كورونا والاقتصاد القيمي (ولا تنسوا الفضل بينكم)

سفيان أبوزيد

جاءت هذه المقالة إلهاما من كلمات أرسلها لي أخ عزيز قارئ متدبر جزاه الله خيرا فقلت:

جاءت هذه الآية في سياق نهاية أصغر علاقة يبنى عليها المجتمع وهي الزواج، فنهى المنفصلين هذا النهي المركب من نسيان الفضل المتبادل الماضي..فإذا كان إنهاء هذه العلاقة المكتسبة الوثيقة التي سماها الله تعالى في مواضع أخرى ميثاقا غليظا وسماها إفضاء وسماها لباسا وسكنا إلى غير ذلك من الأوصاف الدالة على الوثاقة والالتزام والتي لا يفكها إلا مفك قوي، اوصى عند حضور ذلك المفك وحصول الانفكاك والانفصال، اوصى بهذه الوصية ونبه إلى هذا النهي الذي يعتبر أصلا وقاعدة يمكن اجتزاؤه من هذا المقام ووضعه في أي علاقة أخرى هي أقل وثاقة والتزاما وارتباطا من هذه العلاقة فيسري مفعوله ويكون له أثره، ومن تلك العلاقات المهمة والتي عليها قوام الحياة، وبها يتسلق الإنسان في درجات المستقبل ويتطلع إلى تحقيق أهدافه وغاياته، وهي علاقة المال والاقتصاد..

وغالبا ما تكون هذه العلاقة بين فكرة ومادة وعمل، وفي الغالب يكون التشارك والتعاون بين هذه الثلاثة، فشخص يأتي بفكرة والآخر يأتي بما يدعم ويحقق تلك الفكرة من دعم مادي ومعنوي والثالث يأتي ليعمل، فيتحقق الهدف والربح والمصلحة المرجوة من الجميع، فصاحب الفكرة تحققت فكرته، وصاحب المادة تحقق ربحه، والعامل تحقق عيشه، وفي الحقيقة لا غنى لأحد على الآخر، فصاحب الفكرة فقير من جهة إلى المادة والعمل، وهو متفضل بفكرته وصاحب المادة فقير إلى صاحب الفكرة والعمل وهو متفضل بمادته، والعامل فقير للفكرة والمادة، وهو متفضل بعمله. فالفضل متبادل وتشاركي والفقر متبادل وتشاركي..فلو بخل صاحب الفكرة لما كان هناك مشروع ولو بخل صاحب المادة لما تحقق له ربح ولو بخل العامل لفشل المشروع وانقطع عيشه..

وهنا يأتي التذكير بهذه القاعدة الأصيلة والجميلة التي نستعيض بها اقتصادا بني على الحرية الماحقة الساحقة لكل ضعيف أو مبتدئ، وعلى تعال ومنِّ على كل عامل متعيش، وعلى شراء للعقول والذمم، وعلى جشع وبخل لا يبقي ولا يذر.. وعلى خداع ومكر وكذب ومادية صرفة لا رحمة فيها ولا شفقة..
هذا الرعب وهذا الإرهاب الذي حول الإنسان إلى متأله متغطرس يرى الارواح مجرد ارقام وعملات، يسحق كل شيء ليصل إلى ربحه وغايته، ينثر الفتات ليمتص الملايير، يعتبر الإنسان آلة ذات صلاحية إذا ما انتهت رميت في محفل المخلفات..وفي المقابل يرى أن رب العمل مستغل عدو قاتل ينبغي الانتقام منه والتخلص منه واستعمال كل أساليب الخداع والمكر والكذب والاختلاس والنهب لإضعافه والنيل منه..

هذه العلاقة المتربصة الفاسدة المتوغلة والمتغلغة، وإن أطرها قانون أو حرص على حقوق، أو صرامة في التطبيق فإنها سرعان ما تنفجر، أو تبحث عن الحيل والالتواء وأساليب المكر والخداع والانتقام..

نستعيض عن هذا الاقتصاد الساحق الماحق باقتصاد الفضل والقيم والتشارك، ولا تنسوا الفضل بينكم..

ففي هذه الوصية نهي مركب مما يلي:

النهي عن النسيان: فالنسيان هو عدم التذكر، وهو مذموم هنا، فالله عزوجل أكرم هذه الانسان بذاكرة وحافظة ينبغي ان يستعملها ويستخدمها،ولكن يجب أن يكون ذلك الاستخدام نافعا إيجابيا شكرا لله على هذه النعمة العظيمة..
وهو جر واستجلاب للماضي الذي يحتوي على تفاصيل كثيرة و أحداث كبيرة وصغيرة، ظاهرة وخفية، مسرجة ومظلمة، قديمة وحديثة، وإيجابية وسلبية، سارة وضارة..فالاهتمام بالماضي وعدم نسيانه وإهماله مهم إذ بالماضي يعرف الحاضر، ويسار إلى المستقبل..

ولكن هذا الاستحضار للماضي جاء مقيدا بقيد يكاد يكون صبغة وعلامة ونتيجة لمختلف تفاصيله وهو قيد (الفضل) والفضل الزيادة، وهو أعلى درجة من الحساب والعدل، وفيه دعوة إلى استصحاب ثقافة الفضل والزيادة، فينبغي لكل طرف أن يمعن من طرفه ويحسن من طرفه، ويزيد من عنده، ويسبغ عمله، وإن كان على حساب حقه في كل الأحوال والظروف وخاصة القاسية منها.
وجاء الفضل معرفا للدلالة على ذلك، فلم يقل (فضلا) وإنما عرفه فهو فضل معروف واضح جلي مذكور كثير لا ينسى ولا ينبغي أن ينسى أو يهمل، بل يجب أن ينسخ ويلصق في ملف المذكورات لا المحذوفات والمنسيات..

وإذ أسقطنا هذا الفضل على العلاقة المالية والاقتصادية بين صاحب الفكرة وصاحب المادة والعامل، فينبغي ان يشمل ويعم كل خير وكل كرم وكل تضحية وكل جود وكل ربح محقق وكل غض طرف، كل من موقعه وحسب دوره ومسؤوليته، فالفضل عام شامل سابغ لكل الأطراف..

هذا الفضل جاء مقيدا بقيد مهم وهو البينية الدالة على التبادل، فهو فضل بيني وليس من طرف واحد، فهو فضل بمعنى التبادل ولا فضل بمعنى الأحدية، فهو فضل لا تفضل، فلا يحسبن صاحب الفكرة أنه المتفضل الأوحد وأن لولاه لما وجد صاحب المال ربحا، ولا يحسبن صاحب المادة أنه المتفضل الأوحد، ولولاه لما اندثرت الفكرة ولما عاش العامل، ولا يحسبن العامل أنه المتفضل الأوحد، ولولاه لما ربح صاحب المادة، فالفضل الحقيقي والمثمر هو تذكر فضل الآخر علي وليس فضلي عليه، وهذا ما أدعو إليه من وجوب اعتناء الفقهاء والأصوليين من قضية توجيه الخطاب، وتمييز الموجه له الخطاب حتى يحدث هذا الفضل ويسبغ بالإحسان..

فلو استصحبت القوانين المنظمة للعلاقات الاقتصادية العملاقة والكبيرة والمتوسطة والصغيرة هذه القاعدة وهذه الوصية، ولو كان هناك حسبة ودورات توعوية تثقيفية تربوية على هذا الفضل، لحولنا اقتصادنا واقتصاد العالم إلى اقتصاد قيمي بامتياز، ولتجاوزنا كثيرا من الإشكالات خاصة في الأزمات..

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".