لماذا تنجح القومية في كل شعوب العالم؟

Foreign Affairs: مجلة سياسية

ترجمة: سارة المصري.

للقومية سمعة سيئة اليوم، فهي في أذهان العديد من الغربيين المثقفين أيديولوجية خطرة. يعترف البعض بفضائل الوطنية، التي تُفهم باعتبارها عاطفة الفرد الحميدة تجاه وطنه، لكنهم في الوقت ذاته يرون أن القومية ذات أفق ضيق ولا أخلاقية، كما أنها تعزز الولاء الأعمى للدولة أكثر من الالتزام الأعمق بالعدالة والإنسانية. في خطاب له في يناير/كانون الثاني 2019 أمام السلك الدبلوماسي لبلاده، عبّر الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير عن هذا بعبارات صارمة قائلا: “القومية سم أيديولوجي”.

في السنوات الأخيرة، سعى الشعبويون في الغرب إلى عكس هذه الهرمية الأخلاقية، وأكدوا بفخر التزامهم بالقومية، ووعدوا بالدفاع عن مصالح الأغلبية ضد الأقليات المهاجرة والنخب بعيدة المنال. أما نقادهم فيتمسكون في الوقت ذاته بالفصل بين القومية الخبيثة والوطنية النبيلة. وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في نوفمبر/تشرين الثاني الفائت، في إشارة ضمنية للرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي يصف نفسه بالقومي، أن “القومية خيانة للوطنية”.
إن التمييز بين الوطنية والقومية ينسجم مع رأي الباحثين الذين يمايزون بين القومية “المدنية”، التي يعتبر كافة المواطنين بموجبها وبصرف النظر عن خلفياتهم الثقافية أعضاء في الأمة، وبين القومية “الإثنية”، التي تتحدد فيها الهوية الوطنية تبعا للسلالة واللغة. إلا أن الجهود المبذولة لوضع حد فاصل بين الوطنية المدنية الحميدة والقومية الإثنية السيئة تتجاهل الجذور المشتركة لكل منهما. فالوطنية شكل من أشكال القومية؛ إنهما شقيقتان أيديولوجيتان لا بنات عمومة متباعدتان.

في جوهرها، تشترك كل أشكال القومية في الأسس ذاتها: أولا أن أعضاء الأمة، وهم أي مجموعة من المواطنين على قدم المساواة ولهم تاريخ ومصير سياسي مستقبلي مشترك، يجب أن يحكموا الدولة، وثانيا، أن عليهم أثناء القيام بذلك الحرص على مصلحة الأمة. وهو ما يعني أن القومية ترفض الحكم الأجنبي لمن هم أعضاء في أمم أخرى، كما هو الحال في الإمبراطوريات الاستعمارية والعديد من الممالك الأسرية، وكذلك الحكام الذين يتجاهلون وجهات نظر واحتياجات الأغلبية.

خلال القرنين الماضيين، دُمجت القومية في مختلف أنواع الأيديولوجيات السياسية الأخرى؛ فقد ازدهرت القومية الليبرالية في أوروبا وأميركا اللاتينية في القرن التاسع عشر، وانتصرت القومية الفاشية في إيطاليا وألمانيا خلال فترة ما بين الحربين، وحفزت القومية الماركسية الحركات المعادية للاستعمار التي انتشرت في الجنوب العالمي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. واليوم، يقبل الجميع تقريبا، من اليسار واليمين، شرعية المبدأين الرئيسين للقومية. وهو ما يتضح أكثر عند المقارنة بين القومية والمذاهب الأخرى لشرعية الدولة. ففي الأنظمة الثيوقراطية، تحكم الدولة باسم الله، كما في الفاتيكان أو تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش). وفي ممالك الأسر الحاكمة، تملك عائلة ما الدولة وتحكمها، كما هو الحال في المملكة العربية السعودية. وفي الاتحاد السوفيتي، حكمت الدولة باسم فئة البروليتاريا الدولية.

منذ تفتت الاتحاد السوفيتي، أصبح العالم مكونا من الدول الأمم التي تحكمها المبادئ القومية. إن تعريف القومية باعتبارها حكرا على اليمين السياسي يعني إساءة فهم طبيعة القومية وتجاهل مدى عمق تشكيلها لكل الأيديولوجيات السياسية الحديثة تقريبا، بما في ذلك الأيديولوجيات الليبرالية والتقدمية[3]. كما أنها وفرت أساسا أيديولوجيا لمؤسسات مثل الديمقراطية ودولة الرفاه[4] والتعليم العام، وكلها كانت مسوغة تحت اسم شعب موحد يتقاسم شعورا بوجود هدف واحد والتزام مشترك. كانت القومية واحدة من أكبر القوى المحركة التي ساعدت في هزيمة ألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية. وقد حرر القوميون الغالبية العظمى من الإنسانية من براثن السيطرة الاستعمارية الأوروبية.

ليست القومية مشاعر غير عقلانية يمكن محوها من السياسة المعاصرة بالتثقيف المستنير، بل هي أحد المبادئ التأسيسية للعالم الحديث، وهي مقبولة على نطاق واسع أكثر مما يقر به نقادها. فمَن في الولايات المتحدة يقبل أن يحكمه النبلاء الفرنسيون؟ ومن في نيجيريا سيُطالب علنا بعودة البريطانيين؟مع بعض الاستثناءات، كلنا قوميون.

ولادة الأمة
تعد القومية اختراعا حديثا نسبيا. في عام 1750، كانت الإمبراطوريات الواسعة التي تضم العديد من الجنسيات، كالنمساوية والبريطانية والصينية والفرنسية والعثمانية والروسية والإسبانية، تتولى حكم معظم أنحاء العالم. ولكن بعد ذلك، اشتعلت الثورة الأميركية عام 1775، والثورة الفرنسية عام 1789، وانتشر مذهب القومية، الحكم باسم شعب معين، تدريجيا في جميع أنحاء العالم. على مدار القرنين التاليين، تفككت الإمبراطوريات واحدة تلو أخرى إلى عدد من الدول الأمم (الدول القومية). في عام 1900، كان قرابة 35% من سكان الكرة الأرضية محكوما من قِبل دولة قومية؛ وبحلول عام 1950، بلغت النسبة 70%. واليوم، لم يتبق سوى عدد قليل من ممالك الأسر الحاكمة والأنظمة الثيوقراطية.

من أين جاءت القومية ولماذا أصبحت بهذه الشعبية الكبيرة؟ تعود جذور القومية إلى أوروبا الحديثة. حيث كانت السياسة الأوروبية في الفترة الممتدة من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر تقريبا تخوض حربا ضروسا بين الدول مفرطة المركزية والبيروقراطية[5]. بحلول نهاية القرن الثامن عشر، كانت هذه الدول قد حلت محل المؤسسات الأخرى (مثل الكنائس) كمزود رئيسي للسلع العامة داخل أراضيها إلى حد كبير، وألغت أو (ضمت إليها) مراكز القوى المتنافسة، مثل طبقة النبلاء المستقلة. وعززت مركزية السلطة انتشار لغة مشتركة داخل كل دولة، بين طبقة المتعلمين على الأقل، ووفرت مركزا مشتركا لمنظمات المجتمع المدني الناشئة التي أصبحت مشغولة آنذاك بشؤون الدولة.

دفع نظام الدولة الشاملة التنافسي والمثقل بالحروب في أوروبا بالحكام إلى استخلاص المزيد من الضرائب من شعوبهم وتوسعة دور عامة الشعب في الجيش. وهذا بدوره أعطى للمحكومين قدرة على المطالبة بزيادة المشاركة السياسية من حكامهم، والمساواة أمام القانون، وتوفير أفضل للمنافع العامة. في النهاية ظهر ميثاق جديد؛ يتعين فيه على الحكام أن يحكموا وفقا لمصالح الشعب، وإن فعلوا ذلك، فإن الشعب سيدين لهم بالولاء السياسي، والجندية، والضرائب. لقد تجلت القومية على الفور وبررت هذا العقد الجديد؛ فقد اعتبرت أن الحكام والمحكومين ينتمون إلى الأمة نفسها، ومن ثم يشتركون في أصل تاريخي ومصير سياسي مستقبلي، وبالتالي أصبحت مصالح الناس أولوية لدى النخب السياسية على مصالح الدوائر المقربة.

سرعان ما أصبحت الدول القومية الأوائل، فرنسا وهولندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، أقوى من الممالك والإمبراطوريات القديمة. سمحت القومية للحكام بجباية المزيد من الضرائب من المحكومين ووفرت لهم الثقة في الولاء السياسي. ولعل الأهم من ذلك أن الدول القومية أثبتت قدرتها على هزيمة الإمبراطوريات في ساحات المعارك. حيث مكّن التجنيد العسكري الإجباري العالمي، الذي ابتدعته حكومة فرنسا الثورية، الدول القومية من تجنيد جيوش غفيرة كان جنودها مدفوعين بالرغبة في الذود عن أوطانهم الأم. ونجد أنه من عام 1816 إلى 2001، انتصرت الدول القومية في ما بين 70-90% من حروبها مع الإمبراطوريات أو ممالك الأسر الحاكمة.
مع سيطرة الدول القومية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة على النظام الدولي، سعت النخبة الطموحة في كافة أنحاء العالم إلى مضاهاة قوة الغرب الاقتصادية والعسكرية من خلال محاكاة نموذجها السياسي القومي. ولعل المثال الأكثر شهرة هو اليابان، حيث أطاحت مجموعة من النبلاء اليابانيين الشباب في عام 1868 بالأرستقراطية الإقطاعية، وهي القوة المركزية في عهد الإمبراطور، واستهلت برنامجا طموحا لتحويل اليابان إلى دولة قومية صناعية حديثة، وهو تطور يعرف باسم نهضة ميجي[6]. وبعد جيل واحد فقط، تمكن اليابان من التصدي للقوة العسكرية الغربية في شرق آسيا.

لم تنتشر القومية بسبب جاذبيتها في أعين النخب السياسية الطموحة فحسب، بل كانت جذابة في نظر عامة الشعب كذلك، لأن الدولة القومية عرضت علاقة تبادلية مع الحكومة باعتبارها أفضل من أي نموذج سابق؛ فبدلا من ترتيب الحقوق تدريجيا بناء على الوضع الاجتماعي، تعهدت القومية بالمساواة بين كل المواطنين أمام القانون. وعوضا عن جعل القيادة السياسية حكرا على طبقة النبلاء، فتحت باب المهن السياسية للموهوبين من عامة الشعب، كما أنها لم تترك توفير المرافق العامة للنقابات والقرى والمؤسسات الدينية، بل جلبت سلطة الدولة الحديثة لتعزيز الصالح العام. كما أنهت القومية ازدراء النخبة للعامة غير المثقفة، ورفعت مكانة عامة الناس بجعلهم مصدرا جديدا للسيادة وبنقل الثقافة الشعبية إلى مركز الكون الرمزي.

فوائد القومية
في الدول التي تحقق فيها الاتفاق الوطني بين الحكام والمحكومين، أصبح السكان يعرّفون فكرة الأمة بوصفها أسرة ممتدة يدين أفرادها لبعضهم بالولاء والدعم. وبما أن الحكام قد أوفوا بجانبهم من الصفقة، تبنى المواطنون رؤية وطنية للعالم. فمهّد هذا لمجموعة من التطورات الإيجابية الأخرى.

في الوقت ذاته الذي وضعت فيه القومية أسسا تراتبية جديدة للحقوق بين الأعضاء (المواطنين) وغير الأعضاء (الأجانب)، مالت إلى تعزيز المساواة داخل الأمة نفسها

مواقع التواصل

أحدها كان الديمقراطية، التي ازدهرت حيث استطاعت الهوية القومية أن تحل محل الهويات الأخرى، مثل تلك التي تركز على المجتمعات الدينية أو الإثنية أو القبلية. لقد قدمت القومية إجابة للسؤال الكلاسيكي المفصلي عن الديمقراطية: من هم الذين يجب أن تحكم الدولة باسمهم؟ عبر جعل الامتياز حصرا على أعضاء الأمة واستبعاد الأجانب من التصويت، دخلت الديمقراطية والقومية في زيجة دائمة.

في الوقت ذاته الذي وضعت فيه القومية أسسا تراتبية جديدة للحقوق بين الأعضاء (المواطنين) وغير الأعضاء (الأجانب)، مالت إلى تعزيز المساواة داخل الأمة نفسها. ولأن الأيديولوجية القومية ترى أن الناس يمثلون هيئة موحدة دون اختلافات في المكانة، فإنها قد وطدت القيمة المثلى لعصر التنوير وهي أن جميع المواطنين سواسية في نظر القانون. وبكلمات أخرى، دخلت القومية في علاقة تكافلية مع مبدأ المساواة. ففي أوروبا على وجه الخصوص غالبا ما كان الانتقال من حكم الأسرة إلى الدولة القومية يتم بالترافق مع الانتقال إلى شكل تمثيلي من الحكومة وسيادة القانون. وحصرت هذه الديمقراطيات الأولى في البداية الحقوق القانونية والتصويتية الكاملة على مالكي العقارات من الذكور، ولكن بمضي الوقت، امتدت تلك الحقوق لتشمل جميع مواطني الأمة، ففي الولايات المتحدة، كان الحق أولا للرجال البيض الفقراء، ثم للنساء البيضاوات فأصحاب البشرة الملونة.

ساعدت القومية أيضا على تأسيس دول الرفاه الحديثة؛ فقد أدى الشعور بالالتزام المتبادل والمصير السياسي المشترك إلى نشر فكرة أن أعضاء الأمة، حتى الغرباء تماما عن بعضهم بعضا، يجب أن يدعموا بعضهم في أحلك الأوقات. تم تأسيس أول دولة رفاه حديثة في ألمانيا خلال أواخر القرن التاسع عشر بإيعاز من المستشار المحافظ أوتو فون بسمارك، الذي اعتبرها وسيلة لضمان ولاء الطبقة العاملة للأمة الألمانية بدلا من البروليتاريا الدولية. لكن غالبية دول الرفاه في أوروبا كانت قد أُسست بعد فترات من الحماس القومي، معظمها بعد الحرب العالمية الثانية استجابة لنداءات التضامن الوطني في أعقاب المعاناة والتضحية المشتركة.

ولكن كما يعلم أي طالب تاريخ، فإن للقومية جانبها المظلم أيضا. حيث يمكن أن يؤدي الولاء للأمة إلى شيطنة الآخرين، سواء كانوا أجانب أم أقليات محلية يُزعم عدم ولائها. فعلى الصعيد العالمي، زاد صعود القومية من وتيرة الحرب؛ إذ إنه على مدى القرنين الماضيين، ارتبط تأسيس أول منظمة قومية في دولة ما بزيادة الاحتمال السنوي لمعاناة تلك الدولة من حرب شاملة، من نسبة 1.1% إلى 2.5%.

وُلد نحو ثُلث الدول المعاصرة في خضم حرب قومية للاستقلال ضد الجيوش الإمبريالية. كما رافق ولادة دول قومية جديدة بعض من أكثر أحداث التاريخ عنفا للتطهير العرقي، بشكل عام للأقليات التي اعتبرت غير مخلصة للأمة أو اشتبه في تعاونها مع الأعداء. فخلال حربي البلقان التي سبقت الحرب العالمية الأولى، قسمت كلٌّ من بلغاريا واليونان وصربيا المستقلة حديثا الأجزاء الأوروبية من الإمبراطورية العثمانية فيما بينها، وطردت ملايين المسلمين عبر الحدود الجديدة إلى بقية الإمبراطورية. وخلال الحرب العالمية الأولى، انخرطت الحكومة العثمانية في عمليات قتل جماعية للمدنيين الأرمن. وخلال الحرب العالمية الثانية، أدى تحقير هتلر لليهود، الذين ألقى اللوم عليهم لصعود البلشفية، والتي اعتبرها تهديدا للخطط التي وضعها لإنشاء إمبراطورية ألمانية في أوروبا الشرقية، في نهاية المطاف إلى الهولوكوست، وبعد نهاية تلك الحرب، طرد ملايين المدنيين الألمان من دولتي تشيكوسلوفاكيا وبولندا اللتين أعيد بناؤهما. وفي عام 1947، قُتل عدد هائل من الهندوس والمسلمين في عنف طائفي عندما أصبحت الهند وباكستان دولتين مستقلتين.

ربما يكون التطهير العرقي أكثر أشكال العنف القومي فظاعة، لكنه نادر الحدوث نسبيا، في حين أن الأكثر حدوثا هي الحروب الأهلية التي تخوضها إما الأقليات القومية التي ترغب في الانفصال عن دولة قائمة وإما مجموعات عرقية تتنافس على السيطرة على دولة مستقلة حديثا.

شاملة وحصرية
رغم أن القومية تميل إلى العنف، فإن هذا العنف موزع بشكل غير متساوٍ. فقد ظلت العديد من الدول سلمية بعد انتقالها إلى دولة قومية. ولكي نفهم السبب ينبغي التركيز على كيفية صعود الائتلافات الحاكمة وكذلك كيفية رسم حدود الأمة. في بعض الدول، يتم تمثيل الأقليات والأغلبيات في أعلى مستويات الحكومة القومية منذ البداية. حيث قامت سويسرا مثلا بدمج المجموعات الناطقة بالفرنسية والألمانية والإيطالية في ترتيب ثابت لتقاسم السلطة لم يشكك به أحد مطلقا منذ قيام الدولة الحديثة عام 1848. وفي المقابل، يصور الخطاب القومي السويسري المجموعات اللغوية الثلاث باعتبارهم أعضاء على قدم المساواة في الأسرة القومية. ولم تقم أي حركة انفصالية من قبل الأقلية السويسرية الناطقة بالفرنسية أو الإيطالية.

لكن في دول أخرى، استولت النخبة من مجموعة عرقية معينة على الحكم ومنعت المجموعات الأخرى من المشاركة في السلطة السياسية. وهذا لا يحيي شبح التطهير العرقي الذي تنتهجه نخب الدولة المصابة بالبارانويا (جنون الشك/الارتياب) فحسب، بل كذلك الانفصالية أو الحرب الأهلية التي تشنها الجماعات المُقصاة نفسها، التي تشعر أن الدولة تفتقر إلى الشرعية لأنها تنتهك المبدأ القومي للحكم الذاتي. وتقدم سوريا المعاصرة مثالا متطرفا على هذا السيناريو؛ فالرئاسة والحكومة والجيش والمخابرات والمستويات العليا من البيروقراطية يهيمن عليها جميعها “العلويون” الذين يُشكّلون 12% فقط من سكان البلاد. وليس من المستغرب أن العديد من أعضاء الأغلبية العربية السنية في سوريا كانوا على استعداد لخوض حرب طويلة ودموية ضد ما يعتبرونه حكما أجنبيا.

سواء تطور تكوين السلطة في دولة بعينها في اتجاه أكثر شمولية أم حصرية، فهي مسألة تاريخية، تمتد جذورها إلى ما قبل صعود الدولة القومية الحديثة. حيث تميل الائتلافات الحاكمة الشاملة، وكذلك القومية الشاملة، إلى الظهور في الدول ذات التاريخ الطويل من المركزية والبيروقراطية. واليوم، هذه الدول أكثر قدرة على تزويد مواطنيها بالسلع العامة. وهو ما يجعلها أكثر جاذبية بوصفها شريكا في التحالف مع المواطنين العاديين، الذين يحولون ولاءهم السياسي بعيدا عن الزعماء الإثنيين والدينيين والقبليين باتجاه الدولة، مما يسمح لظهور تحالفات سياسية أكثر تنوعا. ويشجع تاريخ طويل من الدولة المركزية أيضا على تبني لغة مشتركة، مما يجعل من السهل بناء تحالفات سياسية عبر الانقسامات العرقية. وأخيرا، في البلدان التي تطور فيها المجتمع المدني مبكرا نسبيا (كما حدث في سويسرا)، كان من المرجح ظهور تحالفات متعددة الأعراق لتعزيز المصالح المشتركة، مما أدى في النهاية إلى نخب حاكمة متعددة الأعراق وهويات وطنية أكثر شمولا.

الأفغان أصبح لديهم نظرة أكثر إيجابية عن عنف طالبان بعد أن رعى الأجانب مشاريع السلع العامة في مناطقهم

رويترز

بناء قومية أفضل
لسوء الحظ، تعني هذه الجذور التاريخية العميقة أنه من الصعب، خاصة للأجانب، الترويج للتحالفات الحاكمة الشاملة في البلدان التي تفتقر إلى الظروف اللازمة لظهورها، كما هو الحال في أجزاء كثيرة من العالم النامي. ويمكن للحكومات الغربية والمؤسسات الدولية، مثل البنك الدولي، المساعدة في تهيئة هذه الظروف باتباع سياسات طويلة المدى تزيد من قدرة الحكومات على توفير السلع العامة، وتشجيع ازدهار منظمات المجتمع المدني، وكذلك تشجيع التكامل اللغوي. لكن هذه السياسات يجب أن تقوي الدول، لا أن تقوضها أو تسعى إلى القيام بمهامها. إذ يمكن للمساعدة الأجنبية المباشرة أن تقلل، لا أن تعزز، من شرعية الحكومات القومية. حيث يُظهِر تحليل الدراسات الاستقصائية التي أجرتها مؤسسة آسيا في أفغانستان من عام 2006 إلى عام 2015 أن الأفغان أصبح لديهم نظرة أكثر إيجابية عن عنف طالبان بعد أن رعى الأجانب مشاريع السلع العامة في مناطقهم.

تعد مشكلة تعزيز التحالفات الحاكمة الشاملة والهويات القومية، في الولايات المتحدة والعديد من الديمقراطيات القديمة الأخرى، مختلفة في نوعها. فقد تركت قطاعات الطبقة العاملة البيضاء في هذه البلدان أحزاب يسار الوسط بعد أن بدأت تلك الأحزاب في الترحيب بالهجرة والتجارة الحرة. كما تشعر الطبقات العاملة البيضاء بالاستياء من تهميشها الثقافي من قبل النخب الليبرالية، التي تدافع عن التنوع في حين تقدّم البيض وغير المثليين والرجال بوصفهم أعداء للتقدم. وتجد الطبقات العاملة البيضاء أن القومية الشعوبية جذابة لأنها تعد بإعطاء الأولوية لمصالحها، وحمايتها من منافسة المهاجرين أو العمال ذوي الأجور المنخفضة القادمين من الخارج، وكذلك استعادة مكانتهم المركزية والكريمة في الثقافة القومية. لم يكن على الشعبويين أن يخترعوا فكرة اهتمام الدولة في المقام الأول بالأعضاء الأساسيين في الأمة؛ لقد كان الأمر دوما متأصلا بعمق في النسيج المؤسسي للدولة القومية، جاهز للتفعيل بمجرد زيادة جمهوره المحتمل بدرجة كافية.
إن التغلب على عزلة هؤلاء المواطنين واستيائهم يتطلب حلولا ثقافية واقتصادية. يجب على الحكومات الغربية تطوير مشاريع السلع العامة التي تعود بالنفع على الناس من كافة الألوان والمناطق والخلفيات الطبقية، وبالتالي تجنب التصور السام عن المحسوبية العرقية أو السياسية. إن طمأنة الطبقة العاملة والسكان المهمشين اقتصاديا، أن بوسعهم أيضا الاعتماد على تضامن إخوتهم من المواطنين الأكثر ثراء وتنافسية، قد يساهم بدرجة كبيرة في التقليل من جاذبية الشعبوية القائمة على الكراهية ومناهضة الهجرة. وعلى هذا الأمر أن يسير جنبا إلى جنب مع شكل جديد من القومية الشاملة. في الولايات المتحدة، اقترح الليبراليون مثل المؤرخ الفكري مارك ليلا والمحافظون المعتدلون مثل العالم السياسي فرانسيس فوكوياما مؤخرا كيف يمكن بناء مثل هذه الرواية القومية؛ وهو من خلال استيعاب الأقليات والأغلبيات على حد سواء، والتأكيد على مصالحهم المشتركة بدلا من تحريض الرجال البيض ضد تحالفات الأقليات، كما يحدث اليوم على يد التقدميين والقوميين الشعبويين على حد سواء.

في كل من العالم المتقدم والنامي، ستبقى القومية قائمة. فلا يوجد حاليا أي مبدأ آخر يقوم عليه نظام الدولة العالمية. (الكوزموبوليتانية لا وجود لها خارج أقسام الفلسفة بالجامعات الغربية). وليس من الواضح ما إذا كانت المؤسسات عبر الوطنية مثل الاتحاد الأوروبي ستتمكن من تولي المهام الأساسية للحكومات القومية، بما في ذلك الرفاهية والدفاع، والتي ستتيح لهم باكتساب الشرعية الشعبية.

يكمن التحدي القائم أمام الدول القومية القديمة والحديثة في تجديد العقد القومي بين الحكام والمحكومين ببناء أو إعادة بناء الائتلافات الشاملة التي تربط الاثنين. تنبع الأشكال الحميدة من القومية الشعبية من الإدماج السياسي؛ وهو ما لا يمكن فرضه من خلال المراقبة الأيديولوجية من الأعلى، ولا من خلال محاولة تثقيف المواطنين حول ما ينبغي اعتباره مصالحهم الحقيقية. ليتم تعزيز أشكال أفضل من القومية، يتعين على القادة أن يصبحوا هم أنفسهم قوميين أفضل، وأن يتعلموا رعاية مصالح جميع مواطنيهم.

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.