التصالح مع النفس

بقلم سفيان أبوزيد

نحو تصالح مع الفطرة لا مع الهوى..

كثر الحديث حول التصالح مع النفس، فيقول لك الشخص لقد تصالحت مع نفسي، وأنا متصالح مع نفسي، وتصالح مع نفسك..

فيا ترى ما حقيقة هذا التصالح؟

أولا إذا وقفنا عند كلمة التصالح نجد فيها معنى التفاعل والتشارك أي تثبيت الصلاح والصلح وزيادته وإزالة نواقصه ونواقضه، إذن فهي عملية تثبيت وإزالة وتنمية وتطوير مادتها الصلح والصلاح والإصلاح..

ثانيا إذا وقفنا عند كلمة النفس أو الذات، نجدها مركبا ومكونا من مادة وهي الجسد وعقل وروح، وكل عنصر من هذه العناصر تجري معه عملية التصالح، وليس مع عنصر دون آخر أو مع عنصر على حساب الآخر..

إذن فالتصالح هي عملية مكونة من ثلاثة إجراءات: تثبيت لقواعد وأصول لا يمكن إقصاؤها ولا إلغاؤها ولا تجاوزها ولا استبدالها، وإزالة لما هو ليس من الذات او النفس ولا علاقة له بها، او مما هو ضرر لها، حتى تكون النفس نقية صافية من الشوائب، وتنمية أي تطوير لما يمكن تطويره من هذه النفس مما هو قابل للتطوير والتقوية والتنمية..

وحتى تنجح هذه العملية لابد أن نميز بين ما ينبغي تثبيته وكيفية التثبيت، وبين ما ينبغي إزالته وكيفية الإزالة، وبين ما ينبغي تنميته وكيفية التنمية، وأن نوازن في هذه العملية بين تلك العناصر الثلاثة السالفة الذكر (الجسد والعقل والروح)
إذن فعملية التصالح هي على الشكل الآتي:

((تثبيت + إزالة + تنمية) بالقدر والكيفية المناسبين / الجسد والعقل والروح) × توازن = تصالح مع النفس أو الذات

فهذا التصالح ليس عملية استكانة وميول وراحة واستجمام وثبات فقط ، أو حركة واحتكاك فقط، أو إزالة واستئصال ومخالفة فقط..
وإنما عملية مركبة من الجميع متوازنة موجهة إلى هدفها الصحيح بالكيفية والقدر المناسب…

وكلما كانت العملية متوازنة كان التصالح صحيحا ومريحا ومفيدا ومثمرا… وكلما مالت كفته إلى جانب كان تبليدا لها أو سحقا لها أو إرهاقا لها…

ولنأت الآن إلى هذا المركب:

التثبيت: والمقصود به بقاء بعض الأصول والمنطلقات، والتأكيد والتأكد من ثباتها وعدم تغيرها أو إلحاقها بزيادة او نقص أو تبديل أو تطوير، ومن ذلك : بشرية الإنسان، فالله تعالى خلقنا بشرا ويريدنا أن نكون بشرا وأن نبقى بشرا وأن نلقاه بشرا، ولذلك أرسل لنا رسلا بشرا، وكلمنا كلاما يفهمه البشر، فلا مجال إلى تغيير هذا الثابت أو زعزعته أو تبديله، فلابد أن نبقى في إطار بشريتنا بما تقتضيه البشرية من ميزات ومشتركات مع باقي المخلوقات، دون نزول إلى البهيمية ولا اعتلاء للملائكية، وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة سواء فيما يتعلق ببشرية الرسل وتصريحهم واحتجاجهم بتلك البشرية، أو بشرية المرسل إليهم وتثبيتهم على تلك البشرية..
ولما نتحدث عن البشرية فإننا نتحدث عن مادة وشهواتها ونوازعها وعقل وطموحه وتطلعاته، وروح وصفائها ونقائها ورقتها…
نأتي إلى ثابت آخر وهو حب الخير والجمال، مع اعتبار للتفاصيل والفروع التي قد يلحقها بعض الاختلاف، إلا أن حب الخير والجمال مركوز في ذات الإنسان لا يمكن ولت ينبغي إقصاؤه أو إلغاؤه.. وهكذا الأمر في باقي الثوابت والأصول..
وإذا جئنا إلى هذه الثوابت حسب عناصر الذات فنجد بأن من ثوابت الجسد حدود الطاقة والوسع، ومن ثوابت العقل التفكير والتطلع والتساؤل، ومن ثوابت الروح الصفاء والطهارة..فكل هذا ينبغي أن يحافظ على ثباته ويركز على ذلك الثبات..

الإزالة: والمقصود بها الحذف والتطهير والقلع والاستئصال لكل ما ليس من الذات أو يشكل ضرر عليها..
كالاوساخ بالنسبة للجسد، وإن كان في المادة قابلية للاتساخ والتعفن إلا أنه ينبغي الحرص على إزالة كل تلك الشوائب..
وكالتعطيل بالنسبة للعقل أو تجاوزه حدود وسائله ومستقبلاته دون دعم رباني يقيني كما هو الأمر في النبوة..
فأي تعطيل أو تجميد أو تخلف او قلب أو تنكيس او تجاوز وتعد للعقول لابد من إزالته وحذفه واستئصاله..
وكتبليد الروح وتغليظها وتجفيف منابع تزودها وتطهرها.. فهذا كله ينبغي إزالته وتطهير الروح منه..

والتنمية: والمقصود منها تطوير الإمكانات والوسائل وتجويد الذات وتجديدها، وهذه العملية فيها إضافة وتصحيح، كتنمية الجسد بالرياضة وتجويد فاعليته بالغذاء المنتظم السليم وتصحيحه بالاستشفاء والتطبب، وتنمية العقل بالتعلم والتعليم والمذاكرة والتجريب وتصحيح مفاهيمه المغلوطة.. وتنمية الروح بالحرص على القيم وترسيخها وتصحيح مفاهيمها وجرعها..

هذه نماذج من عملية التصالح مع الذات..
والملاحظ أن هذا التصالح هو حركة دؤوب وليست استكانة او ركونا للميول والهوى واللذة، والتطبيع مع مطلق العوائد التي قد يظن الإنسان إنها من صميم الذات أو من العفوية، وإنما التصالح الحقيقي هو حسن تدبير العلاقة مع الذات وفق تلك العناصر الثلاثة وفي إطار ثلاثي تلك العملية..

ولا شك أن الله عزوجل هو خالق هذه الذات ومكونها والعليم الخبير بسرها وخفيها، والقيوم على حياتها، والآذن بنهايتها، فهو الأعلم بما يصلحها وبوصفة تصالحها، وذلك من خلال الوحي الذي يعتبر (كتالوكا) أو مرشدا وموجها لهذه النفس سواء في علاقتها الداخلية أو مع غيرها أو مع ربها، شريطة أن يكون مأخذنا لهذا الوحي وفق مراد منزله ومشرعه، وليس بإضافة او نقصان أو لي.. هنا تتراءى لنا النصوص التي تناولت الفطرة وتحدثت عنها ورغبت في الثبات عليها، وإزالة شوائبها وتنميتها وتجديدها وتجويدها..

فلا تصالح خارج إطار الفطرة ولا توازن دون إدراك للفطرة ولفقه الفطرة الذي سيكون لنا معه وقفات لاحقة..

وكل تصالح فيه إلغاء لها أو تغيير لها او اختلال لتوازنها فليس من التصالح في شيء وإن ظهر تصالحا..
فلا تصالح في التطبيع مع الظلم
ولا تصالح في الرضى بالذل
ولا تصالح في التطبيع مع المعصية
ولا تصالح في الفوضى والاستهتار
ولا تصالح في القهر للنفس وتعذيبها
ولا تصالح في التقليد الأعمى والتعصب
ولا تصالح في قطع العلاقة مع الرب
ولا تصالح في الحدس والتخمين والجحود والعناد والتعاقل والتعالم
فما هذه إلا تصالح مع الهوى وتطبيع مع اللذة واختلال لميزان الفطرة..
(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين)
فتثبيت الثابت جهاد
وإزالة الشائب جهاد
والتنمية والتجديد والتجويد جهاد
والمعية الربانية الإلهية مع المحسنين والمتقنين لذلك الجهاد..
تذكير: من حرص على ورده اليومي من أذكار الصباح والمساء وأضاف إليه وردا من القرآن، فإنه سيقطع شوطا كبيرا في التصالح مع الذات..

نسأل الله التوفيق والسداد والإمداد

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".