لوبون يرد على ماكرون إنصاف المفكرين وتحامل السياسيين

أ.د. فؤاد البنا

منتدى الفكر الإسلامي

يُعد المفكر الفرنسي الشهير جوستاف لوبون من أهم الغربيين الذين أنصفوا الحضارة الإسلامية، وذلك في عديد من كتبه وكتاباته ولا سيما في كتابه (حضارة العرب) التي يقصد بها بالطبع حضارة الإسلام، فقد سجل إعجاباً منقطع النظير بالحضارة الإسلامية وسجل اعترافات وشهادات مذهلة على تفوق المسلمين في كل النواحي وإبداعهم في سائر المجالات، وكتابه (حضارة العرب) وثيقة كاملة لمن أراد مراجعتها بهذا الصدد، وفيها ردود ضمنية على الرئيس الفرنسي ماكرون وأمثاله من المتعصبين والمتحاملين ضد الإسلام.

وما يهمنا هنا هو التأكيد على أنه لم يكتف بسرد نقاط التفوق في الحضارة الإسلامية الغزيرة والتي شملت كافة أوجه الحياة، وإنما ذهب إلى أبعد من ذلك عندما أعاد إليها الفضل الكامل في ما شهده ويشهده الغرب من تقدم هائل في كافة النواحي في العصر الحديث، حتى أنه قال: “كلما أمعنا النظر في درس حضارة العرب وكتبهم العلمية واختراعاتهم وفنونهم ظهرت لنا حقائق جديدة وآفاق واسعة، فسرعان ما رأينا أن العرب أصحاب الفضل في معرفة القرون الوسطى لعلوم الأقدمين، وأن جامعات الغرب لم تعرف لها مدة خمسة قرون مورداً علمياً سوى مؤلفاتهم، وأنهم هم الذين مدَّنوا أوروبا مادة وعقلاً وأخلاقاً، وأن التأريخ لم يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه في وقت قصير، وأنه لم يَفُقهم في الابتداع الفني. وتأثير العرب في الغرب عظيم، وهو في الشرق أشد وأقوى، ولم يتفق لأمة ما اتفق للعرب من النفوذ.

ومن يقرأ مثل هذا الكلام ويطالع الكثير من الحقائق في كتب المنصفين يصيبه الذهول من حالة الجحود والنكران التي اعترت العقل الجَمْعي في الغرب، ويستغرب من الدوافع التي نحَت بهم ذلك المنحى المجافي للمنطق والأخلاق وللعلم والمنهج العلمي.

انتقاد الغمط
وبعد أن سجّل لوبون شهادته المنصفة بأساليب متعددة وفي مواضع مختلفة من كتابه القيم، أبدى استغرابه الشديد من نكران الغرب وجحوده لفضل الإسلام، ومما قاله في هذا الشأن: “لماذا إذاً ينكر علماء الوقت الحاضر – الذين يضعون مبدأ حرية الفكر فوق كل اعتبار ديني– تأثير العرب؟ إنني لا أرى سوى جواب واحد عن هذا السؤال، وهو أن استقلالنا الفكري لم يكن في غير الظواهر وأننا لسنا أحرار الفكر في بعض الموضوعات. ويترامى لبعض الفضلاء أنه من العار أن تكون أوروبا مدينة في خروجها من دور الهمجية للعرب (الكفار)، ولكن من الصعب أن يحجب مثل هذا العار الوهمي وجه الحقائق”

وبالمناسبة فقد اعترف عديد من الغربيين المنصفين بهذا الجحود، ومنهم درابر الذي أكّد في كتابه “تأريخ الارتقاء العقلي في أوروبا” هذا الجحود الغربي، فقال: “من موجب الأسف أن الأدب الأوروبي حاول أن ينسينا واجباتنا العلمية نحو المسلمين، فقد حان الوقت الذي ينبغي لنا أن نعرفهم، إن قلة الإنصاف المبنية على الأحقاد الدينية وعلى العنجهية القومية، لا تدوم أبد الدهر”

ويبدو أن هذا النكران يَتّسق مع الصورة النمطية البشعة التي رسمتها مجاميع كبيرة من الغربيين للمسلم المتخلف الذي لا يعرف معروفاً ولا يهتدي سبيلا، والذي لا هَمّ له سوى اللهاث وراء النزوات وإشباع سُعار الشهوات من أي طريق كان، والذي لا يتورع في سبيل ذلك عن الغش والكذب والخداع، ولا يتردد عن اجتراح السرقة والقتل والاغتصاب، وبعد أن يشعر بالتخمة يعود إلى ممارسة الدِّعَة والبطالة ومضاجعة السلبية والكسل، متعللاً في كل ما يصيبه من انكسارات وما يواجهه من مصائب، بالأقدار ومتذرعاً بالظروف غير المواتية.

ويواصل التحامل الغربي تقديم المسلم في صورة نمطية شديدة القتامة، فهو بفطرته عندهم لا يحب العمل ويحب أن يعيش عالة على غيره، وإذا نشط فإنه يقوم ليقطع الطريق ويمارس السلب والنهب، ولا يراعي أي حرمة لمخالفيه في الرأي فضلاً عن المختلفين عنه في الحضارة والدين، فهو مجبول على العنف ويهوى إكراه الآخرين على اعتناق قناعاته، وقد اعترف بعض المنصفين بقيام الغربيين بصياغة هذه الصورة الشوهاء عمداً لتنفير الغربيين عن الإسلام، ومن هؤلاء نورمان دانييل في كتابه (الإسلام والغرب)!

إن هؤلاء الذين ابتكروا هذه الصورة النمطية المقززة عن المسلم لينفِّروا شبابهم من الإسلام، بما يمتلك من خصائص فريدة وقوى ذاتية آسرة، لا يمكن أن نتوقع منهم أن ينصفوا الإسلام ويعترفوا بفضل الحضارة الإسلامية على حضارتهم!
“وإذ ظن بعض المسيحيين المتعصبين –مثل رئيس الأساقفة أكزيمنيس الذي أحرق ثمانين ألف كتاب من كتب العرب بعد جلائهم عن إسبانيا– أنهم يستطيعون محو آثار المدنية الإسلامية من الأندلس، فإن هؤلاء فاتهم أن ما تركه العرب من طرق مُعبّدة وقصور مرفوعة ومشافي وفنادق مبثوثة، كل ذلك كان كفيلاً بتخليد اسم العرب، حتى قال لوبون إنه لا يوجد في إسبانيا المعاصرة من أعمال الريّ سوى ما أتمّه العرب”

وقد رد بعض المنصفين الغربيين على جهود السطو الجماعي التي قام بها عديد من علماء الغرب على التراث العربي الإسلامي، وذلك من خلال نسب الكثير من إنجازات المسلمين العلمية إلى أنفسهم، ومن هؤلاء المدافعين المؤرِّخ ل. سيديو الذي اعترف في كتابه (التأريخ العام للعرب) بفضل المسلمين في كل التخصصات العلمية ومنها علم الفلك، وقال في هذا الشأن: “إننا لو رغبنا أن ننظر إلى التقدم الذي أحرزه علماء العرب في العلوم الرياضية والفلكية، فإننا نجد أن العرب سبقوا الأوروبيين إلى أكثر الاكتشافات التي نسب الأوربيون اكتشافها إلى علمائهم”.

ولقد جازى الإسبانُ العربَ جزاء سنمار، فقد صنع العرب لهم حياة زاهرة مليئة بالمنافع والمباهج، وعندما تمكّن الإسبان أهالوا عليهم تراب الموت الزؤام. ويقرر محمد كرد علي أنه لم يستفد أي قطر من أقطار الغرب ما استفادته إسبانيا من العرب، وحينما رحلوا عنها نعق فيها غراب الدمار وفقدت صنائعها وزراعتها وعلومها، وأصبحت إسبانيا بعد مدة من خروج العرب أحطّ بلاد الغرب. ونقل عن ستانلي لانبول قوله: “إن فضل مسلمي الأندلس يتجلى في همجية الإسبان وتراجعهم في مراقي النجاح، بعد أن خلت أرضهم من الإسلام”، ونقل عن لوبون قوله: “ظن الكاردينال كيسمنس لما أحرق في غرناطة كل ما طالت يده من مخطوطات العرب وكانت ثمانين ألفاً –عدا ما أحرق في المدن الأخرى– أنه يحذف إلى الأبد من كتاب التأريخ ذكرى أعداء دينه، ولكن الأعمال التي قامت على أيديهم في تلك الأرض تكفي لتخليد ذكرهم على الدهر، وإن نفدت آثارهم المكتوبة”

ويبدو أن بعض المسؤولين الإسبان في عصرنا يشعرون بشيء من ألم الضمير لما اقترفه أجداداهم في حق المسلمين حينما فعلوا بهم الأفاعيل الشنيعة في ما سمي بمحاكم التفتيش، وللتكفير عما فعلوه ربما يكون لهم دور فاعل في إقامة جسر من التفاهم والتعاون بين العالمين الغربي والإسلامي، وفي التصدي لدعوات الصدام الحضاري التي يدق طبولها اليمين المتطرف في الجهتين.

وفي معرض الاهتمام بالدور العلمي الذي قام به المسلمون في صناعة الحضارة في بلاد الأندلس وقيامه بدور الرافعة الحضارية التي أوصلت الغرب إلى ما هو فيه من تقدم حضاري، من الواضح أن الإسبان يلعبون دورا كبيرا في هذا الاهتمام الذي يبرز من خلال المؤتمرات والندوات والورش والمشاريع الثقافية والمعارض الفنية والتنقيب عن الآثار.
وظهرت أسماء إسبانية عديدة نشطت في هذا المضمار، ومنهم على سبيل المثال خوليو سامسو الذي عمل أستاذا للغة العربية في جامعة أوتونوما ببرشلونة، وفي جامعة برشلونة فقد نظم بالتعاون مع أ. خوان فيرنيه معرض “آلات علم الفلك في إسبانيا العصر الوسيط وأثرها على أوروبا” في 1985م ومعرض “التراث العلمي في الأندلس” في مدريد: آذار – نيسان 1992م. ونشر بغزارة حول العلوم في الأندلس وفي حقول أخرى من الدراسات العربية.

ورغم محاولات الحرق والإخفاء التي تعرّض لها التراث العربي في بلاد الأندلس ولا سيما ما يتصل بإثبات بُنُوَّة الحضارة الغربية للحضارة الإسلامية، فإن المنصفين يرون أن المستقبل كفيل بالكشف عن الكثير من الكنوز المخبوءة.
ومن هؤلاء سيرافين استيبانيز كالديرون الذي قال حين استلامه لكرسي اللغة العربية في مجمع مدريد سنة 1848م: “يمكن للمرء أن يقول إن الأدب الإسباني المكتوب بالحروف العربية هو بمثابة جبال الإنديز بالنسبة للأدب الإسباني، إذ أنه بالفعل لم يُكتشف بعد ولم تجرِ دراسته، وهو يعد بكنوز ثمينة سيحصل عليها الأوائل من الرجال والنساء الذين سيقومون بزيارة هذا (الأدب المجهول)”

وفي ختام بحثها لقضية “التراث الإسلامي في الأدب الإسباني” لفتت الباحثة الإسبانية لوسي لوبيز بارالت الأنظار إلى صعوبة البحث في هذا المجال، فقالت: “إن من الواضح أن التوصل إلى تفاهم مع ماضي إسبانيا الشرقي، المزروع عميقاً وبصورة عجيبة في الوعي الوطني، هو مهمة معقدة في الحقيقة. وأنا واعية لكوني عالجت هنا القمة الظاهرة من جبل الجليد، إذ ينبغي أن يكون بحث المجال الكامل لتراث الإسلام في الأدب الإسباني، وبالضرورة، مهمة الأجيال القادمة”

وبمناسبة مرور خمسة قرون (أي في عام 1992م) على سقوط غرناطة وهي آخر معاقل المسلمين في الأندلس قامت الأكاديمية الأردنية د. سلمى الخضراء الجيوسي وهي رئيسة مؤسسة بروتا التي تهتم بإبراز العطاء الحضاري الإسلامي، قامت بالإعداد لهذه المناسبة، من خلال استكتاب عدد كبير من المستشرقين المهتمين بهذه القضية، وأكثرهم من الإسبان، وقد جمعت ما كتبوه في مجلدين ضخمين تحت عنوان (الحضارة الإسلامية في الأندلس)، ويتكون هذا العمل القيّم من 48 دراسة متخصصة عن مختلف نواحي الحضارة الأندلسية، وقد أعدها 42 أستاذا وأستاذة، معظمهم غربيون ينتمون إلى بلدان غربية عديدة، ومن الواضح أن أكثرهم من الإسبان، وتم ترجمته إلى عدد من أهم اللغات الحية.

وفي هذا السياق ظهرت عام 2005م فكرة تحالف الحضارات بمبادرة من إسبانيا، ودعا رئيس حكومتها لعقد أول مؤتمر من أجل هذا الغرض في مدريد في يناير 2008 برعاية ثلاثة أطراف رئيسية وهي: إسبانيا وتركيا والأمم المتحدة. وتوالت بعد ذلك المؤتمرات الدولية بصورة غير مسبوقة، فعقد المؤتمر الثاني في إبريل 2009 باسطنبول، وعقد المؤتمر الثالث في ريودي جانيرو بالبرازيل في مايو 2010، وانعقد المؤتمر الرابع في الدوحة في ديسمبر 2011، وانعقد المؤتمر الخامس في فيينا في فبراير 2013

ولو تم الاستمرار في هذا الطريق، مع إبراز نقاط التأثر والاقتباس المتبادل بين الحضارتين وإبراز القواسم المشتركة وفتح الأبواب للمنصفين من الطرفين؛ فإن ذلك سيضعف دعاة الصدام الحضاري، ويجفف منابع كثير من الحروب الباردة والساخنة، وسيقيم جسورا للتلاقي والتواصل، ويزيد من إمكانيات التعاون في المشتركات الدينية والإنسانية، ويسهم بفعالية في تمازج الحضارات من جديد ويُذكي عملية التقدم الحضاري، بما يُحقق الهداية والسعادة لكافة بني الإنسان.

دعوات غربية للاعتراف بجمائل المسلمين
ومن الإنصاف الواجب في هذا المقام، أن نذكر بأن هناك من علماء الغرب من لم يكتفوا بالاعتراف بفضل العرب والمسلمين على حضارتهم فقط، بل قاموا بالتنديد بالجحود الذي اتسم به كثير من المتحاملين منهم، واعتذروا عنهم للمسلمين، وذهبوا إلى وجوب الاعتراف بالفضل ورد الجميل للمسلمين، وعلى رأسهم الفيلسوف والمفكر الفرنسي جوستاف لوبون موضوع هذه المقالة الصغيرة.
ومن هؤلاء العالم الإيطالي لويجي رينالدي الذي طالب برد الاعتبار للعرب وإسداء الجميل لهم، وآرثر جلين ليونارد الذي اعترف بأن أوروبا النصرانية بذلت ما بوسعها منذ قرون لإخفاء يد العرب في الحضارة الأوروبية، ودعاها إلى الكَفّ عن نكران الجميل والانخراط في حالة من الشكر الأبدي.

ومن هؤلاء كبير المستشرقين الإنجليز في هذا العصر مونتجمري وات الذي رغم تحامله على الإسلام وعلى السيرة النبوية في بعض النواحي إلا أن قراءاته الواسعة كشفت له عن حجم التأثير الذي أحدثه الإسلام على الغربيين وعلى حضارتهم، فألف كتابا تحت عنوان (فضل المسلمين على الحضارة الغربية)، وقد اعترف بأن الكُتّاب المسيحيين في العصر الوسيط قد خلقوا صورة شائهة للإسلام من وجوه عديدة، وذكر أن المعاصرين يحاولون النظر بموضوعية إلى الإسلام وحضارته، ولكنهم يميلون إلى التهوين من التأثير الإسلامي على الحضارة الغربية بل ويميلون في أحيان أخرى إلى تجاهل هذا التأثير تجاهلا تاماً، في حالة مما سمّاه بالكبرياء الزائف، وقد دعا إلى الاعتراف بفضل الإسلام على الحضارة الغربية، ورأى أن هذا الأمر ضروري وواجب “من أجل إرساء دعائم علاقات أفضل مع العرب والمسلمين”.

وهناك عشرات من أعلام الفكر والثقافة الغربية الذين تبنوا دعوة الإنصاف والاعتراف بفضل الإسلام وحضارته العظيمة على أوروبا وحضارتها الحديثة، ولا تسمح طبيعة هذا المقال بإيرادها.

شاهد أيضاً

قتيل إسرائيلي في كريات شمونة بعد قصفها بعشرات الصواريخ من لبنان

قال حزب الله اللبناني إنه أطلق عشرات الصواريخ على مستوطنة كريات شمونة، ردا على غارات إسرائيلية على مركز إسعاف أدت إلى مقتل 7 متطوعين، بينما أعلنت الطوارئ الإسرائيلية مقتل شخص جراء القصف على كريات شمونة.