و لا تسرفوا

بقلم الشيخ سفيان ابو زيد

(قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا. إنه هو الغفور الرحيم* وأنبيوا إلى ربكم وأسلموا له، من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون* واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون)

لماذا كانت هذه الآي أرجى الآيات؟
لنتأمل هذه الآيات ونتبين هذه الخاصية، ونتعرف على علاجات الإسراف على النفس والخطوات المعالجة له من خلالها..

بدأت الآية بأمر (قل) وهو علامة على الاهتمام بالمقول كما هو شأن كل الآيات المصدرة بهذا الأمر، أن الآمر فيه صراحة دون لبس أو احتمال هو الله عزوجل، وفي ذلك زيادة طمأنة وتوثق ويقين…

ثم جاء النداء ب(يا) الدالة على قرب المنادى فأنتم قريبون غير بعيدين، فلا تستطيلوا المسافة، ولا تستثقلوا الرجوع…

ثم عبر عن أولئك المسرفين بكونهم (عباد) عبودية تشريف، فإسرافكم السابق لم يخرجكم عن كونكم عباد، ولم يزل عنكم وسام العبودية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل نسبهم إليه سبحانه بياء متكلم مفردة ولم يقل (عبادنا) وفي ذلك من التودد والتقريب والتقرب ما فيه، وفي ذلك من الانفراد بتلك العبادية، فأنتم عبادي أنا لا غيري…

وناداهم بالجماعة لا بالفرد حتى لا يكون هناك إحراج بالتفريد والتعيين، وهذا على شاكلة (ما بال أقوام) وحتى يكون النداء خفيفا على المنادى…

ثم عبر عن خطإهم في حق ربهم بأنه إسراف، والإسراف فيه معنى التجاوز والتبديد والغفلة والجهل والفساد والإفساد والولوع وقلة العقل، وكل هذه المعاني فيها اعتبار الحال، وإشارة إلى الضعف الذي يعتري الإنسان، من غفلة عن المصلحة الحقيقية والمفسدة الحقيقية، وجهل بمآلات وعواقب الأمور، وولوع ببعض الملاذ التي قد تكون محرمة ومن أهم أسباب ذلك هو قلة العقل التي تكون في تعطيله او مجاوزته حده، مما قد يؤدي إلى تبديد للطاقات وتجاوز للحد وفساد وإفساد، فجاء فعل (أسرف) ليعبر عن كل تلك المعاني، التي فيها إشارة واضحة للرغبة في صلاح ذلك المسرف، واعتبار حاله وضعفه…

ثم جاء فعل (أسرفوا) ماضيا للدلالة على أمرين:
أولا- على تحقق الإسراف، فالفعل الماضي يدل على وقوع الفعل وتحققه، فالإسراف قد حصل ووقع دون لبس أو شك…
ثانيا- أن الواقع في الإسراف قد توقف عنه ويبحث عن العلاج والحل، فلا ينفع دواء مع استمرار دواعي الداء، فالمسرف قد أدرك أنه مسرف، وأنه قد وقع في الإسراف، وهو يبحث عن حل!! أما المتمادي في مسلك الإسراف، والمقبل عليه، فلا يقف عند هذه الآية ولا يرجو برأها وعلاجها…

ثم عدى فعل الإسراف بعلى ولم يعده بفي الدالة على التفصيل، فالمقام ليس مقام محاسبة ولا تحقيق او تدقيق، وإنما المقام مقام علاج وإنقاد ورحمة وتقرب وتقريب وعطف، والمناسب لهذا هو التجاوز الجملي الذي لا يقف عند التفاصيل وإنما ينظر في المآل، فقد أسرفوا في أشياء كثيرة ظنا منهم أنهم يصلحون أنفسهم ويكرمون انفسهم، ويعزون أنفسهم، ولكن بجمع كل تلك الإسرافات بغض النظر عن محالها ومواقعها وتفاصيلها، فقد عاد كل ذلك على أنفسهم بالفساد والتجاوز والضلال، تلك الأنفس التي ظننتم أنكم تسعدونها وتكرمونها، فقال على أنفسكم، ففيه غض طرف عن التفاصيل، وتذكير بالمآل..

ولم يصفهم بالمسرفين، حتى لا تكون صفة وعلامة لهم، وإنما جاء بالاسم الموصول وما بعده من صلة لإبهام ذلك، فهم وقعوا في الإسراف، ولكن دون وصفهم به.. وهذا إمعان لتلك الرحمة وذلك التعطف والتلطف..

الآن نأتي إلى الوصفة العلاجية لذلك الإسراف:

أولا- لا تقنطوا من رحمة الله، عدم القنوط، وهذه الخطوة قد أغفلت من الذين تحدثوا عن شروط التوبة، فاول تلك الخطوات والعلاجات، هو عدم القنوط، وهو أشد اليأس، واليأس انقطاع الطمع من الشيء، فأهم أسباب الرحمة هي الطاعة، والالتزام والانضباط، وهذا مناقض للإسراف والتجاوز، وكلما زاد الإسراف إلا وضعف سبب تلك الرحمة وتضاءل وانعدم، وبالتالي يصيب المسرف يأس وفقدان أمل في تلك الرحمة، هنا يغير القرآن المعادلة ويرمي طوق النجاة لذلك الذي أغرقه إسرافه، حتى وصل إلى أقصى درجات اليأس، وهي القنوط فيقول له صراحة وبنهي واضح (لا تقنطوا من رحمة الله) فمهما ضعف حبل تلك الأسباب أو انعدم، فحظكم من الرحمة لم ينعدم، ولم يحذف أو يلغى، وإن انعدم سببه، وهذه الرحمة هي رحمة خاصة غير تلك الرحمة العامة لكل مخلوق، ونسبها إليه سبحانه ليزداد رجاؤها ونوالها، ولم يقل (رحمتي) كما قال (عبادي) وإنما نسبها إليه بصيغة الغيبة الحاضرة، فاللفظ غيبة، ولكن صاحبها هو المخاطِب والمنادي، لينبه إلى الاسم الأعظم، وسيد الأسماء وأعرف المعارف، (الله) الذي فيه معاني العبودية والوله والحيرة، فهي رحمة الله، الذي يخاطبكم ويناديكم، ففي (عبادي) كان التقرب والتقريب مقصودا، وفي (الله) كان معنى تعظيم تلك الرحمة مقصودا..

فأول علاج لذلك الإسراف مهما كان حجمه، وشكله وعدده وكمه، هو عدم القنوط من رحمة الله، فلا قنوط ولا تقنيط، فلا ينبغي لذلك المسرف أن يقنط، ولا ينبغي لأحد كائنا من كان أن يُقَنِّطه من رحمه الله…
فأول شروط التوبة والرجوع هو عدم القنوط من رحمة الله، وهو أول علاج للإسراف، واول خطوة للتخلص من الإسراف، وتمهيد الطريق للرجوع..

العلاج الثاني
إن الله يغفر الذنوب جميعا
جاء هذا العلاج وهذه الخطوة بمؤكدات، الأول (إن) فهو غفران مؤكد، والثاني (الجملة الاسمية) الدالة على ثبات والثبوت، فهي مغفرة ثابتة مثبتة، وصدرت بلفظ الجلالة، ولم يقل ( إني أغفر الذنوب جميعا ) وفي ذلك التفات ولفت لمعنى التعظيم فمصدر تلك المغفرة والقرار الأول والأخير فيها يعود إلى الله سبحانه، وجاء الخبر جملة فعلية مضارعة (يغفر) للدلالة على تجدد تلك المغفرة، ومواكبتها في الحاضر والمستقبل، فهي مغفرة مستمرة مأمولة غير ميؤوس او مقنوط منها، وجاء التعبير بالمغفرة دون العفو، لأن التفصيل مقصود هنا بخلاف الموضع الأول (على انفسهم) فالمغفرة تكون لتفاصيل الأخطاء والإسرافات والتجاوزات، وجاء تأكيد ذلك التفصيل بذكر المفعول الذي هو مفهوم دون ذكره، فالمغفرة لا تكون إلا لذنب، ولكنه سبحانه صرح به هنا، للدلالة على ذلك الغفران المفصل، وعبر عن الخطإ هنا بالذنب الدال على ما قصد لذاته وما كان قبيحا ويتبعه ذم، للإمعان في ذلك التجاوز المدقق، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل ذكره بالجمع (الذنوب) وأكده، ب(جميعا) فلا يستعص خطأ ولا ذنب عن سيل المغفرة المطهر من كل دنس ونجس…
وزاد التأكيد اللطيف والمطمئن بقوله تعالى (إنه هو الغفور الرحيم) مؤكد بإن الداخلة على ضمير دال على توثق معرفته وتعريفه، فهو معروف لا يحتاج إلى زيادة تعريف، ثم جاء المؤكد الآخر (هو) فهو فعول في المغفرة كثير المغفرة لا يعجزه ذنب، ولا تستعص عليه معصية، وهو سبحانه فعيل في الرحمة، لا يحول دونها حائل، وهي رحمة خاصة بالمنيبين، لذلك جاء العلاج الثالث…

العلاج الثالث:
وأنيبوا إلى ربكم
فالإنابة رجوع خاص، لا يكون إلا إلى الطاعة والخير، وفيها معنى المدح، فالمنيب العائد إلى الخير، وفيها تنبيه لما يستقبل من الزمان والأفعال والتصرفات، فكما قلنا بأن الإسراف جاء بفعل ماض دال على الرغبة في الانتهاء والتخلص منه، كذلك الأمر هنا، فالإنابة تكون بترك ذلك الإسراف في المستقبل، وعبر بالإنابة التي فيها معنى القرب والتقرب، الحاصل بالقصد العام، فلا بد ان يكون هذا القصد مستصحبا مستحضرا، متوجها في تقربه إلى (ربكم) هنا تعميق لذلك القرب والتقرب، لم يقل (إلى الله) وإنما وصف نفسه هنا بالربوبية التي فيها من معاني التربية والتدبير واللطف، والعناية والإكرام، الشيء الكثير، ولم يقل (إلي) وإن كان فيه معنى القرب ولكن ذكر الربوبية هنا مقصود، وإضافة (الرب) هنا إليكم أيها الذين أسرفوا فهو ربكم ولا رب لكم سواه، فتوجهوا وأنيبوا له بالربوبية كما رحمكم وغفر لكم بالألوهية…
فالعلاج الثالث والخطوة الثالثة، هي الإنابة العامة المطلقة التي سفينتها الربوبية العامة الشاملة…
ومنهج تلك الإنابة يكون في الإسلام الذي هو العلاج الرابع والخطوة الرابعة

العلاج الرابع:
وأسلموا له
والإسلام هو ضابط ذلك الإسراف، فليس هناك حرمان، ولكن هناك تقنين، موافق للفطرة وجالب للمصلحة الحقيقية، ودارئ للمفسدة الحقيقية، فهو أعم من الإيمان، فهو إسلام عقلي وروحي وجوارحي، وهو بيان لمنهج تلك الإنابة، وكأن ذلك المسرف سأل: كيف تكون تلك الإنابة؟ فقال له الله عزوجل : بالإسلام، فكما أنك أسرفت رغبة في الوصول إلى أقصى درجات مصالحك، وللابتعاد عن كل المفاسد والأضرار التي قد تحيق بك، فالمنهج الوحيد الذي يمكنك من ذلك حقيقة، مع توازن هو الإسلام، وسمي إسلام لأنك تسلم فيه حاضرك ومآلك ومعادك لله عزوجل لما تيقن لديك من سلامة مسلكه ونجاعته، فأكسبك ذلك ثقة فيه وفي مسلكه ومنهجه ومآله ومقصده، ففيه معنى الالتزام والانقياد لما فيه السلامة في الحاضر والمآل والمعاد…
فابتغاؤكم النصر والانتصار والتأييد والنجاح في معركتكم في المصالح والمفاسد الحقيقية لا يكون ذلك إلا بالإنابة والإسلام، قبل أن يفوت الأوان ووقوعكم في الوهم والوهن والهوان، فتصيبكم نار إسرافكم في الدنيا والآخرة…

وتلك الإنابة وذلك الإسلام، مبني على فهم وموازنة، وهذا هو العلاج الخامس والخطوة الخامسة:
واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم
في هذه الآية دلالة على أن هناك مراتب لما انزل بعضها ارفع من بعض، وأن ذلك التمييز يحتاج إلى تدبر وتأمل وقانون ومعيار، واجتهاد وتحر، فالإسلام كل الإسلام فيما انزل من الوحي، إلا أن ذلك الاتباع لابد فيه من فهم وتأمل واجتهاد، واختيار للأفضل والأحسن، حتى تبقوا وتظلوا في دائرة الإسلام، وعبر هنا بالأحسن الذي لا يدل على الأشد او الأحوط، وإنما فيه معنى الجمال والحسن ومعنى الجودة والجدة والجدوى وفيه معنى الإتقان والإحسان، فالأحسن الأجمل والاجود والأجدى والأتقن.. وهذه المعاني تظهر في القواعد والكليات والمعاني العامة التي جاء بها الوحي، لذلك عبر ب (أنزل) وهذا المنزل هو موجه إليكم وخاص بكم، فكلما حُرِص على هذا، فإن ثمرة تلك الإنابة وجني ذلك الإسلام، سيكون ظاهرا واضحا، وسيعود ذلك على التفاصيل والجزئيات، وسيسير الركب في طمأنينة واستقرار مع بلوغ المصالح والمنافع ودرإ المفاسد والمضار في توازن، حتى يصل إلى بر الأمان في الدنيا والآخرة دون مفاجأة خراب ولا سقوط في عذاب…وعبر بالشعور للإمعان في التحذير…

فهذه خمس معالجات، استحقت هذه الآي بها، أن تكون أرجى الآيات..

والله أعلم

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".