وطنية سايكس بيكو !

بقلم : إيهاب السعيد

وقف قائد جيش الفاتحين على حافة نهر دجلة الذى يفصله عن مدينة (اسفانبر) عاصمة الإمبراطورية (الفارسية) وهو يشاهد انهزام القوات المدافعة عن المدينة أمام الكتيبة (الخرساء) المكونة من 600 جندى،والتى خاضت النهر رغم الفيضان نحو المدينة كطليعة لجيشه الذى بقى معه على الضفة الأخرى من النهر. ولما شاهد القائد الفاتح العظيم انهزام الجيش الفارسى التفت نحو جيشه يأمره كله بالخوض فى النهر والعبور نحو المدينة، وقال لهم:”اعبروه مثنى مثنى”. وذلك حتى يكونوا عونا لبعضهم البعض. ثم أشار القائد إلى رفيقه الذى سيخوض النهر معه، رفيقه الفارسى !!.

نعم فارسى، فارسى يقاتل بنى قومه ويسعى لإسقاط دولتهم مع جيش من الفاتحين من غير بنى جنسه ولا قوميته، والعجيب انه لم يكن الوحيد. بل كان فى الجيش عشرات آخرين، وربما مئات أو آلاف ممن هم مثله وقد انضموا لجيش الفاتحين يقاتلون جيوش قومهم ويعينون عليهم!!!.

هل نحن أمام خيانة وطنية ؟!
وفى ناحية أخرى من العالم، وفى وقت آخر …

جيشان مصطفَّان أمام بعضهما لم يحدث بينهما قتال بعد، أحد الجيشين هو جيش الإمبراطورية الرومانية، فيخرج من الجيش الرومى أحد قواده ويطلب مقابلة امير الجيش الآخر ،فخرج له. فلما اقتربا وكل منهما رافع سيفه وماسك درعه، طلب القائد الرومى الأمان من الثانى؛ فأمنه وخفض سيفه، فخفض الآخر سيفه ولكن احتمى كل منهما بدرعه يخشى الخيانة من الآخر، واقترب كل منهما من الآخر، فى وسط الأرض الفاصلة بين الجيشين، ودار بينهما حوار لدقائق، فلا يكاد ينتهى ذلك الحوار حتى ينطلق القائد الرومى مع غريمه إلى خيمته،ثم يخرجان بعد وقت ليس بالطويل منها، ليقاتل القائد الرومى إلى جوار غريمه ضد جيوش بنى قومه، وضد جنود وطنه حتى يلقى الله وهو على ذلك.

هل تلك خيانة وطنية اخرى؟!

فى مقاييس (الوطنية) المستحدثة، فإن ما فعله ذلك الفارسى هو خيانة تستوجب الإعدام، ولو تمت محاكمته هو وأمثاله من المنضمين إلى جيش الفاتحين أمام محاكم العصر الحديث، لاتهموهم بكل نقيصة ومسلبة، ولربما سحبوا منهم جنسية دولتهم واعلنوهم خونة مجرمين.

وفى مقاييس الوطنية المستحدثة، فإن ذلك الرومى هو جندى خائن لجيش بلاده، وجزاؤه هو إعدامه فى أرض المعركة.

ولكن هل مقاييس الوطنية هى المقياس الحق؟!.
وهل الموالاة على الوطن هو الولاء الصحيح؟!.
وما الذى حمل أولئك الذين روينا عنهم أن يفعلوا ما فعلوه؟!.

جيش الفاتحين هو جيش المسلمين، وقائده العظيم هو الصحابي الجليل سعدبن أبى وقاص رضى الله عنه ،و رفيقه الفارسى الذى يعين على قومه ويقاتل من اجل إسقاط دولتهم هو الصحابي الجليل سلمان الفارسى رضى الله عنه.

أما القائد الرومى فهو (جرجه) الذى قاتل مع خالد بن الوليد رضى الله عنه بعد إسلامه بين يديه واغتساله فى خيمته وصلاته لركعتين، قاتل بعدها فى صفوف المسلمين ضد قومه من الروم حى قتل على ذلك.

أين الخطأ اذن؟!

الحقيقة أن هؤلاء فعلوا ما فعلوه لأنهم كانوا يحملون عقيدة تربوا فى ظلها حددت لهم حقيقة الموالاة، إنهم تربوا على قول الحق”إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا “، وكان كل موالاة دوت ذلك عندهم عبث، لأن قلوبهم وعقولهم استمعت ووعت قبل آذانهم كلمات من أمروا بالأخذ عنه صلى الله عليه وسلم وهو يقول ” أَلا وَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمِيَّ “.

تعلموا أن الغضبة للقوم والعشيرة من دون العقيدة هى غضبة جاهلية، وشاهدوه وهو يعنف المهاجرين والأنصار حين كادوا يقتتلون على ماء قائلاً “ابدعوى الجاهلية وانا بين ظهرانيكم”.تعلموا أن المولاة للقوم والقبيلة والعشيرة جاهلية، وإن المولاة على الجنس العربى جاهلية، وإن كل موالاة لغير الله ورسوله ودينه جاهلية، تعلموا أن المسلمين أمة واحدة،وارضهم واحدة،ودولتهم واحدة، ودماءهم واحدة، وعدوهم واحد، ونصرهم واحد.

والغريب أن تلك الأمة التى كانت بدايتها هى وضع كل موالاة إلا الموالاة لله تحت اقدامها عادت بعد عقود طويلة لتلتقط نوعاً آخر من المولاة وترفعه فوق رأسها، ولكنها لم تلتقطه من تحد اقدامها، بل من تحت أقدام أعدائها!!!.

الموالاة للأرض !

فالموجودون على تلك المساحة من الأرض المسماة (وطنا) هم من يستحقون النصرة والمحبة والبذل، أما من هم خارجها فموالاتنا لهم اقل،أو قل لا موالاة على الإطلاق، فلا دخل لنا ان حاصرهم أعداء الأمة حتى الموت جوعا، أو قتلوهم بقصف الطيران والمدافع. لا دخل لنا طالما أننا آمنون على قطعة الأرض التى سميناها وطنا.

لكن الغريب هو أننا لسنا نحن من اخترنا الوطن ووضعنا حدوده !. الحقيقة المرة أن أعدائنا هم من حددوا الأوطان ورسموا حدودها. فبعد أن عانوا قرونا طويلة من (الأمة الواحدة) التى تبنى ولائها على الأساس العقدي الذى نزل فى الشريعة الربانية، الأمة الواحدة ذات الوطن الواحد المترامى الأطراف بين الصين والمحيط الأطلسي، كان لابد من تمزيق تلك الأمة ليتمك

نوا من هزيمتها والتسلط عليها. فكانت خدعة الحدود التى تمزق الوطن الواحد لأوطان عدة تكون الحركة بينها بوثائق خاصة للسفر تعطى بناءاً على جنسية وطنية مرتبطة بالحدود المرسومة، لكن تمزيق الأمة و(قولبتها) داخل حدود (سايكس بيكو ) لم يكن ليكتمل دون (قولبة)أخرى لعقول أبناء تلك الأمة، ولذلك ولدت الوطنية، صنعوها لتضييق أفق المسلمين وإيجاد بديل يصرفهم عن وحدتهم التى هى سر قوتهم، فلتتقولب العقول اذا ويضيق افقها وتقطع أحبال الموالاة تحت اسم الوطنية المحمودة الرائعة. هكذا يقبلون تمزقهم و يعتبرونه محمدة لا مذمة، ومنحة لا سلباً.

وهكذا أصبحت حدود (سايكس بيكو) هى مناط مولاة أوصال الأمة، أصبحت حدود العقول قبل أن تصبح حدود الأرض. وهذه هى المشكلة الحقيقية. أصبح تقوقع أوصال الأمة الممزقة داخل حدودها المصنوعة منذ عقود قليلة بيد أعدائها هو الصواب المطلق اذا ما قارناه بوحدتها التى دامت على مدى قرون طويلة، بل أصبح مجرد التفكير فى استعادة تلك الوحدة (خيانة وطنية ) لا يمكن السكوت عليها،ورجعية لا يحتمل مناقشتها.

أما الدعوة لتحرر العقول من تلك (السايكس بيكية) المسماة زورا ب (الوطنية) فتلك هى الجريمة الكبرى والذنب الذى لا يغتفر. ويحنا، متى نخرج من ذلك التيه الذى تاهت عقولنا في دروبه ونتحرر منه؟

شاهد أيضاً

عبد المجيد الزنداني.. حياة حافلة بالعلم والعمل والجهاد

ودع اليمنيون والأمة العربية والإسلامية يوم الإثنين 13 من شوال 1445 للهجرة، الموافق 22 أبريل 2024م علما من أعلام هذه الأمة، وكوكبا من كواكبها، وهاديا من هداتها، ورائدا من روادها، هو الشيخ عبد المجيد بن عزيز الزنداني، العالم العامل، والمجاهد والمربي، والقدوة المعلم، القرآني المحمدي الرباني، صاحب العطاءات الدعوية، والإمدادات التربوية، والجهود التعليمية، والأطوار الجهادية،