصيان وغيرهم. والفحولة في العربية تعني الذكارة والقوة كما قال ابن فارس اللغوي، وقد كانت وصفا يستخدم في سياقات مختلفة، ومنه تعبير “فحول الشعراء” مثلا. فالنبي صلى الله عليه وسلم -في نظر المسلمين- قد بلغ الغاية في الكمال الإنساني، ومن هنا اجتمعت له الكمالات الجسدية والنفسية والخلقية، ويبدو أن محمد ين يوسف الصالحي (942 للهجرة) أراد الإشارة إلى هذا المعنى حين عقد بابا في كتابه عن السيرة النبوية بعنوان “في آدابه -صلّى الله عليه وسلم- عند النكاح والجماع، وقوته على كثرة الوطء”.

والثاني: أن هذه الخصيصة -كما قال القاضي عياض- هي “في حق من أُقْدِر عليها ومُلِّكها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه درجة عليا، وهي درجة نبينا محمد الذي لم تشغله كثرتهن عن عبادة ربه؛ بل زاده ذلك عبادة لتحصينهن (أي نساءه) وقيامه بحقوقهن واكتسابه لهن، وهدايته إياهن؛ بل صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو، وإن كانت من حظوظ دنيا غيره”؛ أي إن عياضا يردنا هنا إلى فضيلة الاعتدال في استعمال الشهوة التي هي خصيصة طبيعية وضرروية حتى في الأنبياء، الذين لا يَعرون عن الحظوظ واللذات؛ ولكنهم ينقلونها إلى شروط دينية وأخلاقية تتصل بكيفية تصريفها وبالشروط اللازمة لها، ويربطونها بالمعاني المتوخاة منها، فالاعتدال هنا ليس مجرد ترك الانهماك -كما أفاد مسكويه-؛ بل هو أيضا غير صارف ولا مؤثر في أداء النبي، صلى الله عليه وسلم، لوظيفته ورسالته، وغير مُخِل بقيامه بتعبداته؛ بل إن عشرته، صلى الله عليه وسلم، ستتحول إلى مصدر تشريعي كما سأوضح في الجانب الفقهي من الموضوع.

ولكن هل يتعارض هذا مع طهارة النبوة ومع الزهد الذي من المفترض أن يتحلى به الأنبياء عامة وأتباعهم من العلماء والأولياء؟ من ناحية الواقع التاريخي فإن عددا من الأنبياء والزهاد والعباد كان لهم نساء وسَراري كثيرة، فالنبي سليمان عليه السلام مثلا كان له -بحسب الأخبار التاريخية- ألفٌ بين زوجة وسَرِية، وفي الحديث أنه طاف في ليلة واحدة على 70 امرأة، والنبي داود عليه السلام كان له 99 امرأة، وعبد القادر الجيلاني أحد أئمة التصوف لم يتزوج حتى بلغ 40 ثم تزوج 4 نساء بعد أن حصل له الإذن بناء على تصور صوفي وفلسفة معينة لفكرة التأسي بالنبي، ومفهوم “التحبيب” في حديث “حُبب إلي من دنياكم الطيب والنساء”.

ومما يؤكد فكرة التكامل بين فضيلة الكمال الجسماني المتمثل في قوة النكاح وفضيلة الزهد؛ أن التصورات الإسلامية قد أضفت أبعادا أخلاقية على النكاح، وهي على شقين:

أما من جهة الفضائل فنحن هنا أمام فضيلتين قد تبدوان متعارضتين: فضيلة الزهد وفضيلة الكمال الجسماني الواجب في حق الأنبياء؛ ولكن هذا التعارض منفي لدى العلماء؛ لأنهم رأوا أن ثمة تكاملا بين الفضيلتين، وأن النكاح لا يدخل في الزهد، ولهذا استثنى الطوفي النكاح من الزهد في عموم اللذات، فقال “اطراح اللذات البدنية سوى النكاح كان النبي في الغاية منه”؛ لأن النكاح لا يدخل في مفهوم الزهد. ومثل هذه الأخبار والتبويبات إنما تحيل إلى أن القوة على الجماع تدل -عندهم- على “صحة البِنية وقوة الفحولية وكمال الرجولية”، وهي فضائل يجب تحققها في الأنبياء، وهذا لا يتنافى مع فضيلة الزهد؛ ولا سيما أن النبي، صلى الله عليه وسلم، نفسه قد حذر من الرغبة عن سنته، وقد جعل من سنته أنه يصوم ويفطر ويتزوج النساء، كما أن القرآن قد اتخذ موقفا نقديا من الرهبنة، التي يريد النصراني الأندلسي أن يحاكم نبي الإسلام إليها.

ومما يؤكد فكرة التكامل بين فضيلة الكمال الجسماني المتمثل في قوة النكاح وفضيلة الزهد؛ أن التصورات الإسلامية قد أضفت أبعادا أخلاقية على النكاح، وهي على شقين:

الأول: أن الحديث النبوي جعل النكاح من سنة النبي رغم أنه حاجة طبيعية ضرورية، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أول من جاء به، وقد تزوج النبي نساء عدة، وكانت له جاريتان أيضا، وهكذا كان دأب الصحابة ومن بعدهم، وإن كان من خواصه -بدون غيره- الزيادة على 4 نساء؛ أي إن الزهد لم يكن يتنافى مع التزوج بالنساء، وكان زهاد الصحابة -كما يقول الطوفي- “كثيري الزوجات والسراري، كثيري النكاح”؛ بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد نقل فعل إتيان الشهوة من الفعل العادي إلى الفعل التعبدي، ولهذا قال لأصحابه “وفي بُضع أحدكم صدقة. قالوا يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ثم يُثاب؟ قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان يُعاقَب؟ قالوا نعم. قال فكذلك”، وهذا تصور جديد يخالف الرهبانية المسيحية، ولم يألفه العرب أيضا، ولهذا قال الإمام ابن الملقن إن “النكاح في حقه عليه الصلاة والسلام عبادة بلا شك”.

الثاني: البحث في المصالح المرجوة من النكاح، وقد خاض في هذا الفقهاء وعلماء مقاصد الشريعة وأطباء الأزمنة الكلاسيكية والفلاسفة وعلماء الأخلاق كذلك؛ فالفقهاء انشغلوا بفهم الحكم والمصالح الشرعية من التشريعات (والجميع متفق على إباحة تعدد الزوجات)، والأطباء بحثوا كذلك في مصالح الأنفس والأبدان بدءا من أبي زيد البلخي المعتزلي، وعلماء الأخلاق بحثوا في قوى النفس وشهواتها والفضائل التي عليها أن تتحلى بها، ومن ذلك كيف تدبر شهوة الباه (النكاح) من خلال فضيلتي الاعتدال والعفة.

سعى الطوفي في رده على النصراني الأندلسي لإثبات أن حاسة النكاح “من أحسن الأفعال”، وشرع يعدد مصالحها، منها مثلا: أن فيها مصلحتين: مصلحة وجودية وهي إقامة النوع الإنساني بتكثير العباد والعبادة، ومصلحة عدمية وهي إعدام الزنا بالاكتفاء بالحلال (تأسيسا على مفهوم أن “في بُضع أحدكم صدقة”).

قوله إنه قد حُبب إليه النساء، كما في حديث “حُبّب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة”، لا يتنافى مع فضيلة الزهد إذن

فمن مقاصد النكاح تكثير العباد والعبّاد، وعمارة الأرض ودوام العالم وبقاء النوع الإنساني، الذي أجمع الحكماء على أنه خلاصة الوجود وتنوع أنواعه، وقد عد الطوفي من مصالح النكاح: سرور النفس به، وتحصين الفرج عن الزنا المحرم بإجماع أهل الملل والعقول، وتحليل فضلات البدن المحتقنة فيه، وأن كثرة تشاغل النبي إبراهيم وبنيه عليهم السلام بالجماع هو الذي أوجب كثرة نسلهم وانتشار الشعوب منهم؛ فاعتبار حاسة النكاح عارا هو عار على مُعتقدها، بحسب الطوفي؛ إذ إن “نكاح النساء هو عين الطهارة، لما فيه من تحصين الدين والإعانة على تقوى رب العالمين”؛ بل إنه يضيف معنى مهما هنا، وهو أن تحبيب الله النساء لنبيه لأجل رعاية كمالاته البشرية بأن يتفرغ خاطره التفرغ الكلي لأداء الرسالة، والقيام بأعبائها، فهو لم يرسل رسولا مَلَكا؛ بل رسولا بشرا. وهذا يساعدنا على فهم كلام مسكويه قبل قرون في سياق الحديث عن فضيلة العفة، حيث قرر أن “اللذة الجميلة يحتاج إليها البدن في ضروراته، وهي ما رخص فيه صاحب الشريعة والعقل”؛ أي إن أخلاقية الفعل إنما تنصرف إلى الكيفيات لا إلى جنس الشهوات قلة أو كثرة، وهي تختلف باختلاف الأشخاص وأحوالهم الجمسانية والطبيعية، ولهذا لم ينشغل فلاسفة الأخلاق القدماء بوضع حدود واضحة لما هو التوسط.

فكثرة نسائه، وقوله إنه قد حُبب إليه النساء، كما في حديث “حُبّب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة”، لا يتنافى مع فضيلة الزهد إذن، وقد انشغل بعض المتصوفة بمفهوم التحبيب هذا كما فعل الجيلاني، ولم يروه معارضا لتصوراتهم عن الزهد، وهم أشد الناس حرصا على التزهد في ملذات الدنيا، في حين ذكر الإمام الماوردي أن أهل العلم قد اختلفوا في معنى “حبب إلي”، وساق قولين و3 احتمالات هي:

الأول: أنه زيادة في الابتلاء والتكليف؛ حتى لا يلهو بما حبب إليه من النساء عما كلف به من أداء الرسالة، ولا يعجز عن تحمل أثقال النبوة فيكون ذلك أكثر لمشاقه وأعظم لأجره.

والثاني: للطف ومزيد العناية به صلى الله عليه وسلم، ليكون مع من يشاهدها من نسائه، فيزول عنه ما يرميه المشركون به من أنه ساحر أو شاعر.

والثالث: الحث لأمته عليه؛ لما فيه من النسل الذي تحصل به المباهاة يوم القيامة.

والرابع: أن قبائل العرب تتشرف به، وقد قيل إن له بكل قبيلة منها اتصالا بمصاهرة وغيرها، سوى تيم وتغلب.

والخامس: كثرة العشائر من جهة نسائه؛ رجالا ونساء، فيكونون عونا على أعدائه.

وهي معان تكشف عن أبعاد مركبة للقول بعيدا عن التصورات السطحية اليوم.

وبناء على ما سبق يمكن القول إن الانشغال بنقل تفاصيل حياة النبي صلى الله عليه وسلم الخاصة والعامة، مرده إلى أمرين: الأول: المحبة؛ فشخصية النبي، صلى الله عليه وسلم، شخصية محورية في الإسلام بكل فروعه، والثاني: التأسي فتصرفاته، صلى الله عليه وسلم، معيارية، وهي قيمة من النواحي العقدية والأخلاقية والفقهية، وإذا كان الصحابة عامة قد انشغلوا برواية أخباره وأقواله في المجال العام، فإن نساءه وخادمه أنس بن مالك قد انشغلوا برواية الجوانب الخاصة والخفية من حياته صلى الله عليه وسلم.

تحكي عائشة رضي الله تعالى عنها -مثلا- أن سودة بنت زمعة زوج النبي وهبت يومها لعائشة، كما تحكي عن نفسها “كنت أطيّب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يطوف على نسائه، ثم يصبح مُحرما ينضح طيبا”، وقد نقلت سلمى مولاة النبي صلى الله عليه وسلم عنه أنه “طاف ليلة على نسائه التسع، وتطهر من كل واحدة”، وروى مثل ذلك خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه. وقد ذكر الإمام ابن الملقن من جملة فوائد كثرة نسائه صلى الله عليه وسلم فائدتين:

الأولى نقل الشريعة التي لم يطلع عليها الرجال،

والثانية نَقل محاسنه الباطنة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم مكمّل الظاهر والباطن.

وقد تابع ابنُ حجر ابنَ الملقن في شيء من هذا؛ أي إننا أمام شخصية عامة هي محل أسوة في الشأنين الخاص والعام، فليس ثمة ما هو خاص يتعين ستره أو حجبه عن الناس، ففي فعله صلى الله عليه وسلم يستوي العام والخاص، والظاهر والباطن؛ بل حتى سرائره كشفها القرآن حين خاطبه في أكثر من موضع (وتخفي في نفسك ما الله مبديه)، (ولو أعجبك حسنهن)، وهو هنا يتحدث عن رغبات وحظوظ نفسية في النساء حصرا على خلاف ما يظن بعض الناس اليوم ممن يسعون وراء ورع أحمق؛ لأنهم يُسقطون منظورهم الشخصي على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أمكن بعد نقل كل تفاصيل حياة النبي العامة والخاصة التمييز بين التشريع الخاص به، والتشريع العام الذي تشترك معه فيه أمته.

أما القيمة الحُكمية لمثل هذه الأحاديث، فتتمثل في الأحكام التي بناها الفقهاء عليها، فالبخاري -مثلا- بوّب على بعض هذه الأحاديث فقال “باب الجنب يخرج ويمشى فى السوق وغيره”؛ لبيان أنه يجوز تأخير الغسل الواجب، وفقهاء الشافعية بنوا عليها أنه يُستحب للمتزوج من أكثر من واحدة أن يطوف على نسائه في منازلهن، بأن يأتي هو إليهن؛ لأن ذلك أصون لهن، كما أن فكرة الطواف عليهن في يوم واحد أثارت النقاش بين الفقهاء حول حكم القسم بين الزوجات، وقد اختلفوا هل هو واجب بالنسبة له أم مندوب؟ وقد ذهب بعضهم إلى أنه واجب؛ ولكنه استأذن صاحبة النوبة، وذهب بعض آخر إلى أنه مندوب بدليل هذه الأحاديث، وقد سبق للنبي صلى الله عليه وسلم حين مرض أن استأذن زوجاته في أن يمرَّض في بيت عائشة رضي الله عنها فأذنوا له.

ولكن القاضي عياض لحظ ملحظا أخلاقيا آخر هنا، وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان يطوف عليهن رعاية لحقهن، ولإحصانهن؛ فنحن نتحدث عن علاقة بين طرفين، وعن عقد له استحقاقات قانونية وأخلاقية، ثم جاء الحافظ ابن حجر فأوضح أن ذلك إنما كان لإرادة العدل بينهن في ذلك، وهنا يظهر المعنى السابق في إقدار الله له على العدل مع شدة وطأته على غيره.

وقد أفضت في هذه المسألة لبيان الاستعجال وعدم التروي، الذي يَسم بعض النقاشات المعاصرة، التي تدفعها ميول شخصية لتحديد ما يُعاب وما لا يُعاب في حق النبي، وما يعقل وما لا يعقل، ثم تريد أن تطبق ذلك على مدونات الحديث وتصدر أحكاما مطلقة على التاريخ لمجرد خاطر يعرض لها، لقد تورط بعضنا في تصوير شخصية النبي، صلى الله عليه وسلم، اليوم، وفق ما استقرت عليه أعرافنا الجديدة، دون دراسة متأنية للقيم السائدة زمن النبي، صلى الله عليه وسلم، ولأعراف المجتمعات الإسلامية التي استقرت عبر تاريخ مديد، لإدراك حجم التبدلات الحديثة، التي طرأت عليها بفضل الحداثة، التي شرعت -اجتماعيا وثقافيا- الممارسة الجنسية المفتوحة والتعددية والمتنوعة بلا عد ولا حصر؛ ولكنها لم تحتمل -في الإطار القانوني- إلا الواحدية، وبناء على هذا تمت صياغة معايب ومذام هي ليست معايب ومذام أصلا بمعايير ثقافات ومجتمعات أخرى؛ فضلا عن أن تكون كذلك بمعايير زمني التنزيل والتلقي في القرون الأولى. ثمة فرق مهم بين أن نقرأ الواقع التاريخي وننصت جيدا إلى قيمه ومنظوره الثقافي والاجتماعي والتاريخي، وبين أن نعيد قراءة التاريخ بمنظور واقعنا نحن، ومن ثم نسقط عليه أعرافنا وقيمنا الجديدة، فنصحح ونضعف في مدونات الحديث وفق أهوائنا ثم نرمي باللائمة على المحدثين جاهلين بكل التعقيدات التي شرحتها هنا، وإنما العيب فينا وفي ضيق أفقنا وقلة علمنا، والله أعلم

شاهد أيضاً

عبد المجيد الزنداني.. حياة حافلة بالعلم والعمل والجهاد

ودع اليمنيون والأمة العربية والإسلامية يوم الإثنين 13 من شوال 1445 للهجرة، الموافق 22 أبريل 2024م علما من أعلام هذه الأمة، وكوكبا من كواكبها، وهاديا من هداتها، ورائدا من روادها، هو الشيخ عبد المجيد بن عزيز الزنداني، العالم العامل، والمجاهد والمربي، والقدوة المعلم، القرآني المحمدي الرباني، صاحب العطاءات الدعوية، والإمدادات التربوية، والجهود التعليمية، والأطوار الجهادية،